كفى تشكيكاً بحضارتنا

أجل ، لنا ثقافتنا العربية المميزة ..وكفى تشكيكاً بحضارتنا

عبد المعين الملوحي :

هولاكو لازال حياً في بعض الأقطار العربية

حجب جائزة نوبل

عن الأدب العربي دليل على تأثير السياسة في الأدب

 

الموقف العربي ـ لبنان ـ العدد 157 التاريخ 17/10/1983

                      المحاور : المجلة

ولد المفكر والشاعر السوري عبد المعين الملوحي بحمص سنة 1917 وحصل على ليسانس في الآداب من جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن ) عام 1945 ، وقد تتلمذ في القاهرة على أهم أساتذة الأدب العربي ، من أساتذته كان د. طه حسين ، ود. أحمد أمين .

عمل بالتدريس لفترة ، ثم تولى ، في بلاده سوريا ، عدة مسؤوليات ثقافية آخرها ، منصب مستشار ثقافي بالقصر الجمهوري .

وليس هناك ما يقدم به هذا الرائد الكبير ، لأكثر من مجال من مجالات الفكر العربي ، غير أبيات من آخر قصائده :

ولم يرني الإمساء أرقد خاليا

ولم يرني الإصباح أنهض صاحيا

ولم ينسني لهو الحياة مشاغلي

ولم ينسني جد الحياة الملاهيـــا

تولى شبابي مشرق الوجه زاهيا

وأقبل شيبي كالح الوجه  زاهيــا

سقيت الصبايا ماء حبي وصبوتي

وجف ، فهل يقبلن ماء حنانيـــا

وقالوا سئمت العيش . قلت : أحبـه

ولو كنت في كوخ من القش ثاويا

أصوغ أحاسيسي وأشدو قصائدي

وأقرأ في ضوء النجوم كتابيـــا

وأرسل صوتي في الفلاة مدويـــا

و …..

آثرنا أن يودع صوته صفحات ” الموقف العربي ” فبدأ حديثه حول سمات ثقافتنا العربية ..

ـ أجل لنا ثقافتنا العربية المميزة ، وكفى تشكيكنا في حضارتنا ، لنا ثقافة تتسم بالتاريخية والقدم والتواصل رغم ما اعتورها ، على مر خمسة عشر قرناً ونكسات خرجت منها سليمة ظافرة منذ البداية تفتحت ثقافتنا على ثقافات شعوب العالم القديم ، كما تزداد ألقاً وسعة في اتصالها بالثقافات الحديثة شرقية وغربية ، دون أن تنسى أصالتها ، رغم المحاولات الشعوبية لفصلها عن ماضيها ، ولجرها إلى ثقافة أجنبية معينة .

وتتسم مصادر ثقافتنا العربية بالرسوخ وثبات الدعائم ، ومن أهم هذه المصادر : القرآن الكريم الذي قل أن تجد عربياً لا يحفظ منه شيئاً ، واللغة العربية التي يحار الفكر في جمالها وسعتها وعمقها وقدرتها على استيعاب تطور الحضارة الإنسانية ، ونماذج البطولة والشجاعة والكرم والحرية التي يحفل بها تاريخنا، والشعر العربي .. ديوان العرب ، الذي استوعب خطرات الفكر وخلجات الضمير ونوازع القلب والنفس ، ثم الأدب العربي الواسع في مختلف عصوره ، لا سيما في كتب الأدباء العظام كابن المقفع في ” كليلة ودمنة ” والجاحظ في ” البيان والتبيين ” و “الحيوان ” ، وابن العميد والهمذاني في مقاماته . لكل هذا ، فثقافتنا العربية قادرة على احتواء مختلف الإنجازات الحضارية في العصر الحديث دون أن تحتوى ، رغم اللحظة التاريخية الحرجة .

* مادام لثقافتنا العربية تلك الخصائص ، وذلك الرسوخ ، أليس لنا أن نسأل عن أثرها في تطور الحضارة الإنسانية في العصر الحديث ؟

ـ لاحظت أني ، في حديثي عن الثقافة العربية ، أتناول الناحية الفكرية والعقائدية والأدبية ، وأترك الحديث عن الوجه الآخر للثقافة ، وهو وجه الحضارة المادية ، وأنا في ذلك أفعل ما يفعل كثير من الباحثين في التمييز بين وجهين للحضارة ، هما وجهها الثقافي ووجهها المدني ، ولا سيما في الفلسفة الألمانية ، فإذا انتقلنا إلى الوجه الحضاري الآخر وجدنا هذا الوجه يكاد يكون واحداً متشابهاً في جميع أقطار الأرض ، على اختلاف في الدرجة ، فالحضارة الحديثة ، بمخترعاتها ومكتشفاتها وصناعتها وزراعتها وعلومها ، تزحم حياة الشعوب وتضغط عليها ضغطاً يكاد يكون متساوياً .

* يفهم من هذا أنّ لحضارتنا العربية الآن وجهاً واحداً ؟

ـ لذا فأنا أطالب بكل إصرار ، بالأخذ بأسباب الحضارة الحديثة بكل ما فيها من علم ورقي وتقدم ، فقد ارتقت حضارة الإنسان ، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ارتقاء بلغ أكثر من 90% من ارتقائها خلال عمر الإنسان الطويل على ظهر الأرض ، بل أنا أطالب بأكثر من هذا ، لا بالأخذ وحده ، والاقتباس وحده ، بل بالمشاركة الكاملة في إبداع الحضارة .

من البديهي أنّ المشاركة في إبداع الحضارة الحديثة سوف تخط دروبها ومسالكها في الثقافة العربية الحديثة ، كما أنّ الثقافة  العربية ستؤثر بدورها في أنماط الحضارة المادية ، فليس في العالم كله شيء منفصل عن شيء ، والثقافة الفكرية والحضارة المادية يتبادلان التأثير ، فينتصر هذا الجانب مرة ويطفو على السطح ، وينفذ ذلك الجانب تارة أخرى ويحتل الساحة . أعتقد أنّ في هذا التبادل وذلك الامتزاج ، وفي هذه الحركة الجدلية بين وجهي الثقافة الخير كل الخير لأمتنا العربية وللإنسانية جمعاء .

* متى يمكن أن يحدث هذا ؟

ـ حين لا تقتصر الثقافة العربية ، في تطلعاتها للمستقبل ، على عناصرها القديمة ، ولا على عناصرها الجديدة ، حين تجمع العناصر كلها في وحدة متناسقة ، لكي تصبح ثقافة عالمية حقيقية تجمع أفضل ما في ماضيها المجيد ، وأحسن ما في حياتها الجديدة .

الاقتصار على العناصر الأولى يفصل ثقافتنا العربية عن الحياة ، والاقتصار على العناصر الأخيرة يجتثها من جذور أصالتها ، ويفرض عليها التبعية والسطحية.

* لكننا ، بالتأكيد نلاحظ عدم توحد الجهود ، من أجل تطوير حضارتنا العربية ، بين مختلف الدول العربية ، أيضاً ليس هناك منهج محدد على مستوى الدول العربية و ..

ـ هذا صحيح ، لكن ما دامت العناصر الأساسية في الثقافة العربية واحدة ، وما دامت الثقافات المختلفة الواردة إلى الوطن العربي عنصراً من هذه العناصر فلا بد أن تنصهر جميعاً في ثقافة عربية ، مع العلم أننا نرحب بكل الثقافات الواردة .

وتبقى مسألة زمن يتيح لنا أن نعي فيه أنفسنا وعياً كاملاً .

هولاكو لازال حياً !

* هل يمكن لأجهزة التوصيل الحديثة أن تلعب دوراً في اختصار هذا الزمن؟

ـ ما يزال الكتاب أداة التوصيل الثقافية الأولى ، رغم مزاحمة وسائل التوصيل الأخرى له ، ويجب أن يعطى لهذا الكتاب الحرية الكاملة في الوصول إلى الأقطار العربية كلها ، خاصة الكتاب الثقافي والتراثي واللغوي .

لكن الأوضاع الراهنة في البلاد العربية تمنع وصول الكتاب بمختلف أشكاله إلى كثير من هذه البلاد، بل إنّ بعض هذه البلاد تقيم محارق تتلف فيها كل كتاب عربي ورد من بلد عربي مخالف لها في سياسته ، فتذكرنا بأعمال هولاكو في بغداد ومحاكم التفتيش في الأندلس ، ولا يقتصر الحق على الكتب السياسية ، بل يشمل حتى الكتب الأدبية والتراثية والدوواين والمجلات الثقافية الخالصة . وبعض هذه البلاد يجعل من الكتب سلعة اقتصادية ، فلا يصدره إلاّ تحت شروط مادية قاسية .

يجب أن يعاد النظر في هذه التصرفات الخرقاء ، وأن يكون الكتاب حراً في تنقله بين الأقطار العربية حرية الهواء في التنقل في أجواء الفضاء .

* أليس هناك دور ما للإذاعة المسموعة ، والإذاعة المرئية ، في هذا الصدد؟

ـ يمكن أن تساهم في عملية توحد الثقافة بإذاعة برامج على النطاق العربي عن طريق الأقمار الاصطناعية والبث المشترك ، وليس ذلك عسيراً بعد المخترعات والاكتشافات الحديثة .

وهكذا يطلع الإنسان العربي في كل مكان على ما تنتجه المطابع وما تبدعه القرائح والعقول في كل قطر عربي ، فتتقارب العقول والقلوب .

* أعتقد أنّ تقدم وسائل الاتصال أدى ، رغم كل شيء ، إلى سهولة حركة الفكر العربي عبر مختلف أوطاننا العربية .

ـ أذكر أننا في الثلاثينات والأربعينات كنا نقرأ في بعض المجلات العربية التي تضم أدب أكثر الأقطار العربية كمجلة ” الرسالة ” في القاهرة ومجلة “الحديث ” في حلب ، أما الآن وبعد التشرذم ، في الدول العربية ، فقد أصبحنا غير قادرين حتى على الإطلاع على الفكر والأدب في الأقطار العربية المجاورة لنا .

إنّ هذا التشرذم وذلك التمزق ، لا يساعدان في توحيد الثقافة في الوطن العربي ، بل يساعدان في زيادة تمزقها وتبعثرها ، ونحن نتساءل الآن في جدية وعزم : إلى متى يستمر هذا التمزق ؟ أما آن لنا بعد كل هذه الكوارث والنكبات التي حلت بنا أن نميز بين الشعوب ومصالحها وبين الحكام ومصالحهم ؟

أذكر أنّ صاحب دار نشر في بلد عربي ، زارني في طلب مخطوطات للنشر ، ولما عرضت عليه مخطوطات تتناول آداب شرقي آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية أنكر اهتمامه بهذه الآداب ، وطالب بمخطوطات تتناول الأدب الفرنسي أو الإنكليزي أو الأميركي أو الألماني على أبعد تقدير .

لقد زال إلى حد بعيد كابوس الاستعمار السياسي المباشر عن كثير من البلاد العربية ، ولكن كابوس الاستعمار الفكري والثقافي ما يزال مستمراً ، بل هو يزداد عنفاً وحِدة في بعض هذه البلاد .

وأسارع إلى القول مستدركاً : إنّ هذه الاختلافات الموجودة شكلية بالدرجة الأولى وليست اختلافات حقيقية عميقة ـ كما يبدو لنا الآن ـ ذلك لأنّ المصادر الأساسية للثقافة العربية واحدة دائمة لا تتأثر بالاختلافات الظاهرية . كما لا يتأثر البحر بالأمواج المتلاطمة على سطحه .

* أين تقع آدابنا بين الآداب العالمية المعاصرة . هل يمكن مقارنتها بتلك الآداب وليدة نضال الشعوب كالأدب الصيني أو الفيتنامي ؟

ـ لكل شعوب العالم ثقافاتها وآدابها المتميزة ، تستوي في ذلك الشعوب الكبيرة والشعوب الصغيرة، الشعوب القوية والشعوب المستضعفة ، وهي في آدابها تعبر به عن حياتها وتطلعاتها وآمالها وآلامها .

في المحاضرة التي ألقيتها عن السياسي والمفكر والأديب والشاعر الفيتنامي ” نغوين تري ” قلت أنّه كما تنتصب الجبال شامخة ، وتجري الأنهار دافقة ، وتنبت الأشجار سامقة ، وتتفتح الأزهار يانعة ، في بقاع أرضنا الطيبة ، كذلك ينتصب الأبطال وينبت الفلاسفة والكتاب والشعراء في شعوب هذه الأرض .

لكل شعب أبطاله وفلاسفته وشعراؤه ، يتساوى في ذلك الشعب الكبير والشعب الصغير .

والأدب الذي تبدعه هذه الشعوب لا يتعلق ما فيه من إبداع وجمال بوفرة عددها وسعة أراضيها ، فكم رأينا من شعب كثير العدد أنتج أدباً متواضعاً ، وكم رأينا من شعب قليل العدد أنتج أدباً راقياً . وأدبنا العربي مثله مثل آداب الشعوب ، كان تعبيراً عن حياتنا وآلامنا إلى حد بعيد ، وهو يحتل مكانه المتميز بين آداب الشعوب .

لست أريد التبجح والمغالاة ، فأدبنا القديم أدب رفيع المستوى وشعرنا العربي لا يكاد يعادله شعر ، أما أدبنا الحديث فيشق طريقه قدماً ليحتل مكانته بين آداب الأمم ، وشعرنا الحديث ، رغم ما تنتابه من صراعات ، يكاد يبلغ المستوى اللائق في الشعر العالمي  .

ولا شك أن لكل أدب ميزاته الخاصة ونكهته الذاتية ، و لا يجوز ، في أية حال ، أن نقيس آداب الأمم بمقياس واحد لأنّ لكل أمة ظروفها .

فالأدب الفيتنامي يتميز إلى حد بعيد بروح البطولة والنضال وطلب الحرية ، ولعل هذا ما دعاني إلى ترجمته في أربعة مجلدات تبلغ حوالي 3000 صفحة ليكون درساً لنا نحن أبناء الأمة العربية على العموم ، وأبناء فلسطين على الخصوص في نضالنا ضد الاستعمار والصهيونية ، ولست أغالي إن قلت : إني قلّ أن وجدت له نظيراً في سائر آداب العالم .

ويتميز الأدب الصيني ، وقد ترجمت قسماً غير قليل منه في مجلدين ، بروحه الإنسانية وشفافيته وعمقه في آن واحد ..

* وماذا عن أدبنا العربي الحديث ؟

ـ أيضاً يتميز أدبنا العربي الحديث بروحه النضالية وحبه للحرية ، ولا سيما بعد كارثة فلسطين ، وهو يجاهد للوصول إلى المستوى العالمي ، وليس بعيداً أن يصل إلى هذا المستوى في وقت قريب .

لكن وضع الأمة العربية المتخلف وتمزقها الذميم يحولان ، حتى الآن ، دون تبوء الأدب العربي مكانته اللائقة بين آداب الأمم .

إنّ الأدب ، شأنه شأن سائر وجوه الحياة ، يتأثر إلى حد بعيد بالسياسة ، ونفوذ الدول ، والهيمنة على شؤون العالم .

وحجب جائزة ” نوبل ” في الآداب عن الوطن العربي ، حتى الآن ، ظاهرة واضحة لتأثير السياسة في الأدب وفي منح جوائزه ، ومنح هذه الجائزة مناصفة بين ” أنور السادات ” الذي خان أمته العربية وشعبه المصري ، وبين “بيغن” جزار فلسطين ومجرم الحرب دليل آخر على تأثر العلم والأدب بالسياسة . وأعتقد أنّ الأمة العربية حين تتخلص من تخلفها وتمزقها وتبني كيانها القومي قادرة على أن تعطي أدبها دفعة رائعة ليصبح أدباً عالمياً .

* هل يمكن أن نقارن تطور لغة الأدب العربي ، في أواخر القرن التاسع عشر ، ثم طوال القرن العشرين ، والذي كانت وسائل التوصل الحديثة مثل الصحافة ، من أهم عوامله ، بتطور اللغة العربية في القرن الرابع وأوائل الخامس الهجري ؟

ـ اللغة كائن حي متطور مثل سائر الكائنات الحية ، لقد شهدت لغتنا العربية تطورها الأول عند بداية الرسالة المحمدية العظيمة ، واستمرت في التطور في العهد الأموي حين دونت الدواوين ، وفي العصر العباسي حين ترجمت الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية ، وفي القرن الرابع والخامس الهجريين، في هذا العصر العباسي نفسه حين هضمت تلك الفلسفات وشرعت تعطي عطاءها الذاتي ، وما تزال اللغة العربية تتطور بتطور الحياة متأثرة بوسائل التوصيل الحديثة .

ولا بد من ذكر ملاحظة في هذا المجال ، هي أنّ القرآن الكريم يضع ضوابط لهذا التطور ، حتى لا تضيع اللغة العربية ، كما ضاعت اللغتان اليونانية والرومانية . إنّه هو الذي حال دون تبددها وضياعها خلال الغزوات والنكبات المخيفة التي هزت العالم العربي طوال قرون . إنّه هو الذي يمسك بها ويحرسها . وأقرب مثال لنا في حراسته لها والإمساك بها ما حدث في الجزائر حين تكالبت على لغتنا كلاب الاستعمار.

أنا مع اللغة العربية أولاً ، ومع تطورها الدائب ثانياً ، شريطة أن تبقى لغة عربية ، وألا تمزق إلى لهجات عامية محلية ، كما يحاول الاستعمار وأعوانه أن يفعلوا .

صراع حضاري

* لك رأي خاص في الصراع العربي ـ ” الإسرائيلي ”  يتلخص في أنّه صراع حضاري ، بأي مستوى يمكن الحكم على الصهاينة بأنّهم متحضرون بعد سلوكهم في لبنان .. خاصة بعد مذابح صبرا وشاتيلا ؟‍

ـ أرجو  ان لا نقع في حلبة ” المزايدة ” في هذا الموضوع على حساب مستقبل أمتنا العربية .

أذكر أني قلت أنّ الصراع العربي ـ ” الإسرائيلي ” صراع حضاري عام 1943 أو حوله ، عندما كنت في زيارة رفاقي في مدينة من مدن فلسطين لا ضرورة لذكر اسمها ، هناك شهدت مظاهرة قامت احتجاجاً على رغبة الحكومة البريطانية آنذاك في إدخال الكهرباء إلى المدينة ، ورأيت عجوزاً يقف على الأنقاض، فسألته عن سبب المظاهرة ، فقص عليّ السبب ، فقلت له في دهشة : وما ضرر الكهرباء ؟‍ قال بالحرف الواحد : ” سيدخلون الكهرباء أولاً ، ثم يقيمون دوراً للسينما ثانياً ، ثم يدخل إليها الرجال ثم النساء ، ثم الرجال والنساء ، فماذا يحدث لدين محمد ؟‍ وشعرت ألاّ فائدة في الحديث مع هذا الرجل العجوز المتحجر . وفي اليوم الثاني ذهبت مع رفاقي إلى مستعمرة يهودية فوجدت الأبقار تحلب بالكهرباء . وعندما اجتمعت برفاقي ليلاً ، وكانوا أكثر من سبعين فلسطينياً عربياً ، قلت لهم بالحرف الواحد : إنّ نتيجة صراعكم مع اليهود معروفة . إنّ حضارة القرن الثاني لا تقاوم حضارة القرن العشرين بل الواحد والعشرين .

وقد نشرت تلك الواقعة في مقال في الخمسينات تحت عنوان ” أعداء ألداء للماء والكهرباء ” ولا من يسمع ولا من يتعظ .

أما فيما يتعلق بالحكم على الصهاينة بعد مذابح صبرا وشاتيلا فما يزال على ما كان . أغلب الدول المتحضرة تمارس الحرية والديموقراطية في بلادها إلى حد بعيد أو قريب وتمارس الوحشية والهمجية في مستعمراتها إلى حد بعيد لا يمكن تصوره . و ” إسرائيل ” في ممارساتها في لبنان وفلسطين اتبعت الأسلوب نفسه . وذنبها في الجرائم التي ارتكبتها في لبنان تتحمله الحكومات العربية معها ، فقد وقفت هذه الدول أو أكثرها موقف المتفرج من هذه المذابح وتركت الفدائيين الفلسطينيين وحدهم يذبحون ويقتلون ، ويقتلون ويذبحون . ليس الجزار وحده مجرماً ولكن المجرم أيضاً هو من يدفع الضحية إلى مد عنقها ليذبحها الجزار.

أعود فأقول : أرجو أن لا نقع في حلبة ” المزايدة ” في هذا الموضوع على حساب أمتنا العربية ومستقبلها .

* ما توقعك لنتيجة الصراع العربي ـ الصهيوني بناء على تقديرك لجملة العوامل الثقافية والحضارية السائدة بين طرفي الصراع ؟

ـ هذا سؤال خطير وخطر ، لا أدري إلى أين تصل نتائج الإجابة عليه بمجلة عربية قادرة على نشره وعلى تحمل نتائجه ؟‍ أما من جهتي فلن أكون محابياً ولا مدلساً . مهما كانت النتائج  لقد بلغت من العمر عتيا .. بلغت ستاً وستين عاماً . وقمت سلفاً برثاء نفسي في قصيدتي ” عبد المعين الملوحي يرثي نفسه ” .

مقارنة خطيرة .. وظاهرتان صحيتان :

* بالتأكيد هناك ، بين المحيط والخليج ، صفحة بيضاء يمكن أن ننشر بها ما نعتقد .

ـ سيستمر التفوق الصهيوني على العرب ، أمداً لا أستطيع تحديده في الزمان ، وإن كنت أستطيع تحديده في الأسباب ، وسيستمر احتلال الصهاينة لأجزاء أخرى من الوطن العربي ، ما دامت أسباب هذا التفوق قائمة ، ما دامت الأمة العربية ممزقة متفرقة ، يحارب بعضها بعضاً حرباً حقيقية بالحديد والنار أو حرباً كلامية ونفسية بالإذاعات والخطابات .

ما دامت الجيوش العربية تهمها حراسة الأنظمة ، وحماية الحكام لا حماية الأمة العربية وتحرير فلسطين .

مادام بعض الحكام العرب يسلمون بلادهم لحماية “إسرائيل ” ويضعونها تحت تصرفها ، ويخرجونها من جبهة التحرير كما فعل السادات في إخراج مصر وجيشها ، مؤقتاً ، من ميدان النضال .

ما دام بعض العرب يقاتلون الأصدقاء ويتركون الأعداء ويخرجون جيشاً ثانياً باسلاً من المعركة .

ما دام بعض الحكام العرب ما يزالون يرون في الولايات المتحدة حامية لهم أولاً ، ومنقذة لهم من أنياب “إسرائيل” ثانياً .

مادامت الشعوب العربية لغواً لا تشترك في تقرير مصيرها ، متخلفة يفتك بها الجهل والمرض والجوع .

لنقم معاً بإحصائية بسيطة :

ـ ما عدد العرب الذين قتلهم العرب ؟

ـ ما عدد الفلسطينيين الذين قتلهم العرب ؟

ـ ما عدد الفلسطينيين الذين قتلهم الفلسطينيون ؟

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى :

ـ ما عدد العرب الذين قتلهم اليهود ؟

ـ ما عدد الفلسطينيين الذين قتلهم اليهود ؟

هاتات الإحصائيتان وحدهما تنطقان بنتيجة الصراع مادامت هذه الأسباب قائمة .

ولكني غير متشائم ..

تبدو في الوطن العربي علامات صحو مميزة تعيد إلينا ثقتنا بأنفسنا ، وفي مقدمة هذه العلامات ثورة الجزائر ، التي انتصرت على فرنسا بعد احتلال استمر أكثر من مئة وثلاثين سنة .

والعلامة الثانية الهامة هي ظهور حركة التحرير الفلسطينية كقوة عسكرية ضاربة ، رغم ما تعانيه الآن ، ويا للأسف ، من صراعات .

هاتان الظاهرتان الصحيتان سوف تتلوهما ظواهر صحية أخرى تعم الوطن العربي كله . لا شك أنّ المخاض .. مخاض الأمة العربية عسير وطويل ، ولكن الولادة آتية دون شك ، ونرجو أن تكون الولادة سليمة على قدر ما كان المخاض عسيراً ، وعندئذ ستحل ساعة حساب ” إسرائيل ” على كل ما ارتكبت من جرائم .

لن تبقى ” إسرائيل ” ورماً خطيراً في جسد الأمة العربية ، ولسوف تباد كما بادت جحافل التتار والصليبيين ذات يوم ، أرجو ألاّ يكون بعيداً .

لقيت في زيارتي للقاهرة عام 1970 سائق سيارة لم أجد مثله في ذكائه وتقديره للأمور . كانت ” إسرائيل ” قد أنزلت قواتها في مطار بيروت ونسفت بضع طائرات لبنانية وعادت قواتها إلى قواعدها سالمة .. لم تطلق عليها رصاصة واحدة، سألني السائق في جد :

ـ ما عدد سكان لبنان ؟

ـ ثلاثة ملايين.

ـ وما عدد سكان ” إسرائيل ” ؟

ـ ثلاثة ملايين .

قال وهو يتنهد :

ـ من المفروض أن يستطيع لبنان وحده الانتصار على ” إسرائيل ” وهو في مثل عددها ، بل من المفروض أن تنتصر كل دولة عربية على “إسرائيل” وحدها .

وسكت ولم أجد رداً .

والمتابع للأحداث اللبنانية خلال السنوات الأخيرة يعرف أنّ الضحايا في لبنان بلغ 60 ـ 70 ألف ضحية ، وما يزال الرقم في ازدياد ، ولو أنّ هذه الضحايا قدمت في حرب على ” إسرائيل” ولم تقدم في قتل العرب للعرب ، في حرب لبنان لانتهت أسطورة “إسرائيل “بكل ما فيها من كوابيس وكوارث ، ولكن بأسنا بيننا شديد، وبأسنا على أعدائنا لا يتعدى حدود التهديد والوعيد .

والمتابع للحرب العراقية ـ الإيرانية يلمس لمس اليد نتائج الحرب القذرة على إيران والعراق في وقت واحد ، ولو أنّ الجيش العراقي الباسل أبدى فنونه في الشجاعة والقتال الضاري ، في حرب “إسرائيل” ما أبداه في حربه لإيران لانتهت أسطورة “إسرائيل”

إنّ داء الأمة العربية معروف جداً ، وما علينا إلاّ أن نقدم الدواء الشافي .

إنّ الدعامة الأولى التي تبنى عليها “إسرائيل” سياستها العدوانية ـ كما صرح كبار قادتها ـ هي تمزق الأمة العربية والخلافات بين دولها ، فمتى تنهار هذه الدعامة بوحدة الأمة العربية واتفاق دولها ؟!

معرفة العدو شرط لقهره

* ألا يساعدنا تحليل ودراسة الأدب ومختلف الفنون الصهيونية على فهم تركيبة هذا الكيان المعادي؟

ـ بدأت في الآونة الأخيرة مرحلة الاهتمام بأدب “إسرائيل” وفنونها وتكوينها السياسي وأحزابها والتيارات الاجتماعية فيها .

وقد ظهرت دراسات جيدة موضوعية ، في “مركز الأبحاث الفلسطيني” التي سرقت “إسرائيل” كتبه ووثائقه . وكان الخطأ خطأنا لأننا لم ننقل هذه المصادر والوثائق قبل رحيل المحاربين بالبندقية ، لأننا بتلك الوثائق والمصادر كنا نحارب بالكلمة . قال لي أحد الأصدقاء أنّ ” إسرائيل” تحتفظ في خزائنها بإضبارة كاملة للكتاب والشعراء العرب ، ومن واجبنا أن نفعل نحن ذلك .

إنّ معرفة العدو تزيد من قدرتنا في التغلب عليه ، على شرط أن لا نكتفي بالمعرفة .

* إلى أي مرحلة ، في تصورك ، وصل الغزو الثقافي الصهيوني للعقل العربي . كيف نصد هذا الغزو على مستوى الدول ، وعلى مستوى الأمة العربية ؟

ـ لا غزو ولا تأثير للثقافة الصهيونية في العقل العربي ، إنّها ثقافة غريبة عنا ، وصدها ، إذا غزت بعض العقول ، في بعض الدول العربية ، هو في تعزيز ثقافتنا ورفع مستواها .

لا يستطيع الطحلب أن يعيش في الصحراء المحرقة .

* قد يسأل القارئ : ماذا قدمت للمكتبة العربية ؟ وهو محق لصعوبة انتقال الكتاب من دولة لأخرى في وطننا العربي ..

ـ قدمت حتى الآن خمسين كتاباً للمكتبة العربية ، تدور حول محاور كثيرة أهمها : التراث العربي ـ الأدب الذاتي ـ الشعر ( عشرون ديواناً ) ـ الترجمات ـ البحث والتأليف .

وعندي الآن في مكتبتي 200 كتاب آمل أن أراها ، رغم سني ، مطبوعة في حياتي . ما أزال أريد أن أعيش وأن أكتب وأن اقدم شيئاً من دم قلبي إلى أمتي .

أرأيت أن الشيوخ مايزالون يحبون الحياة والعمل ؟!

اعداء الماء والكهرباء

في فلسطين

 

أعداء ألداء للماء والكهرباء

 

منذ سنوات معدودات مررت بمدينة (الخليل) في فلسطين، كان لي فيها صديق، وقال لي: تعال انظر إلى بلدي، إنه بلد رجعي اسود وقلت له: لا بأس يزور المرء ويرى، ومضينا إلى الخليل، فإذا البلد قائم قاعد، المظاهرات تعمه من أقصاه إلى أقصاه والجنود المسلحون يملأون جوانبه وزواياه، والدماء في الشوارع تترك آثارها الغزيرة وسألنا الناس هنالك ما بال الناس؟ أتراهم يحتجون على وعد بلفور أو على مشروع التقسيم عام (1936)؟ أم تراهم يريدون جلاء الإنكليز وطرد اليهود؟ وقالوا لنا: الأمر أشد من ذاك وأدهى: قلنا: ماذا إذن: قالوا لا نريد الكهرباء.

وظننت أنهم يمزحون: كيف لا يريدون الكهربا، أفي العالم إنسان واحد لا يريد أن يتمتع بنعم الحضارة ومن أولى هذه النعم نعمة الكهرباء.

وقال لي شيخ هنالك عجوز لم يبق بينه وبين قبره غير خطوة واحدة:

نعم يا سيدي لا نريد الكهرباء، هل صرنا كفارا حتى نرضى بها: كلا فنحن والحمد لله مسلمون، الكفار يريدون أن يدخلوا الكهرباء أولا إلى مدينة خليل الرحمن التي ما تزال بعيدة عن رجسهم وتأتي السينما بعد ذلك ثانيا ويدخلها الرجال وحدهم ثالثا، ثم يدخلها النساء وحدهن رابعا، ثم يدخلها الرجال والنساء معا خامسا، ويا ويلنا إن حدث ذلك… لو حدث ذلك لرأيت هذه القبة تتصدع ثم تهوى على رؤوسنا، أفهمت الآن أن الكهرباء من حيل الشيطان.

وسكت العجوز وسكت يستحيل أن تفهم من لا يفهم، يستحيل أن توسع عقلا ضيقا متحجرا، ونظرت قليلا إلى اليمين، كانت المدينة تمتد كبيرة كثيرة العدد، تكاد تبلغ ثلاثين ألفا من السكان أو أربعين ألفا وتكاد تكون مظلمة وهناك في مستعمرة يهودية صغيرة كانت البقرات – نعم البقرات تحلب بوساطة الكهرباء.

إنه حقا أمر عجيب، لا نجد علمه إلا عند أمثال هذا العجوز في العمر وعند أمثاله في العقل.

ومسألة أخرى مثل هذه المسألة تجري في حمص في عام (1956).

لا نريد المسبح… المسبح يأتينا بالرجال وحدهم أولا، ثم بالنساء وحدهن ثانيا، ثم بالرجال والنساء معا ثالثا… فالأفضل أن نمنع المسبح رأسا.

ليست قضية المسبح غير قضية رياضية محضة، قضية تقوية أحجام الشباب قضية حفظ أرواح  هؤلاء الشباب الذي تبتلعهم مياه النهر أو مياه الساقية واحدا بعد واحد… تلك هي القضية لا يمكن أن تطرح على بساط البحث إلا على هذا الأساس وحده.

لقد عدت هذا العام إلى الخليل أزورها فرأيت الكهرباء تشع فيها كأنها الشموس، ورأيت الشيوخ في مسجد إبراهيم الخليل يقرؤون القرآن على ضوء مصابيح الكهرباء.

لم تفسد الكهرباء أخلاق أهل الخليل ولم يدخل الشيطان إلى قلوبهم ونفوسهم وعما قليل سأرى في حمص المسبح، وسوف أرى أجسادا قوية وعضلات مفتولة في جانب، وسأرى وجوها صفرا ولحما كثيفا في جانب آخر.

فأوقفوها إن استطعتم، أيها الخائفون من الماء والكهرباء.

إعلان مجاني

لم أعش طويلا حتى أدرك كيف عشت؟ ولماذا أموت؟

أنا في الخامسة والعشرين من عمري، ولم افهم حتى الآن معنى الحياة، فكيف أفهم معنى الموت؟ الأمور تجري في وضوح عجيب: كأني أحدق في بقعة من حائط تضيئها شمس الظهيرة… ليس في عروقي دم… كل ما تعطيه الزجاجة من دم أرده فوراً أو أرد أكثر منه… فأغرق في دمي… كان أعضاء متناثرة… كان ذكراً… رأيته ولمسته… أخرجوه من غرفتي…. ألقوه في القمامة، أو في مرحاض المستشفى… وهانذا أسير وراءه… دمي يفر مني فراراً إنه يتقاطر حزناً عليه. الممرضات يكتمن عني أخباري، والطبيب يضحك علي: غداً أو بعد غد تغادرين المستشفى… وأنا أعي كل شيء… عبثاً تقول للميت أنه سوف يعيش، فهو أكثر إحساساً منك بأنه سوف يموت…الكأس تفرغ من الماء والجسد يفرغ من الدم… لعل الطبيب أديب، يقول لي غدا أو بعد غد سأغادر المستشفى… لقد تعلمت ذات يوم أن في مثل هذا الكلام نوعاً من البديع يسمى (التورية) سأغادر المستشفى، ذلك صحيح، ولكنه لم يقل إلى أين؟… لقد ترك المقبرة أو البيت وراء حجاب… بل لعل ذلك ما يسمى (أسلوب الحكيم) أرجو ألا يغضب أستاذ العربية من جهلي… رآني منذ أيام: كنت حبلى… وعرف أني حبلى…. استقرت عيناه قليلاً على بطني… ثم التفت مذعوراً… ولم يقل لي شيئاً…. ومد إلي يده كما يمدها إلى قديس… كما كان يمدها لي حين كنت طفلة في المدرسة:

–             أنت هنا منذ سنة ولم تزرنا في البيت أنا مشتاقة إليك…

–             … حافظي على صحتك..سأزورك عما قريب…

كانت أني مريضة… واضطررت إلى (الشغل) كثيراً

لم يفهم…. بل فهم…. وقال:

–             الشغل لا ينتهي… صحتك الزم…. مع السلامة.

ومر كأنه لا يعلم… ما أحلى أيام المدرسة يوم كنت تلميذته النجيبة… إني مشتاقة إليه… أريد أن يضم يدي الباردتين مثل صقيع الشتاء بين يديه الدافئتين مثل الرغيف الذي كانت تخرجه أمي من التنور.

كانت لنا ضيعة… وكنا سعداء… وكنا فلاحين… بعنا كل ما نملك ونزلنا إلى مدينة كبيرة… ثم غادرنا المدينة الكبيرة إلى مدينة أكبر… إلى العاصمة… ونحن هنا منذ خمس سنين….

بحثت أولا عن عمل فوجدت عملا يكاد يسد رمق الأسرة… وزاد المصروف، وتصاعد مستوى المعيشة…. ومرضت العجوز وظلت تحن إلى قريتها… وبدأت الغربان تنعق في بيتي، والذؤبان تزور غرفتي…. وسقطت…. لست نادمة على شيء…وأنا أموت في خدر عميق…. كأني أنام….

لقد أجهضت مرات… ثمرات غير ناضجات تساقطت واحدة بعد واحدة… ماذا تصنع الفتاة الصبية القروية في المدينة الكبيرة… لقد بهرت عينيها أنوار (النيون) بدل نور الشمس واستعاضت عن غذاء الروح بغذاء الجسد، واستبدلت بامتلاء القلب امتلاء البطن… النوم يسرع إلى… من أين تأتي والدتي بأكفاني ونفقات دفني…؟ ما أظن أن واحدا ممن كانوا يشترونني، وأنا صبية جميلة حية، يشتريني، وأنا دمية جميلة ميتة، بقرش واحد.

بعد أيام نشرت إحدى الصحف الإعلان الآتي ضمن إطار:

(ماتت مأسوفا على شبابها الريان الآنسة غادة….

فلأهلها الصبر ولها الرحمة)

ولا ندري حتى الآن من هو صاحب هذا الإعلان.

يوميات الأيام

من دمشق .. إلى حمص..!
هكذا قضينا عمرنا في الوظيفة … وهكذا سوف ننتهي

لو كان الناس لا يسكنون إلا البلد الذي يعجبهم
لسكن الناس جميعاً دمشق ولأقـفرت الأرض
كلها من أهلها ..
” عبد المعين ”
وبعد سبعة أشهر أعود إليك يا بلدي الصغير حاملاً إليك ما أخذته منك :
منضدة صغيرة تكاد تسجد بما تراكم فوقها من كتب ودفاتر ، وثلاثة كراسي لم يوضع واحد منها أمام المنضدة لأن الغرفة تضيق بهما معاً في آن واحد ، فحقهما أن يلتصقا بالحائط ، وسريراً من حديد تضحك عليه الأرض كلما ادعت نوابضه المخلعة أنها على الأرض ، وأريكة ما تزال في عز شبابها تلمع وتفتخر لأن صاحبها لا يكاد يلقي بكل ثقله عليها من حرصه عليها ، وبساطاً زاهي الألوان صنعته من خرق ثيابها وثيابنا العتيقة عجوز دارنا ، وأعانتها عليه عجائز حارتنا ، ومذياعاً يذكر أيام اختراع المذياع ، أعجزه الركض وراء المحطات فأقسم ألا يسمعك إلا دمشق ، شريطة أن تقبض بإحدى يديك على شريطه الهوائي ، وإلا فقد ضاعت الأخبار .
وستقولين ، يا حمص : دعك من هذه المبالغات ، أ فليست لديك أشياء أخرى أكثر قيمة ؟ وأقول لك : بل عندي بيت يغص بما فيه من أثاث ولكن الزوجة الصالحة المقتصدة اختارت تلك الأشياء الخربة التي لا تخشى عليها أن يزيدها السفر خراباً ..
وأحمل إليك يا حمص مع هذا الأثاث قلباً أخضر ، لم تستطع الأيام ، رغم ما فيها من مصائب ومصاعب أن تطوح ورقة واحدة من أزهاره ، ولا أن تحرق نجمة واحدة من أعشابه .
بعد سبعة أشهر
وبعد سبعة اشهر يا دمشق أغادرك وأحمل منك ما أعطيتنيه : كتباً جديـدة ، هدايا الأصدقاء الأدباء ، وعلى كل حرف منها شيء من نور عيني ، يلمع في ثنايا الخطوط السود ، وينساب في سجل على الحواشي من ملاحظات .
وذكريات قديمة لأصدقاء قدماء سقيت غرس مودتهم مرة أخرى فأورق أيما إيراق .
ووجوهاً حلوة لأصدقاء جدد بذرت بذور حبهم الفتي في قلبي العتيق المجرب ، فكاد يعود إليه شبابه وترف عليه أغصانه .
وتجارب مكرورة في حياة الوظيفة وفي معاملة الناس ، أنا عليها غير حريص ، فما أبقت لنا تجاربنا الماضية شيئاً لا نعرفه فنحرص على معرفته ، ولا شيئاً نعرفه فنزهى بمعرفته .
وأحمل منك بعد هذا وذاك كميات كبرى من دخان المازوت يتغلغل في ثنايا رئتي وأحتاج إلى ألف جلسة على الميماس أعب فيها رياح حمص ، لتستطيع غسلها ، وضجة مخيفة تعشش في ثنايا رأسي وأحتاج إلى ألف جلسة هادئة على جنبات الوعر لتستطيع انتزاعها .
قال لي صديق : ونحن في المهاجرين نطل على ما بقي من الغوطة :
– ألم تعجبك دمشق فذهبت إلى حمص ..
قلت : بلى ، لقد أعجبتني ، ولكن لو كان الناس لا يسكنون إلا البلد الذي يعجبهم ، لسكن الناس جميعاً دمشق ولأقفرت الأرض كلها من أهلها ..
وقالت لي صديقة ، ونحن على شرفة منزلها في القصاع ، وقاسيون يتلألأ أمام عيوننا : ألم نعجبك
قلت : بلى ، لقد أعجبتني ، ولكن لو كان الناس لا يحبون إلا أحلى النساء ، لما قام على الأرض كلها إلاّ بيت واحد لأسرة واحدة ، أنت وحدك ربة هذا البيت .
كان الليل ساجياً ، والهواء لا يتحرك ، والحر يخنق الأنفاس ، والنجوم في السماء تكاد تحتــرق ، ثم لا يجد هواء يحمله إلي فيحمل أحلى شذى لأجمل شعر .
عمرنا في الوظيفة
وتذكرت أولئك الأصدقاء الذين ينتظرونني في حمص فكدت أغص ، إنني اليوم أودع أصدقاء سيظلون ينتظرونني في دمشق وكدت أغص .
نحن في هذه الحياة قدر من الطاقة قليل أو كثير ، ننفقه هنا وهناك ، قطرات من الدم نسفحها هنا وهناك ، نور عين ينطفئ هنا وهناك ، ثم نمضي فلا طاقة ، ولا دم ، ولا نور .. هكذا قدر علينا أن نوزع حياتنا ، طير جريح يطير وجراحه تنزف قطرة بعد قطرة ودرب من الدماء تخطه جراحه على الأرض لا ينتهي إلا حين يصبح الطير الجريح جسداً هامداً في التراب .
هكذا قضينا عمرنا في الوظيفة وهكذا سوف ننتهي .
في مثل هذا الشهر منذ سنتين غادرت سيارة سوداء دمشق في طريقها إلى حمص ، كان في هذه السيارة أخي الكبير أنيس أبو سعيد مسجى في تابوته ، بقي موظفاً في دمشق ثلاثين عاماً أو تزيد ولما أراد أن يستريح عاد ليجد قبره في حمص يفتح له ذراعيه مرحباً به .
وبعد ستة أشهر غادرت سيارة سوداء دمشق في طريقها إلى حمص ، كان في هذه السيارة ابن عمي رشيد أبو معاذ ، عاش في دمشق يعمل في الصحف الوطنية أربعين عاماً ، ولما أراد أن يستريح عاد ليجد قبره في حمص يفتح له ذراعيه مرحباً به .فما أحسن أن أعود إلى حمص وأنا أسير على أقدامـي ، وأنتم تقيمون لي حفلة وداع .. وسأجد هنالك أماً تفتح لي ذراعيها ، وبيتاً تصطفق أبوابه فرحاً بعودتي ، وسأجد هنالك أيضاً قبر امرأة كانت كل شيء في قلبي ، ذبلت عليه أزاهيره التي وضعتها يوم العيد ، فهو ينتظر عودتي لأضع عليه أزاهير غضة جديدة .
ألف ذكرى
يا أصدقائي :
أترك دمشق ، وفي قلبي ألف ذكرى طيبة عنكم ، لقد غمرتموني باللطف والعطف والمودة ، لقد اتسع قلب المدينة الكبيرة فآوى قلب هذا الإنسان المشرد حتى وهو بين أهله وولده ، وفي بلده ، فأنا أحمل لكم كل ما يحمله الأخ لأخيه من حب وشوق .
أترك دمشق ، وفي قلبي مثل ما في قلب آدم حين ترك الجنة التي كان فيها سعيداً وهبط إلى الأرض التي صار فيها يشقى ، الظاهر أننا نحن أبناء الحياة لا نزال نحمل في أعماقنا خطيئة أبينا وأمنا الأولى ، نحن لا نحب أن نجد السعادة في جنة لم نصنعها بأيدينا ، ونحب أن نحارب الشقاء في أرض نحن نصنعها بأيدينا .
أترك دمشق ، وقد أنفقت في شهورها السبعة الأخيرة كل ما أستطيع ، لم أدخر جهداً ولا ضننت بسعي .. لقد عملت كل ما يمكن ليستقطب المركز الحركة الفكرية والأدبية والثقافية في هذا البلد ، والحق أن قد اجتمع حول المركز يدعمه ويؤازره غير قليل من صفوة الأدباء والشعراء والمثقفين والمفكرين ، وكنت بهم سعيداً .
كنت آخذ بيد المبتدئ وأشجعه ، وأصادق الند وأسانده ، وأقتبس من الكبير وأنتفع به ، كنت دائماً مستعداً وفي تواضع حقيقي للاعتراف بكل ذي موهبة ، وتقدير كل صاحب أدب ، واحترام كل ذي تفكير وثقافة .
والعمل الثقافي يقتضي فيما يقتضي أن لا تكون ثقافتنا معرفة محضة ولا علماً صرفاً ، بل أن تكون كذلك سلوكاً أخلاقياً ، وأول السلوك الأخلاقي فيمن يتولى العمل الثقافي أن يحترم الناس ، ويفهم ما في ثقافة الناس من تنوع وتلوين واتجاهات .
إن تفتح الكفاءات والمواهب فرحة كبيرة تغمر نفوسنا ، وتجعل أملنا في مستقبل شعبنا أكثر نوراً .

واجبي أن أكرمكم
أيها الأخوان :
أعتقد أن إخواني من موظفي المركز الثقافي العربي بدمشق ، ومن أعضاء ندوة الفكر والفن ، ومن أصدقائي في جمعية الأدباء ، حين تفضلوا مشكورين فأقاموا لأخيهم حفلة الوداع هذه ، إنما نظروا إلى قول أبي الطيب حين قال :
أنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال
فلم أبلغ أنا مرتبة صنع المليح حتى أكرم ، وأرجو أن أكون قد بلغت مرتبة ترك القبيح ، وكان أولى بي أن أكرمهم : فقد تفضلوا علي في المركز فآزروني وساعدوني ، كان الموظفون يعملون في مركزهم ،كأنهم يبنون بيوتهم ، وكانت ندوة الفكر تمد إلى المركز يد الفن الأصيل والفكر النير ، فيتألق على مسرحه المتواضع ، وكانت جمعية الأدباء تنثر على جيد المركز أحلى عقودها يقدمها إليه أكبر أدبائها .
إذن فقد كان من واجبي أن أكرمكم جميعاً وأن أكرم معكم هؤلاء الأخوان والأخوات الذين كانوا يملؤون المركز فهماً ووعياً وذكاء ، والذين اعتمد المركز عليهم ، في كل ما قام به من نشاط . ولئن فاتني تكريمكم فلا أقل من أن أقوم بشكركم من أعماق قلبي .
أرجو بمعونتكم جميعاً أن يتابع المركز الثقافي في دمشق عمله ، وأن يرتفع مستواه ، وأرجو أن أستطيع في حمص أداء واجبي كما أديته في دمشق .
إننا نحن نأتي ونروح ، نعين وننقل ، ونحيا ونموت ، أما الوطن أما شرف العمل ، أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ويبقى ويعيش

الشعراء الذين رثوا انفسهم قبل الموت

مقدمة الكاتب :
عندما كنت في الصين وأصبت بجلطة في الدماغ وشلل في الشق الأيسر وأشرف على الموت بدأت بقصيدتي في رثاء نفسي ومطلعها :
تمنيت يابنَ الريبِ لو بِتّ ليلة (بجنب الغضا تزجي القلاص النواجيا )
وأمنيتي لو بتُ في حمصَ ليلةً فأسبح في العاصي وألقي لداتيا

وبعد عودتي إلى دمشق منَّ الله علي بالشفاء فأتممت القصيدة وتكرم الأخ الأستا مدحة عكاش صاحب مجلة الثقافة فنشرها على حسابه الخاص عام 1984
وخلال سنوات مرضي ثم شفائي بحمد الله زاد اهتمامي بالشعراء الذين رثوا أنفسهم قبل الموت , وبدأت أجمع أشعارهم المتناشرة في بطون كتب التراث العربي ، وفي دواوينهم إن كانت لهم دواوين فتجمعت لدي قصائد غير قليلة لشعراء كان بعضهم مشهورا ، وكان بعضهم مغمورا فرغبت في جمع هذه القصائد في كتاب واحد ،خدمة للتراث العربي وتيسيرا للقارئ العربي المهتم بتراث أجداده.

 

لتحميل الكتاب والقراءة أونلاين انقر هنا

دفاع عن أبي العلاء المعري

مقدمة المؤلف :

شغلني في المعري أمران
أولهما ماحاق به من ظلم حين زعم كثير من القدماء والمحدثين أنه كان ملحدا وليس بملحد .
وثانيهما مالحق به من إخمال شاعريته . فقد اشتغل كل من كتب عنه بحياته وفلسفته وإلحاده وذكائه , وقل من تحدث عن روحه الشعرية وفنه

هذان الأمران اللذان شغلاني طوال صحبتي للمعري هما اللذان أعالجهما في هذا الكتاب

لقراة الكتاب أونلاين او تحميله انقر هنا 

أرجوذة الأحفاد وقصر يلدز

القصيدة المجنونة
قصر يلدز
بين الحلم الحلو والواقع المر
تمهيد :
لي في حمص غرفة واحدة سميتها تفاؤلاً أو جنوناً ” قصر يلدز ” جئتها كعادتي في كل عام – من دمشق لأقضي وحيداً أياماً في بلدي وبين أحبابي وإخواني ، وفي طريقي في السيارة غفوت قليلاً – خمس دقائق أو أقل – وبدأت بنظم قصيدة أمدح بها ” قصر يلدز ” وأصفه كما تراءى لي في أحلامي . فلما صحوت وجئت الغرفة وجدتها تعيث فيها الجرذان ، وتطفو فيها الأقذار ، وقد أكلت الجرذان أشعاري وقرضت ثيابي ، وقضمت أقلامي ، فحولت القصيدة من مدح إلى هجاء ومن حلم حلو خصيب إلى واقع مر جديب ، وأنهيتها بتأملات في الحياة كما أوحاها إلي ” قصر يلدز ” أولاً ثم غرفتي النكراء ثانياً . وإليكم القصيدة ، وهي في مخطوط ديواني ص 827 :
 
المشهد الأول :
إذا لم تقم في «حمص»في قصر «يلدز»

وقد كانتِ الدنيا عروساً  بهيَّـــــةً

ويبرز وجه الأرض للعين  واسعـــاً

عددنا له تسعاً وتسعين   قاعـــــةً

كستْها يدُ الفنان ظهراً و باطنـــــاً
له روضةٌ غناءُ تزهو بحسنهـــــا

وماستْ بها الأشجارُ تسمو غُصونُهــا

ومن تحتها الأنهارُ تجري مياههـــا

وتلقى بها الشلالُ حيناً معربـــــداً

وقلتُ لهُ : ـ والحِقدُ يأكل قلبَــــه ـ

ونافورةٌ أعيا الأساةَ زفيرُهــــــا
 
وتسبحُ فيها الفاتناتُ  عشيــــــةً
وتسقي مروجاً، كالزُّمُرُّدِ خضــرةً ،

وأزهارُها من كلِّ لونٍ  تجمّعـــتْ

فمن أبيضٍ بالحبّ والقربِ بشــــرا

إذا هبتِ الأنسام تستافُ عطرَهــــا

تغني القيان الغيدُ في جنباتــــــه

وتسعى به الغلمانُ من كل أمـــــة

وتشدو به الأطيارُ جذلى  قريــــرةً

إذا هبطتْ أرضاً لتنقرَ  حبــــــةً

له شرفاتٌ سامقاتٌ  تبرَّجَــــــتْ

فودَّ وداداً لو يفوزُ  ببعضهــــــا

ومكتبةٌ طالتْ وغَصّت  رفوفُهــــا
له مطبخٌ بالخير ضاقتْ رحابُــــه

إذا ما اشتكتْ بعضُ البلاد مجاعـــةً

وحفَّتْ به الأجنادُ من كلّ جانـــبٍ

يكاد يضيء الليلَ وهجُ سلاحـِــــه

وأقبل جنكيزٌ يقود جيوشَـــــــه

وأقبل أوناسيسُ يشكو خصاصـــةً

فراح سعيداً شاكراً حسنَ نجدتـــي

وجاءتنيَ الضيفانُ شرقاً ومغربــــاً

إذا جاءَ صبحاً معشرٌ ثم معشــــرٌ

وزارت فراشي الضخم “مونرو صديقتي”

وقلت لها : – والليلُ يُرخي سدولـَـه –

إذا ابتسمتْ فالكونُ يمطر  لــؤلــؤاً

وبتنا – وابليسٌ يموت بغيظـــــهِ –

جلست على عرشي أراقب راحمـــاً

وأرسلتُ طرفي في مرابع ”  يلــدزٍ ”

وأدركني ربي بواسعِ عطفــــــه


قضيت َالليالي نادما ًمتحســـرا

فصارت بهِ أبهى وأروعَ منظــرا

فلما تعالى القصرُ أصبح  أكبـــرا

وعَددّها ” الحاسوبُ ” أوفى و  أوفرا

صفائح ألواناً ، رخاماً ومرمـــرا

إذا سار فيها الطرفُ أعيا و أقصـرا

إلى النجمِ بعد النجمِ شامخةَ الـذرى

فنشربُها خَمراً وشهداً وكوثـــرا

وحيناً على كف الرياحِ  مبعثـــرا

ألستَ تَمَلُّ العيشَ فينا مزمجــرا ؟

ترى الماءَ فيها صاعداً متحـــدرا

فكُنَّ مِنَ الأسماك أبهى وأمهــرا(2)

تحيلُ القلوبَ السودَ روضاً منــوِّرا

كأنّ لها عرساً تباهي به الــوَرى

ومن أحمر بالصدِّ والبعدِ أنـــذرا

تضوعتِ الأنسامُ مسكاً وعنبـــرا

فلا تشتكي الأسماعُ لحناً مكـــررا

فأسودَ غربيباً وأبيضَ  أشقــــرا

بعيشً أبتْ لذّاتُه أن  تُكَـــــدَّرا

سمت في سماء اللهِ شَبعى لتشكــرا

رآها ” مكالٌ ” شاردَ اللب أحسـرا(3)

لتغدو قصورُ الغرب أبهى وأنضـرا

بكتبٍ فكادَ الرفِّ يغدو مفكــــرا

ففيه ترى لحماً ورزاً و سكــــرا

كفاها فعاد العيشُ ريانَ أخضـــرا

إذا ما مشى الجنديُّ فيه تبختـــرا

وإن كانَ هذا الليلُ أسودَ أغبـــرا

فلما رآهم طارَ ذعراً و أدبــــرا

فأعطيته ما شاء نقداً وجوهـــرا(4)

وما كنتُ أعطي كي أثابَ و أشكـرا

فأكرمتهم في ” قصر يلدز ”  أشهـرا

أُودّعُ عصراً معشراً ثم معشـــرا

فقلت لها : أهلاً وسهلاً مُعَطـــرا

حنانَك ، هذا الوجه بالصبح  أسفـرا

وإن ضحكتْ أضحى كماناً و مِزهرا

فلا تسألوني بعد ذلك ما جـرى …

على البؤسِ والحرمانِ كسرى وقيصرا

فكدت – معاذَ الله ِ- أن أَتَجَبّـــرا

وأبرزَ لي قصري من الكوخِ   أحقرا

 
المشهد الثاني :
صحبتُ جنوني ساعةً ثم عاد  لـــي

وكل امرئ فيه من الجن  طائــــفٌ

وقد يجدُ المحرومُ في الوهم سلـــوةً

ولولا جنون الناس لم يرتقوا السما

خيالٌ تراءى في منامي مُجنّحــــاً

ونادى ألا أَسْرِعْ لكوخِك،إنــــه

وألفيتني في غرفتي متفــــــرّداً

وقد فاضتِ الأقدارُ حولي فليتنــــي

ومن حوليَ الجرذانُ تبدي  نيوبَهـــا

تُمزقُ أثوابي وتذرو قصائـــــدي

وقال كبيرُ القومِ – وهو يروزُنـــي –


أيزعمُ هذا أنهُ كانَ  شاعــــــراً

إذا صار جرذونُ المجارير  شاعـراً

ولما رآني لا أطيقُ  تحركــــــاً

تطاولَ عدواناً وأبدى مخالبــــــاً

إذا صحتُ ولّى مُدبراً ثم  عاد لـــي

وأنقذني زين الرفاق مــــن  الأذى

ولولا الوداد المحضُ لم يكُ  منقــذي
إذا حُرم الإنسانُ قلباً يحبـّــــــه

صوابي وكان الحلمُ بالشيخ أجــدرا

تَعَوَّدَ أن يخفى زماناً ويظهــــرا

إذا عيشه في الواقع الحيِّ أقفـــرا

ولانصبوا في هامة النجمِ  منبــرا

فلما دنا نور الصباحِ  تقهقــــرا

تَعيث به الجرذانُ عَيْثاً مُدَمـِـــرا

وعظمي على الأرضِ العراءِ  تكسَّرا

عشيتُ ولم أنظر بعينيّ منظـــرا(6)

لتقضمَ شيخاً يابس الجلد أصفـــرا

وتتركُ أقلامي هشيماً  مبعثــــرا

ويقرأ شعري ساخطاً  مُتَذَمـّـــرا

وقد كنتُ أرقى منه ذوقاً و أشعــرا

فقد طاب وردُ الموت أسودَ – أحمرا(

ولم يخشَ لي بأساً ولم يخشَ منكرا

وحَدّدَ أنياباً وأقبل  منــــــذرا

– إذا لم أصحْ – مستنوفِزا مُتَنَمِّــرا

وأنجد إنساناً هوى وتعثـــــرا(8)

ولم ينصرِ المشلولَ نصراً مــؤزّرا

وصحباً كراماً عاشَ أجذمَ ابتـــرا

المشهد الثالث : عظة الأيام
 
تساقطتِ الأحلام تترى  كانّهـــــا

وأسفرَ لي وجهُ الحقيقةِ مرعبـــــاً

برانيَ ربي مذ براني مُعَتّـــَـــراً

وما كان علمي غيرَ قوقعةٍ طفــــتْ

وما كان قلبي غيرَ ماءِ غمامـــــةٍ

قضيتُ حياتي جاهلاً  متحيـــــراً

وحسبي من الدنيا رغيفٌ وغرفــــةٌ

إذا سمع الإنسانُ صوتَ   ضميـــره


سرابٌ زها مرأى وأجدب  مخبــرا

وقال : تصَبّرْ إن أطقتَ تصبـــرا

وأحمدُ ربي أنْ براني  معتــــرا

ضباباً إذا اشتد النهارُ تبخـــــرا

إذا مَسَّه ريحُ الشمالِ  تحجــــرا

وأمضي لقبري جاهلاً متحيــــرا

تَضُمُّ – على ضيقٍ – كتاباً و دفتـرا

تواضعَ فاستعلى وأغضى  فأبصرا(9)

 
المشهد الرابع : خاتمة المطاف
كاية قصر كان قصراً  ممــــرّداً

إذا زرتَ بعدَ اليوم أطلالَ ” يلـــدزٍ ”

وياقصر قد قصرت في صون صحبتي

سَأَجْزيكَ بعدَ المدحِ ذَمّاً وسُبَّـــــةً

 

فأصبح كوخاً عابسَ الوجهِ  أكــدرا

قضيت الليالي خاشعاً  متفكــــرا

وما كنتَ قبل اليوم عنــدي  مُقَصِّرا

فتعساً لِمنْ خانَ الهوى وتَغَيَّــــرا
حمص : يوم الأربعاء 27 / 9 1989

الهوامش :
(1)   الحاسوب الكومبيوتر
(2)   الزهر الأبيض للحبيب السعيد ، والزهر الأحمر للحبيب الشقي
(3)   ميكال : هو ميكال أنجلو الفنان الإيطالي المشهور
(4)   الغربيب : الشديد السواد
(5)   أوناسيس : الثري اليوناني الكبير
(6)   مونرو : هي مارلين مونرو ، ملكة الإغراء في العالم
(7)   الشطر الثاني مقتبس من شطر لامرئ القيس

 

عبد المعين الملوحي يرثي نفسه

الإهداء

إلى مالك بن الريب الذي رثى نفسه ، وهو يموت في خراسان بعيداً عن أهله وأرضه بقصيدته المشهورة :

ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة

بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا

عبد المعين

 

تمنيتَ يا بن الرَّيبِ لو بتَّ  ليلـــــةً

( بجنب الغَضا تُزْجي القلاصَ النواجِيــا )(1)

وأمنيتي لو بتُّ في حمص ليلــــــةً

فأسبح في العاصي وألقى لداتيــــــا

كلانا تهاوى حلمه ، لم ترَ  الغضــــا

ولا أنا في الميماس  ألقي  رحاليـــــا

أمانٍ أضلتنا طويلاً و أقلـعــــــت

وكانت أضاليل الرجال  الأمانيــــــا

سَرابٌ يغرُّ الركب حران صاديـــــاً

ويغمر بالماءِ الغرور الصَّحَارِيــــــا

*      *       *

1

 

لماذا أرثي نفسي

 

إذا كان شِعري ، كل شِعري  مراثيـــاً

فما لي بنفسي لا أعد  رِثائِيــــــــا

ونفسي أولى أن تكون قصيــــــدةً

تسيل قوافيها نشاوى  دَوامِيــــــــا

وأقسى المآسي أنني بت  راثيــــــاً

حياتي ، وما زالت  تمورُ  دمائيــــــا

أقول لأصحابي : كفاكم ملامــــــة

( على نفسه فليبك من كان باكيـــــا )(2)

عكفت على شعري أرودُ فِجاجـــــه

فلم أرَ في الدِّيوان إلاّ  المراثيـــــــا

وأشباحَ أفراح إذا رنَّ  عودهــــــا

تقطعت الأوتار فارتد  ناعيــــــــا

*      *        *

 

2

حياتي

آ – الشباب

رشفتُ شبابي قطرةً بعد قطــــــرةٍ

وشبت فلم يعتبْ عليّ شبابيــــــــا

وَردْتُ الثغور الظامئات  مناهـــــلاً

وطفت الصّدور الناهدات مجانيــــــا

تهيم بهن الروح روحاً فإن  طغــــتْ

وأَذكتْ دمي أطفأت في الجسم ناريــــا

إذا الحبُّ أرضى الرُّوح والقلـــبَ أوَّلاً

تسامى فأرضى الجسم والدَّم  ثانيـــــا

وقد تذبل الأرواح يحرمن قبلــــــةً

كما تذبل الأزهار يحرمن ساقيــــــا

ولم يَرَني الإمساءُ أَرْقُدُ  خاليــــــا

ولم يرني الإصباحُ أنهضُ صاحيـــــا

ولم ينسني لهوُ الحياةِ مشاغلــــــي

ولم يُنسني جِدُّ الحياة الملاهيـــــــا

ويعجَبُ منّي الليل تصحو  نجومــــه

وتَغفو تراني دارساً ثم لاهيـــــــا

وخيرُ السَّجايا أن توزع  منصفـــــاً

حياتك : شطريها حليماً و غاويــــــا

عَشِقت شبابي صُغت فيه مدائحــــي

فلما تولى صُغتُ فيه أهاجيــــــــا

تروقُ العناقيدُ الثعالبَ حلـــــــوةً

ويشتمنها إِن كنَّ عَنْها نوائِيــــــــا

*         *        *

 

ب – الكهولة

 

تولى شبابي مُشرقَ الوَجْه زاهيـــــاً

وأقبل شَيبي كالح الوجهِ  كابيـــــــا

 

ركبتُ المعاصي موجةً ثم موجـــــةً

وأقعدني دائي فعِفتُ المعاصيـــــــا

سقيتُ الصّبايا ماء حبي وصبوتــــي

وجفَّ ، فهل يقبلن ماءَ حنانيـــــــا ؟

 

 

وطوَّفتُ في الآفاق أقبس نورهـــــا

فضاقت بي الآفاق  كالنحل ساعيـــــا

ويَمَّمتُ أرض الصّين أشدو   تُراثهـــا

ومن لغتي أهدي لها وتُراثيــــــــا

فلم تسع الأرضُ الرَّحيبةُ  هِمَّتـــــي

فكانت أفانينُ السقام  جزائيــــــــا

وقد زودتني في رحيلي هـــــراوة

كأن لست ألقي في دمشق هراويــــــا(3)

وعُدتُ إلى داري أجرُّ على الـــعصى

تواليَ أشلائي وأحمل  دائِيــــــــا

كذلك حظي ، إن طلبتُ  سعـــــادةً

بأرضٍ سعى قبلي إليها شقائيـــــــا

إذا لم يقِ الله الفتى بحنانــــــــهِ

ورحمته لم يلقَ في الناس  واقيــــــا

*        *        *

 

جـ – الشيخوخة

 

وقالوا : ” سئمت العيش ” قلت : أحبــه

ولو كنت في كوخ من القش  ثاويـــــا

أصوغ أحاسيسي وأشدو قصائــــدي

وأقرأ في ضوء النجوم  كتابيـــــــا

وأرسل صوتي في الفلاة  مدوّيـــــاً

وأضحك وحدي في دجى الليل هاذيــــا

أحب حياتي ، وهي كالصاب مــــرةً

وأكره موتي ، وهو كالشهد    حاليــــا

جنوني أصيل لا أريد فراقـــــــه

وعقلي أصيل لا يريد   فراقيـــــــا

صحبتها دهراً معاً فتعايشــــــــا

وكنت بهذين النقيضين راضيـــــــا

جنوني أراني المبكيات مهــــــازلاً

وعقلي أراني المضحكات مآسيــــــا

وما زلت في السبعين طفلاً تشابكـــت

رؤاي ، تساوى واقعي و خياليــــــا

أسرُّ بأحفادي أزاهير غضـــــــةً

ويرثي لي الأحفاد أعجف  باليــــــا

غصونٌ تسامت فوق جذع  محطــــم

إذا زاد يبساً زدن  هن   تساميــــــا

أداعبهم حيناً فأقصر   لاهثـــــــاً

وتشغلهم ألعابهم  عن عنائيــــــــا

إذا ركبوا ظهري حصاناً  تململــــوا

يريدون مهراً ثابت   الظهر عاديـــــا

ويفرح أحفادي إذا كنت لاهيــــــا

ويسخر أحفادي إذا كنت واهيــــــا

إذا رحت أحكي عن شبابي تغامـــزوا

ولاح لهم وجهي فألغوا شبابيـــــــا

تراءى زمانٌ سوف يدعى زمانهــــم

وولىّ زمانٌ كان يُدعى زمانيـــــــا

وأسرع في سيري وأنسى مواجعــــي

فيوقظني من عنف سيري لهاثيــــــا

فأقعد إعياء كأني صخــــــــرة

يكر عليها السيل غضبان طاميــــــا

وأبحث عن ركن قصي لعلنــــــي

ألملم جسماً ذابل العود   ذاويـــــــا

 

*       *         *

 

 

3

ماذا بعدي ؟

 

سلوتُ عن الدُّنيا اضطراراً وعنــــوة

وأصعبُ شيءٍ أن ترى الجمر خابيــــا

يحور رماداً قاتم اللون  كامــــــداً

وكان لهيباً يدفئ الناس واريــــــــا

وما اخترت في ماضي  الزمان   ولادتي

ولا اخترت في باقي الزمان   وفاتيــــا

ومن أنا ؟ شيءٌ كالهشيم ممـــــزقٌ

تُخطِّط لي هوجُ الرياح مساريـــــــا

تلاعبُ بي خفضاً ورفعاً وتنتهـــــي

من العبث المحموم يوم  انتهائيــــــا

رويدكِ يا هوجَ الرِّياح غــــــداً إذا

تبلج نورُ الفجر أرحل غاديــــــــا

*       *      *

رويدكِ يا هوجَ الرِّياح  تريثــــــي

سأرحل ، والدُّنيا ستبقى كما هيــــــا

ستطلع بعدي الشمس حمراء تزدهـــي

ويبزغ بعدي البدر أصفر  وانيــــــا

وبعدي تدور الأرض لم تدر من  أنـــا

وتشدو السواقي في المروج  الأغانيــــا

ويكسو الجبال الثلجُ أبيض  ناصعــــاً

ويكسو الحقولَ القمحُ أخضر  زاهيــــا

وتهدر بالموج البحارَ غواضبــــــاً

وتمرح في الروض الطيورُ  رواضيـــا

ويسعى إلى الصف الصغارُ عنــــادلاً

ويزحف في السوق  الكبارُ أفاعيـــــا

وتخطر في الدرب الصبايا  أقاحيــــاً

وترقص في المرج  الأقاحي غوانيــــا

وأبقى أنا وحدي أصارع في الدُّجـــى

كتائب دودٍ رائحات  غواديــــــــا

تمزق أشلائي وتفقأ أعينــــــــي

وتنثر في جوف  التراب  رفاتيــــــا

 

*        *        *

غداً سوف ينسى الأهل والصَّحبُ  حُفرتي

كما أنا في الماضي نسيتُ  رِفاقيـــــا

إذا مرَّت الثكلى بقبري توجَّعـــــتْ

فأهدت له غُصناً من الآس ضاويـــــا

 

ويعبرُ مفجوعٌ فيلقي بزهـــــــرةٍ

تُعَطِّرُ أحجار  الضريح  لياليـــــــا

على قبري المهجور  تبكي غريبــــةٌ

إذا لم تجدْ مِ الأهل والصحب باكيــــا

لقد رضيَ الأحياء كدح  حياتهـــــم

فكنْ بسكونٍ الموتٍ يا ميت راضيـــــا

*     *       *

4

أنا والشعوب

 

 

رويدك يا ديدان لن تلعقي دمــــــاً

تفجر في شعري ونثري سواقيـــــــا

ولن تطمسي فكراً جريئاً رعيتـــــهُ

وعلمته حتى عصتني لهاتيــــــــا

وكنت من الأحرار إن قيل : من فتــى ؟

برزت ودوَّى كالرعود جوابيـــــــا

وعشت اشتراكياً إذا جاع  جائـــــع

أحسُّ لهيبَ الجوع  يفري فؤاديــــــا

وإن ثار في الأرض العبيدُ  وجدتنـــي

نصيراً لزحف الثائرين  مُواليـــــــا

وإن أرهق الشعبَ الطغاةُ  رأيتنــــي

على كل طاغ فيه أنقضّ بازيـــــــا

وهبت عيوني للشعوب  بصيـــــرةً

ويُعمي عيونَ   الغاصبين رماديــــــا

وعلقت في جيد العروبة شعرهـــــا

وآدابها عقداً تلألأ غاليــــــــــا

وأُترعُ سِفرَ الثائرين مآثــــــــراً

وأملأ أسفارَ الغزاة مخازيــــــــا

إذا كللتْ بالنصر ثورةُ  أمـــــــةٍ

رأيتُ بها – رغم  الضَّحايا –  عزائيـــا

لقد كتبتْ نصرَ الحياة  دماؤُنــــــا

فبالك نصراً طيب  العطر زاكيــــــا

أمانيَّ للدنيا وللناس  كلِّهــــــــم

إذا ما تمنى المترفون  الأمانيـــــــا

غداً يطلع الإنسان في الأرض كوكبـــاً

تباهي به الأرضُ النجومَ الدراريـــــا

ولست أبالي أن أكون فـــــــداءه

أما كانت الأحرار قبلي فدائيـــــــا ؟

 

 

إذا لم أجدْ في عالم اليوم  مطمعــــي

ففي العالم الآتي السعيد رجائيــــــا

يقولون لي : لن تشهد الفجر ساطعـــاً

بلى ، كنت قبل الفجر للفجر هاديـــــا

وكنت شعاعاً من أشعة  نــــــوره

يشق ستار الليل أسود داجيــــــــا

إذا ما طواني الموت قبل  انبلاجــــه

فحسبي أني كنت للركب حاديـــــــا

*       *        *

رفعتُ لواءَ الفكر ستين  حِجَّــــــةً

فما ضمَّ إلاّ الكادحين  لوائيــــــــا

همُ عُدَّتي في النائبات وأسرتــــــي

أقود بهم جيشاً على البغي  ضاريـــــا

يَسُرُّ المعالي أن نخوضَ  غِمارهــــا

ونُبدعَ إنسانَ الحضارة   راقيـــــــا

مضى عهدُ وحشٍ أفسد  الأرض  جـاهلاً

وأقبل عهدٌ يُصلحُ الأرضَ  واعيــــــا

صبونا إلى الآتي تَبَلَّجَ حانيـــــــاً

وثرنا على الماضي تصرم داميــــــا

*        *       *

 

5

وصيتي

 

وداعاً بني الدنيا وداعَ مســـــافـر

إذا ما شجا الأحرارَ يوماً  فراقيــــــا

أمامي غدٌ كالليل أسود كالـــــــحٌ

وخلفي أمسٌ كان أحمر قانيــــــــا

تشابهتِ الألوانُ حياً وميتــــــــاً

فما لي أشكو فرقة الرّوح ما ليــــــا ؟

ألا فاجعلوا الأكفانَ أوراقَ دفتــــري

ونعشي يراعي ، والحنوطَ مِداديــــــا

ضعوا تحت رأسي ما كتبت  وســـادةً

ولا تجعلوا الصخر الأصمَّ وساديـــــا

لعليَ في قبري أطالعُ  صفحــــــةً

فألمحُ في تلك الصحائف ذاتيـــــــا

 

( تذكرت من يبكي عليَّ فلم أجــــد )(4)

سوى قلمي والطرس والحبر   باكيــــا

ومكتبةٍ أودعت روحي   رفوفهــــــا

تكاد إذا ما مت تسعى  أماميـــــــا

ومنضدةٍ سوداءَ كاد حديدهـــــــا

يذوبُ إذا الإلهام أعرض  نائيــــــا

وأفكارِ صدقً قد تلألأن ثــــــورةً

أنرنَ لعميان الحياة    المعاليـــــــا

وعاطفةٍ لو هبَّ معشارُ خِصبهـــــا

على القفر أمسى القفر بالزهر كاسيــــا

وخلَّفتُ عمري ، رغم أنفي ، ستَّــــة

وستين عاماً راعفاتٍ دواميــــــــا

ولو غمروني بالمناصب والغنـــــى

لقلت لهم : خلوا حياتي  كما هيــــــا

تصعلكت أعواماً وكافحت دائمـــــاً

وأرخيتُ في دربِ الحياة عنانيــــــا

كفرتُ بربي أربعين فمذ بـــــــدا

لي الشيبَ خلَّفتُ الشكوكَ   ورائيـــــا

وقال رفاق الأمس : ضلّ  طريقــــه

معاذ إلهي ، بل تركت   ضلاليــــــا

قصرت على ربي وشعبي مودتــــي

فيا ليتهم يبدو لهم ما بدا  ليــــــــا

وما خنت عهدي للشعوب و إنمـــــا

دعاني ، فلبيت الهدى إذ  دعانيــــــا

و آمنت بالإنسان يبني  حضـــــارة

ويهدم في الإنسان ما كان   باليــــــا

*         *          *

 

6

العطاء والحياة

 

وأعرضُ ألحاني على الناس حلــــوةً

ويغمرهم بالدفء فيض وفائيـــــــا

ويلمس فيها الناس قلبي نابضــــــاً

ويبصر فيها الناس دمعي جاريــــــا

تعوَّدتُ أن أعطي وأسقيهم دمـــــي

وحسبك جوداً أن ترى الدم  ساقيـــــا

ولم أترقب حين – أعطي – عطاءهــم

كفاني أني ما حجبت عطائيــــــــا

إذا كنت أبغي من عطائي  عــــلاوة

فلست إذن في الخير إلا  مرابيــــــا

أصالة نفس لا تضن بنفسهـــــــا

تَدَفَّقَ مثل النبع أزرق    صافيـــــــا

وليس يطيب الجود إلا إذا  سمـــــا

عن المن ، بل أُمسي من الشكر خاليـــا

ولست بإنسان تسامى ضميــــــره

إذا أنا لم أعط الحياة  حياتيــــــــا

دفنت سروري في مصائب  أُمَّتــــي

فكانت حياتي الروض لم يلق  راويــــا

بقايا من الأطلال تندب  أهلهـــــــا

وصار حديثاً يوجع القلب شاكيــــــا

وأزرع آمالي فأحصد خيـبــــــة

وأغرس أحلامي فأجني  عواديــــــا

إذا ما وردت النبع كالشهد مـــــاؤه

صدرت طريداً ظامئ النفس صاديـــــا

وأعجب أني ما فقدت  تفاؤلــــــي

وأني أبني في الرمال  المبانيـــــــا

وعشت عفيفاً راضي النفس  قانعــــاً

يراني صحابي ناعم العيش ضافيـــــا

خرجت من الدنيا شذى فاح  فتــــرةً

وطيراً على سكِّيِنه ظلَّ  شاديـــــــا

 

*        *          *

 

7

تمنيات متواضعة

 

يقولون لي : كانت حياتُك  خصبــــةً

وأعطيتَ ما أعيا السحابَ  الهواميـــــا

فقلت لهم : خلوا الثناء فإننـــــــي

أحبُّ صديقي صادقاً لا محابيـــــــا

أضعت حياتي ، لم أصغها كما اشتهــى

ضميري فطارت في الرياح  سوافيــــا

دراريَّ أعطتها الحياة  كريمــــــةً

فبعثرت في الصحراء تلك  الدَّراريــــا

أضيئي حياتي يا شموس سويعـــــةً

فلم ألق قبل اليوم إلا المآسيــــــــا

( فإن لم تكن شمسٌ توقدَ نـــــورُها

فهل شمعةٌ عجفاءُ تؤنس ساريـــــــا(5)

تبدد شيئاً من ظلام  يلفُّنــــــــي

وتدفئ في شح عظاماً بواليــــــــا

وإن لم تكن أنهار  شهدٍ وخمـــــرةٍ

فهل فضلة في الكأس تروي  عظاميـــا ؟

وتنعش إنساناً تمزَّق  واهيــــــــاً

وقد كان صلداً كالحجارة قاسيـــــــا

عَرضتُ على كل الوجود  عواطفـــي

فلم أر في سوق النخاسة شاريـــــــا

وأجنح أحياناً إلى الشَّـــــرِ  والأذى

فإن كدتُ أغشاه ذكرتُ  حيائيـــــــا

وأصبر أحياناً وأغضي على  القـــذى

فيعصف بي عصفَ الرّياح إبائيــــــا

وما أنا من يبكي على الناس  حاقـــداً

ولكنني أبكي على الناس   حانيــــــا

صبرت على حلو الزمان ومـــــرِّه

فلأياً تساوى جورُه و اصطباريــــــا

ولم ترني النعماءُ أشمخُ   جاسيـــــاً

ولم ترني البأساءُ أخشع  جاثيـــــــا

 

*         *          *

 

 

 

8

خاتمة المطاف

 

همومٌ شخصية

 

سلامٌ على الدنيا سلامَ مـــــــودِّع

فقد حان عن هذي الدِّيار  ارتحاليـــــا

وفي الشعر لي مأوى ألوذ بظلِّـــــه

وفيه إذا عزّ الدواءُ دوائيـــــــــا

هو الشعر مثلُ الجمر في القلب  وقُــده

يطوّف في الأضلاع حرّان  كاويـــــا

إذا صُغته أُشعِرتُ روحاً  وراحــــة

وإن لم أصغه ظلَّ يلهث واريـــــــا

تجفُّ ينابيعُ المناصب والغنــــــى

ويبقى عطاءُ الشعر  كالنهر جاريـــــا

ومن يهوَ موجَ البحرِ يهوَ هديـــــرَه

ومن يهوَ موج الشعر يهوَ  القوافيـــــا

*       *        *

غرست غراساً وانتظرت  ثمارهــــا

فلم تعط إلا الشوك صلداً غراسيــــــا

إلى الله أشكو من رعيت  عُهودهــــم

فلم أرَ منهم في الملمَّات راعيـــــــا

تلاميذُ عقُّوني مريضاً فليت  لـــــي

بأفضلهم كلباً يبصبص وافيــــــــا

غداً سوف يبكون ( المعلمّ ) جُثّـــــةً

وقد صار عظماً في المقابر  عافيـــــا

تناسوا حقوقي في الحياة فإن أمــــتْ

تباكوا على القبر الوفيِّ  تباكيـــــــا

وما ألأم الأشجار إما تكلمـــــــت

تسب وتهجو غارساً ثم  ساقيـــــــا(6)

*        *          *

 

9

هموم قومية

 

أموتُ وفي قلبي على ( مصر )  حسـرةٌ

تباعدُ إخواناً وتدني ضواريــــــــا

وأخرى على (الجولان) يعـول ( شيخُه )

وأقتل شيءٍ أن ترى ( الشيخ ) باكيــــا

وثالثة في ( القدس ) ترثي لمؤمــــنٍ

إذا ما تلا القرآن يُذْعَرُ تاليــــــــا

وأخرى على ( بيروت ) سالت  دماؤهـا

إلى البحر حتى أصبح البحر  قانيـــــا

وخامسة هبت بـ (بغداد )  نسمــــةً

على ( دجلةٍ ) تبغي إلى الحق   هاديـــا

تشن على الأصحاب حرباً  ذميمــــة

وتترك في ( يافا ) و ( حيفا ) الأفاعيـــا

وعددت خمساً من كوارث  أمتــــي

وأمسكت أخشى أن تزيد  تماديــــــا

وأنذر قومي إن تمادوا  تمزُّقــــــاً

هزائم لا تبقي من العرب باقيـــــــا

*         *        *

ولو أننا عشنا كراماً  بأرضنــــــا

ظفرنا ، ولكننا نعيش  جواريـــــــا

إذا هان شعب واستكان لحاكــــــم

فهيهات يوماً أن يصد الأعاديـــــــا

وهيهات يوماً أن يحرر غيــــــره

إذا كان في الأصفاد يرسف  عانيـــــا

يدمِّر جيش المستبدين شعبـــــــه

زماناً ، ولكن لا يدمّر غازيــــــــا

وأومأت إيماءً لمحنة  أمَّتـــــــي

عسى يتقصَّى الأذكياءُ  المغازيــــــا

( أقول- وقد شدوا لساني  بنسعـــة )

أ معشر قومي أطلقوا  من لسانيـــــا )(7)

*         *         *

 

10

خاتمة المطاف

 

ذرفتُ رثائي دمعةً بعد  دمعــــــةٍ

إذا رحل الأحبابُ طال وداعيـــــــا

وداع امرئٍ ميتٍ أحبّ  رفاقــــــه

وأيقن بعد اليوم أن لا تلاقيــــــــا

دعوني أطرح بعد موتي متاعبـــــي

كفانيَ ما لاقيت حياً كفانيـــــــــا

لقد عشت بّحاراً قضى العمر تائهــــاً

ولاح له شطٌ فألقى المراسيــــــــا

*       *       *

ويا واديَ العاصي وقد كنتَ  دوحـــةً

أناغي بها الأحبابَ حُيِّيت  واديــــــا

لئن مزّقَتْ أيدي السياسة  شملَنـــــا

فمازال  قلبي صادق الودِّ صافيــــــا

سأودع في أحجارك السود  أعظمـــي

فلا يك ـ مثل الناس ـ صخرُك َ  قاسيــا

 

( فإن أستطِعْ في الحشرِ آتــكَ زائراً )(8)

ولوْ خَطَرَتْ حُورُ الجنانِ  أماميــــــا

ولو خيَّروني لثم ثغر حبيبتــــــي

ولثم ثَرى حمصي لثمتُ تُرابيـــــــا

 

– 1978 –

 

 

الهوامش :

 

(1)             الشطر من قصيدة مالك بن الريب في رثاء نفسه .

(2)             الشطر لشاعر عربي قديم .

(3)             أصبت في الصين بجلطة دماغية وشلل في الشق الأيسر ألزمني العكاز.

(4)             الشطر الأول لمالك بن الريب .

(5)             بيت للشاعر الباكستاني ( رزمي ) نقلته للعربية .

(6)             البيت للشاعر العربي عبد يفوت بن صلاءة يرثي نفسه قبل قتله وفيه تحوير قليل .

(7)             نظم كلمة رائعة لمصطفى صادق الرافعي قال فيها :

ما ألأم الشجرة التي إن نطقت شتمت ساقيها .

(8)             الشطر الأول لأبي العلاء المعري و تمامه :

وهيهات لي يوم القيامة أشغال .

 

قصيدتان

بهيرة

 

         ـــــــ 1

 

قدر وجريمة :

…..

هذا يقـولُ : تركتُهـا في القبـرِ هــامـدةً وحيــدَهْ

ويقـولُ آخـرُ : قد لـمـسـتُ التـرْبَ  أبعثُ فيه دودَهْ

 

ويصيحُ ثالثُهـم : ومـاذا تبتغـي الـديـدانُ منهـــا ؟

أنا قد أذبتُ عظامَها ، وسلختُ حتى الجلدَ عنهـــــا

 

وأجابَ رابعُهم : ـ وكان اليومَ نشوانَ انتصـــــارِ ـ

ما أعذبَ الألحان ترسلُها عروسٌ  باحتضـــــــارِ

 

ويقولُ خامسُهم : وما أحلى أغاريدَ اليتامــــــــى

ما سرَّني إلا سماعُ عويلِ طفلتِها  خُزامــــــــى

 

وأحبُّ رؤيةَ زوجِها تنسابُ أدمعُهُ  مَريــــــــرَهْ

إذ راحَ يلثَمُها وصاحَ : مع السلامــةِ يـا  “بَهيـــرَهْ”

 

وأهابَ سادسُهم وهزَّ المأتمُ الدامي فـــــــــؤادَهْ

هذي السعادةُ ، ليسَ يُرضيني سوى هذي  السعــــادَهْ

 

….

هذا عذابي : مَنْ أردتُ شويتُهُ بلــظـى عــذابــي

 

اليومَ تمَّ مؤزراً نصري على فـرخَي  حمـــــــام ِ

دمَّرتُ عشَّهما ، وَوَاريتُ الحَمَامة في الــرغـــــامِ

 

…..

……

 

ورآهُمُ إبليسُ عن كَثَبٍ فشجَّعَهُمْ بنظـــــــــرَهْ

وعلى ذرى شفتيهِ ماتتْ بسمةٌ صفراءُ مُـــــــرَّهْ

 

كَمْ ثائرٍ للكبرياءِ ، بكَتْ عليهِ  الكبريـــــــــاء ُ

الحقدُ مثلُ النَّارِ ، يأكلُهُ وتلعنُهُ السمــــــــــاءُ

 

 

ورمى الإلهُ إلى سوادِ الأرضِ نظرَتَهُ الرهيبــــــهْ

فإذا حبيبٌ ساهرٌ يرعى مريضتَه ُ الحبيبــــــــهْ

 

نادتْهُ ـ والآلامُ تَنْهشُها ـ حَنَانَــك يــا حـبـيبـي !!

نادتْهُ : تحسَبُ في اسْمِهِ الميمونِ أدويةَ الطبيــبِ . . . !!

 

سمعَ الإلهُ فغاظَهُ ـ في نوبةِ الحّمى ـ نداهــــــا

ما بالُها تَدَعُ الإلهَ ؟؟ ومالَها تدعو فَتَاهـــــــــا ؟؟

 

أنا قد خلقتُ الأرضَ لا ابغي طعاماً أو شرابــــــا

أنا لو دعاني الناسُ كانتْ رحمتي الكبرى   جوابــــا

 

هيا انزعوها من يديهِ أو انزِعوهُ من  يديهـــــــا

أنا لا أطيقُ معانيَ الإخلاصِ تملأ   مقلتيهـــــــا

 

سجدَ الملائكُ ثمَّ راحوا يركبونَ الليلَ  خَيـْــــــلا

يا رُبَّ جُرمٍ ظنَّهُ الإصباحُ بعدَ الليل  لَيـْـــــــلا

 

*   *   *

 

         ــــــ 2

          لو..

 

….

….

 

…..

 

لو ذاقَ ربُّكِ لوعةَ السَّرطانِ في نَوْبَاتِـــــــــهِ

لو ذاقَ حُرْقَتَهُ وقدْ أعيا علاجَ  أُساتِــــــــــهِ

 

لو كانَ مسلولاً يَمجُّ دماءَهُ عند السعـــــــــالِ

ويرى على منديلِهِ رئتيهِ تُنْثَرُ كالرِّمـــــــــالِ

 

 

لو كان مشلولاً يرى الأفعى تسيرُ ولا يسيـــــــرُ

لو كان مجنوناً يهيمُ فلا يُجاَرُ ولا  يُجيـــــــــرُ

 

لو ذاق أحلامَ الشبابِ وذاقَ آمالَ  الصبايــــــــا

لو ذاقَ مصرَعَها الوجيعَ يموجُ فـي صـدرِ  الضحايـا

 

لو ذاق ربُّكِ لذَّةَ الدُّنيا وأفراحَ  الحيــــــــــاةِ

لو ذاقَ طعمَ القبلةِ الأولى على شفتـيْ فتـــــــاةِ

 

لو كان ربُّكِ والداً يحنو على الطفلِ  الرضيــــــعِ

لو كانَ يدركُ ما يريدُ اللحظُ في الوجــهِ البديــــعِ

 

لو كانَ يفهمُ ثورةَ الأحرارِ في دنيا العبيــــــــدِ

هدموا السجونَ وشيَّدوا مستقبلَ الشعبِ السعيــــــدِ

 

لو كان ربُّكِ يقرأُ الألوانَ في سِفْرِ  الصـبــــــاحِ

لو كان يَنْشَقُ طِيبَ أنفاسِ البنفسجِ و الأقاحــــــي

 

لو كان يشعرُ بالوجودِ بكلِّ أعماقِ الوجــــــــودِ

في الشمسِ ، في الأنسامِ ، في ترنيمةِ النهرِ   البعيـــدِ

 

لو ذاقَ هذا ، لم يَكُنْ يرضى بقتلِ الكونِ  ظُلْمـــــا

….

                   *   *   *

          ــــــ 3

           حق ووهم

 

أ بهيرتي ‍‍!! لا تزعمي : أنْ قَدْ عرفتِ الحقَّ  بعـــدي

أنا صُنْتُهُ وبذلتُ في تعليمهِ عَرقي  وجهـــــــدي

 

أ بهيرتي : ما الحقُّ تحتَ الأرضِ أو بعدَ المـمـــاتِ

الحقُّ  ، فوق الأرضِ ، في الإنسانِ ، في هذي الحيــاةِ

 

ما في القبورِ سوى الترابِ سوى الظلامِ ، سوى الصخورِ

والبعثُ بعد الموتِ كانَ – وما يزالُ – مِنَ  الغُـــرُورِ

 

لا ترتَجي فَرَحَ النعيمِ وترهبي هولَ الجحيـــــــمِ

هذا وذلك أصبحا ذكرى من الماضي القديـــــــمِ

 

لا تطلبي الإيمانَ مني ، إنَّه ولَّى و  راحــــــــا

قَتَلَتْهُ كارثَتي وكان مكابداً أمسِ الجراحـــــــــا

 

لا تزعمي أنَّ المماتَ سبيلُ عدلِ اللهِ  فينــــــــا

لن أرتضي غيرَ الحياةِ وغيرَ دينِ العقـلِ  دينـــــا

 

أ حبيبتي : العدلُ أنْ نبني الوجودَ كما نشـــــــاءُ

كم بائسٍ نادى السماءَ ، فَهَلْْ أجابتْهُ السمـــــــاءُ ..؟

 

صَمْتُ الفراغِ يلُّفها ، فاشرَبْ على نَغَمِ  الفـــــراغِ

واعجَبْ فكَمْ خطُّوا لها كتباً وصاغوا من  بـــــلاغِ

 

إن كنتُ جانبتُ الصوابَ – وما أظنُّ – فاخبرينــــي

ماذا لقيتِ لدى الترابِ ؟ وما حقيقةُ كلِّ ديــــــنِ .. ؟

 

ما لي أراكِ سَكَتِّ عن ردِّ السؤالِ ولم تجيبـــــي ..؟

قد كانَ معنى الصمتِ أمس : نَعَمْ فهمتُكَ يا  حبيبـــي

 

الصَّمتُ أبلغُ منطقٍ يهدي النفوسَ إلى   الحقيقـــــهْ

هل ضَجَّةُ الأمواجِ تُسمعُ أنفساً عاشتْ غريقــــــهْ

 

يا ليتَ بعدَ الموتِ بعثاً للجسومِ و للنفــــــــوسِ

لو كانَ مزّقتُ الحياةَ على ضريحـكِ يـا عـروســي

 

لكنني أحيا على سؤرِ الهوى و الذكـريـــــــاتِ

وأعيشُ أعصِرُ خمرةَ الأوهامِ من سُمِّ المَمَــــــاتِ

 

وأعيش كي تجدَ ابنتي كالناسِ فيَّ أبــاً و أمـــــا

نامي إذن يا أمَّ ابنتي ، واهنئي في القبر نَوْمــــــا

 

*   *   *

         ـــ 4

          جنون

أ بهيرتي  !!  بلْ لستِ لي .. بلْ أنتِ خائنةٌ أثيمــــهْ

حمَّلتِني عبءَ الهوى وتركتِ طفلَتَنا   يتيمـــــــهْ

 

ما الداء ؟ لو لم ترتمي للداء خاضعةً إليـــــــهِ ..؟

لمَ لمْ تهبّي – حينَ حلَّ الداءُ – واثبةً عليـــــــهِ ..؟

 

ما الموتُ ؟ ليسَ الموتُ عذراً للخيانةِ في الخــــؤونِ

لمَ لمْ تثوري للحياةِ ؟ وتقطَعي كفَّ المنـــــــونِ ..؟

 

أَ زَعَمْتِ أنكِ متِّ ؟ لا ، ما ماتَ منكِ سوى  الوفـــاءِ

ولقد شقيتُ وكنتُ فيه – وحدَهُ – ألقى   عزائـــــي

 

سنةً قضيتُ على فراشِكِ ساهراً بَرَّاً شفيقــــــــا

حينَ ارتميتِ ولمْ تري أهلاً ولمْ تجــدي  شـقـيـقـا

 

كانوا – وكنتِ مريضةً – يرجونني  بهوى خــزامـى

واليومَ أمسَتْ طفلتي نهباً كأموالِ اليَتامــــــــى

 

كانوا – وكنتِ مريضةً – يتنافسون علـــــى  وِدادي

واليومَ باعوا ثوبَ عرسِكِ يا بهيرةُ في  المــــــزاد

 

 

جاءوا بقمصانِ العروس و أبرزوا  سربالَهـــــــا

فَشَرَتْهُ مومسةٌ لتحرقَهُ وتخسرَ مالَهـــــــــــا

 

غَضَبتْ لبيعِ كساءِ ميتةٍ وراءت فيــه  عــــــارا

وهي التي باعَتْ – لتأكلَ – عرضَها الغالي  جهـــارا

 

جاءوا بمنديلِ الزفافِ عليهِ آثارُ الدمــــــــــاءِ

لما رأى السمسارُ حمرَتَهُ تلعثمَ  بالنــــــــــداءِ

 

أخفاهُ مذعوراً فرامَ النبشَ عنـــهُ أخٌ حــريـــصُ

يا لَلُّصوصِ !! لو أنّهم شهدوهُ لانتحرَ اللـــصــوصُ

 

سنةً قضيتُ أريقُ وجهي للصديقِ و للمرابـــــــي

وأموتُ من جوعٍ لأدفعَ عنكِ أهوالَ المصـــــــابِ

 

أسقيكِ من قلبي دماً وجعلتُ دمعَكِ لي شرابـــــــا

وأرى عذابي في رعايتِكِ السعادةَ لا  العذابـــــــا

 

كَمْ قلتِ لي : صبراً فسوفَ تعيشُ مسروراً  سعيــــدا

وأغضُّ أجفاني ليبصرَ قلبيَ الأمــلَ الشريــــــدا

 

أ هزأتِ بي ؟ وزعمتِ انَّكِ كنتِ في طُهرِ  الحَمَــــامِ

ووعدتِني بسعادتي فجعلتِني أشقى الأنـــــــــامِ

 

لا تزعمي انَّ الهوى لم يستطعْ للموتِ  دفعـــــــا

الحبُّ منتصرٌ ، فهل أحببتِني ؟ أو كنتِ أفعــــــى ..؟

 

إن خُنتِني فعلامَ خُنْتِ رضيعةً لمْ تُكْسَ لحمـــــا …؟

لمْ تأوِ للصدرِ الرحيبِ ولمْ تَذُقْ للنَّهدِ  طعمـــــــا

 

ستعيشُ لا تجري إذا سمعتْ نداءَكِ : يا  خزامــــى !!

ستعيشُ تقتُلُني إذا نادَتْ – مع الأطفالِ – مـــامـــا

 

لا .. لن أكونَ ضحيّةً  للغدرِ يا أختَ النســـــــاءِ

ستفورُ في قلبي – فتغسلُ كلَّ ما فيهِ – دمائــــــي

 

موتي : فإنّي خالدٌ ، هل يعرفُ الموتُ الخلــــــودا

سأُميتُ في قلبي الهوى وأعيشُ – في السلوى –  وحيـدا

 

موتي !! فلا عاشَ الجبانُ فلو أردتِ العيشَ عشــــتِ

إن كنتِ أهلاً للحياةِ ومجدِها فعلامَ مُـــــــــتِّ ..؟

 

مصِّي ترابَ القبرِ واعتصِري جسومَ الدودِ  خمــــرا

لا عاشَ في الدنيا سوى مَن كانَ فوقَ الأرضِ   جَمــرا

 

موتي ‍‍‍‍!! فما لكِ في فؤادي غيرُ جرحٍ سوفَ يشفــــى

الماردُ الجبَّارُ لا يأسى لميتٍ ماتَ  ضَعْفـــــــــا

 

                *   *   *

ـــ 5

 

اعتذار

 

أ بهيرتي ! هذا الجنونُ ، فعفوَ قلبكِ عن  جنونـــــي

لم أستطعْ فهماً لموتِكِ يا بهيرةُ !! فاعذرينـــــــي ..

 

ما زلتِ في نفسي تفيضينَ الهوى جسداً ونفســــــا

فإذا اِلتَفَتُّ – ولم أجدكِ – قضمتُ كأسَ الخمرِ  يأســـا

 

ما كنتُ أحسبُ أن تموتي والصِّبا كالطَّلِّ ينــــــدى

فيرشُّ نهدَكِ زنبقاً ، ويبللُ الخديـــــــــنِ وردا

 

بيني و بينَ الموتِ حربٌ لمْ تزلْ حرباً   عوانــــــا

وسقطتِ فيها فانثنيتُ أجِّرعُ النفسَ  الهوانــــــــا

 

قد  كنتِ أولَ ميْتةٍ أوحتْ إلى نفسي الهزيمَـــــــهْ

ما أقتلَ الذلَّ الجديدَ لأنْفُسٍ عاشتْ  كريمَــــــــهْ

 

قد كنتِ ينبوعاً من الإخلاصِ في صحراءِ  غَـــــدْرِ

أطلقتِ لي روحي ورحتِ لتطلقي كالنسرِ فكـــــري

 

زعموا الكمالَ – ولمْ نَعِشْ لسواهُ – في  الدنيا مُحـــالا

وأراكِ أدركتِ الكمالَ – فَلَمْ يغرَّكِ – و  الجمـــــالا

 

لهفي على تلكَ الليالي الواثباتِ على السريـــــــرِ

ما بينَ تمتمةِ الشفاهِ وبينَ عربدةِ  الصــــــــدورِ

 

لهفي على ثلجِ الجبالِ يذيبَه لَهَبُ  الصحـــــــارى

لهفي على الوعيِ الذكيِّ يمجُّهُ هَزْلُ  السكــــــارى

 

لهفي على العشرين يحفرُ قبرَها زوجٌ جريـــــــحُ

فتَّانةٌ كالوردِ لو يسطيعٌ فدَّاها  الضريــــــــــحُ

*   *   *

ــــ 6

كان وصار

يا أمَّ أحلامي !! تعاليْ نُحْصِ أحلامي القتيلَـــــــهْ

كمْ بتُّ أسقيها فماتَ الزهرُ وامَّحَتِ  الخميلَـــــــهْ

 

قد كنتُ أرجو في هواكِ الأمنَ من نُوَبِ  الزمـــــانِ

فغدوتِ أنتِ مُصيبتي الكبرى وقاتلةَ الأمانـــــــي

 

قد كنتُ أرجو أن أرى في صدرِكِ الفوّاحِ  واحَـــــهْ

آوي إليهِ من الزمانِ وأتَّقي فيهِ  جراحَـــــــــهْ

 

فغدوتِ والسَّرطانَ يفتكُ فيهِ لا أسطيعُ  مسَّـــــــهْ

يمتَصُّ نضرتَهُ ويُنمي فيهِ – رغمَ الموتِ –  حسَّــــهْ

 

الدمعُ والزفراتُ قد جَّربْتِ حرقتَها  جميعــــــــا

في وَجْنَتَيكِ وقلبِكِ الواهي بَنَتْ وَكْراً منيعــــــــا

 

يا صرخَةَ السَّرطانِ تسمعُها الجبالُ ولا تميـــــــدُ

لو أنَّها دَهَتِ الحديدَ لذابَ – كالثلجِ – الحديـــــــدُ

 

كم قد غفوتِ على يدِ ” المورفين” بينَ يديَّ  ساعــــهْ

وأراكِ نائمةً فأخنُقُ – في دمي – صوتَ المجاعَــــهْ

 

يا زندَها لمْ يَبْقَ فيهِ موضعٌ ما ذاقَ إبـــــــــرَهْ

قد كانَ أبيضَ ناصعاً فغدا من الوخزاتِ   جَمْـــــرَهْ

 

قد كانَ أمسِ لرأسيَ الواهي – إذا أغفو – وِسَـــــادا

واليومَ أصبحَ زندها كالشوكِ يمنعُني  الرقـــــــادا

 

أثوابُ عرسِكِ يا عروسَ العامِ قد كُفِّنْتِ فيهـــــــا

لمْ تلبسيها في الحياةِ ولمْ تَمِسْ برضاكِ  تيهـــــــا

 

قد صارَ عرشُ الحبِّ – منذُ الليلةِ العذراء – نعشــــا

واليومَ قد أكلَ الترابُ كليهما : نعشاً وعرشـــــــا

 

               *   *    *

ـــ 7

حُمّى

 

أ بهيرتي ! – ذاتَ الشعورِ الحُمْرِ – قد طلعَ الصبـــاحُ

والدِّيكُ صاحَ ، فكيفَ لمْ يوقظْكِ للحبِّ الصيــــــاحُ ؟

 

ما بالُ طَرْفِكِ لا يفيقُ مرنّقاً يرعى الحبيبــــــــا ؟

ما بالُ ثَغْرِكِ لا يرنُّ بقبلةٍ تحيي القلوبـــــــــا ؟

 

قومي بنا نرتع ، فقد طالَ الرقادُ على السريــــــرِ

قولي ألا يؤذيكِ لمسُ الترابِ .. لا لمسُ الحريـــــرِ ؟

 

ما زلتُ الثمُ ثغرَكِ الوضَّاءَ في الرّسْمِ الصغيــــــرِ

قُبَلَ الأماسي لستُ أنساها ، ولا قُبَلَ  البكـــــــورِ

 

قولي : أما يفترّ ثغرُكِ في ظلامِ القبرِ فجــــــرا ؟

فتنيرُ بسمتُهُ الضريحَ وتملأُ الديدانَ  ذُعــــــــرا

 

قولي : أليسَ يردُّ لي قُبَلي وكانَ بها  ولوعـــــــا ؟

كم ثرتِ بي إنْ أنسها يوماً .. فأذكرها  سريعــــــا

 

وهمٌ أريدُ لهُ البقاءَ – ولا بقاءَ – لكيْ أعيشَـــــــهْ

أُحييهِ في قلبي فيصبحُ – في مهبِّ الريحِ – ريشَــــهْ

 

ويردُّني هولُ المماتِ إلى الحياةِ إلى  الحضـيــــضِ

ألوانُ حُمّى هازئاتٌ بالطبيبِ وبالمريـــــــــضِ

 

*    *    *

ـــ 8

قوة

أ حبيبتي لا تطلبي مني الوفاءَ ولا  الأمانَــــــــهْ

أصبحتُ ” شيئاً ” ليسَ يَدري : ما الوفاءُ و ما  الخيانـَـهْ

 

الروضُ والأطيارُ والأنهارُ قد نسيت هوانــــــــا

ومضتْ – كما كانتْ – تفيضُ منَ الحنانِ على سوانـــا

 

والشمسُ ما زالتْ – كما كانتْ – تغيبُ و تشـــــرقُ

والغصنُ يزهرُ حينَ يلثُمُه الربيعُ و يُـــــــــرِقُ

 

والأرضُ كَفَّنَها الشتاءُ فعادَ يُحييها  الربيــــــــعُ

والنهرُ أطلَقَهُ فراحَ وكانَ يسجنُهُ الصقيـــــــــعُ

 

ما زالتِ الأزهارُ عاطرةً تميسُ على الغصــــــونِ

ما زالتِ الأطيارُ تشربُ لحنَها أُذُنُ  السكـــــــونِ

 

ومضتْ تريدُ الحبَّ أسرابُ العذارى والبغايـــــــا

ويقلنَ لي : مازال في الدنيا – فلا تجزَعْ – صبايــــا

 

ما زالتِ الشقراءُ يَخْجِلُ جيدُها زهرَ الأقاحـــــــي

وتودُّ تسرقُ شعرَها لشعاعِها شمسُ الصبـــــــاحِ

 

ما زالتِ السمراءُ تنبضُ شهوةً وتبضُّ فتنــــــــهْ

ما بينَ نهدَيْها تثورُ وتنطفي نارٌ و جَنَّــــــــــهْ

 

ويرينني أذوي أسىً فيقلْنَ : ويحَكَ يا غبــــــــيُّ

الناسُ كلُّ الناسِ في فرحٍ وأنتَ بنا شقـــــــــيُّ

 

مشتِ الحياةُ على المماتِ فلا يَلُمْها مَنْ  يَمــــــوتُ

للميت قبر مترع بالدود يرهبه السكــــــــــوت

 

والحي في يده الوجود وكل أفراح  الوجــــــــودِ

يحيا وكلُّ دقيقةٍ من عمرهِ عُمُرُ الخلــــــــــودِ

 

لا يستطيعُ السَّيْلُ إيماناً بشحًّ في  السحــــــــابِ

فيضٌ من الخيراتِ تفزَعُ من تدفُّقِهِ  الروابـــــــي

 

فتركتُهنَّ ورحتُ أسعى نحوَ أرْزَتنا  الوحيـــــــدَهْ

فوجدتُها لمْ تَرْعَ مفجوعاً ولمْ تَنْدُبْ فقيـــــــــدَهْ

 

أغصانُها امتدَّتْ – على غيظٍ – لتطردَني و حزنــــي

وحفيفُها غضبانُ يهتفُ : يا شقيُّ إليكَ  عنْـــــــي

 

لولا السعادةُ لمْ أعشْ عمراً يحَارُ بِهِ  الزَّمـــــــانُ

أنا للهناءَةِ  عشتُ لمْ أُخْلَقْ ليقتلَني  الهــــــــوانُ

 

والغرفَةُ الزرقاءُ في هضباتِ ” إهْدِنْ ” لا  تبالـــــي

ساءَلتُها عنَّا وعنْ أسرارِ هاتيكَ الليالــــــــــي

 

فوجدتُها خرساءَ مدَّتْ في غباءٍ ساعديْهـــــــــا

كالمومسِ العمياءِ مَنْ تسمعْ تَخَلْهُ رَنَا إليهــــــــا

 

مرآتُها لمعتْ تريدُ لوجهها وجهاً  جديـــــــــدا

وسريرُها متوثِّبٌ مترقِّبٌ عرساً سعيــــــــــدا

 

ومضيتُ لا حجرٌ ولا شجرٌ ولا بشــــــــرٌ أراهُ

وشربتُ وحدي لوعتي ودفنتُ في قلبي   أســــــاهُ

 

وهناكَ قامَ على الصخورِ الصمِّ زوجُكِ كالصخــــورِ

أقوى مِنَ الدنيا وأسمى من تصاريفِ  الدهــــــورِ

 

جبلٌ مِنَ الفولاذِ تلطُمُهُ البحارُ فلا تكــــــــــلُّ

لا الطَّوْدَ مُنْهَارٌ ولا الأمواجُ مِنْ عَبَثٍ تَمِــــــــلُّ

 

                *   *   *

ـــ 9

ضعف

 

أ بهيرتي : لا البومُ ناحَ ولا هزارُ الروضِ غنـــــى

ماتتْ تعابيرُ الوجودِ فما لها في النفسِ معنـــــــى

 

إن كنتِ من موتى الفناءِ فإنني ميْتُ  الوجـــــــودِ

البيت ُ  قبري ، والدُّجى يأسي ، وهذا النــــاسُ دودي

 

قالوا : ” العزاءَ ” فقلتُ : قد ماتَ العزاءُ معَ  الحبيبَـــهْ

ستعيشُ نفسي – بعدَ أختِ النفسِ – واحدةً  غريبــــهْ

 

قد كنتُ ارجو أن نسيرَ معاً ونمضيَ في الطريـــــقِ

لكن طلبتِ ” الراحةَ الكبرى ” فسرتُ بلا رفيــــــقِ

 

ما كانَ أحلانا لَوَ انا لمْ نَزَلْ بينَ الرفـــــــــاقِ

إيمانُنا في قلبِنا خفقٌ ونورٌ في  المآقــــــــــي

 

أ بهيرتي : إني لأسمَعُ صرخةً في أرضِ شعبـــــي

أنا واجدٌ في بعثِهِ سَلوايَ بعدَ مَمَاتِ  حبّــــــــي

 

أسعى إلى نبعِ الحياةِ بجرّةٍ مُلِئَتْ  دموعـــــــــا

هل ينقذُ الماءُ القراحُ فتىً يموتُ ضنىً وجوعــــــا ؟؟

*    *    *

ـــــ 10

رثاء  رثاء

أ بهيرتي : قالوا لنا : .. ما هكذا عُرِفَ الرثــــــاءُ

قولي لهم : بلْ  إنّهُ نارٌ بها احترقَ  البكــــــــاءُ

 

صورٌ ملونةٌ تهزُّ بلغزِها أعماقَ نفســــــــــي

من ثورةٍ وتمرُّدٍ أعمى ومن ضَعْفٍ ويــــــــأسِ

 

الموتُ – ماتَ الموتُ – وحشٌ كاسرُ الأنيابِ قــــاسِ

يلهو بأعراسِ الحياةِ فتستحيلُ إلى مآســـــــــي

*   *    *

خاتمة المطاف

ونظلُّ – رغمَ الدَّاءِ – رغمَ الموتِ – نَفرَحُ بالوجـــودِ

ونظلُّ – رغمَ الدَّاءِ – رغمَ الموتِ – نحلمُ بالخلــــودِ

                        *    *    *

                                   حمص 1 / 8 / 1947

 

 

ورود

(22 شباط 1957 – 7 كانون الثاني 1970 )

 

ــــ 1

الناس والطبيعة

 

ماتَتْ ورودُ ! فهل تُرى ذَبلََتْ لمصرعِها الـــورودُ ؟

كَلاَّ ! فهذا الروض دغدغَ زهرَه عامٌ جديــــــدُ

 

ماتَتْ ورودُ ! فهل تُرى سكتتْ أغاريدُ الطيــــورِ ؟

كَلاَّ ! فما زالتْ تزقزقُ في المساءِ وفي البكــــورِ

 

ماتَتْ ورودُ ! فهل تُرى وقفتْ على الأرضِ الحيــاةُ ؟

كَلاَّ ! فما زالتْ تمَخَّضُ بالبنينَ الأمهـــــــاتُ

 

ماتَتْ ورودُ ! فهل تُرى ضَحِكَ الصغارِ مضى و ولّى ؟

كَلاَّ ! فما زالتْ تضجُّ به الدروبُ ، وألفُ كَــــلاَّ

 

ماتَتْ ورودُ ! وما تزالُ الشمسُ تُشرقُ أو تَغيــــبُ

والبدرُ يسطعُ والنجوم لقلبِها أبداً وجيــــــــبُ

 

ماتَتْ ورودُ ! ولم يزلْ بردى يسيلُ و لا  يبالــــي

أبداً يجودُ – كما تعودَ – بالمياهِ وبالظــِّـــــلالِ

 

صفصافُه يحنو على العشاقِ يحسبهم  سَكـــــارى

وضفافُه غصَّتْ بأسرابِ الصبايا و العـَـــــذارى

 

ماتَتْ ورودُ ! فما وقفنا في المقابرِ غيرَ سَاعـَــــهْ

هرعَ الصحابُ إلى العزاء هناك ، وانصرف الجماعَـهْ

 

ماتَتْ ورودُ ! فهل تُرى متنا لها ظمأً وجوعـــــا ؟

كَلاَّ ! فقد جعنا وعدنا نأكلُ الدنيا  جميعــــــَــا

 

ماتَتْ ورودُ ! فهل تُرى شَيَّعت عاطفتي و حسـّـِــي

كَلاَّ ! فما زال الجمالُ  يهزُ للأعماقِ    نفســـــي

 

ماتَتْ ورودُ ! فهل تُرى ولَّى – مدى العمرِ – السـرورُ

هُجِرَ السريرُ لَيَالياً ، وغداً سيجمَعنا  السريــــــرُ

 

ما شاركَتْنا في مصائبنا الحياةُ ولا الطبيعـــَــــهْ

ونظلُّ ، إن ولّى الشتاءُ وثلجُهُ ، ننسى صقيعَـــــهْ

 

الأرضُ تذرونا جميعاً ، مثلَ أوراقِ الخريــــــفِ

وتدوسُنا ، والويلُ ، كلُّ الويلِ ، للواهي الضَّعيــــفِ

 

سننَ الحياةِ بقاءُ هذا النوعِ ، والأفرادُ وهـــــــمُ

مأساتنا الكبرى : لنا ثكلٌ ، وللأطفالِ  يتـــــــمُ

 

لا تعبأُ الأشجارُ بالأوراقِ  تنثرُها  الريـــــــاحُ

والزَّهْرُ يسخر بالندى دمعاً يبدّده  الصبـــــــاحُ

 

يفنى رذاذُ البحرِ يزبدُ موجُه ، والبحرُ  يبقــــــى

نحن الرذاذُ رمى بنا بحرُ الحياةِ وراحَ  طلقــــــا

 

تجري الحياةُ ، ولا تبالي : مَنْ يعيشُ ومَنْ  يمـــوتُ

مَنْ شاءَ فليصرخْ ، فما لي حيلةٌ إلاَّ السكــــــوتُ

 

لا يا ورودُ ! صرختُ حتى سَلَّ حنْجَرتي الصُّـــراخُ

ماذا يضيرُ الذئبَ ذا الأنيابِ إن ذُبِحَ الفِــــــراخُ ؟

 

ـــــ 2

الأم الثكلى

اللَّيلُ أقبلَ … والزقاقُ يغط في نومٍ عميـــــــقِ

وسهرتُ ، أرقبُ أُمّكِ الثكلى … على حذرٍ و ضيــقِ

 

وكتمتُ أنفاسي .. فقالتْ لي : – وهزتني طويـــلا –

أ تنامُ ؟ قل لي : هل تنامُ ؟ وأردفت : نوماً  ثقيـــلا

 

وسَكَتُ ، أكتمُ صرختي كيف السبيلُ إلى الهجـــوعِ ؟

قلبي تمَّزقُهُ جراحاتي ، وتحرُقُهُ دموعــــــــي

 

وتركتُها تمضي – على أملٍ يراودها – إليــــــكِ

مدتْ يديها – في جنونٍ مطبقٍ – تبغي يديْــــــكِ

 

وتلوبُ في الحجراتِ تهتفُ : يا ورودُ ! ولا  جــوابُ

وتُفَتِّحُ الأبوابَ ، تسألها : عسى يخفيكِ  بــــــابُ

 

وصرخْتُ – لمَّا لمْ تجدْ أحداً – : تعالي ! أينَ  أنــتِ ؟

وألومُها – يا ويحها – لِمَ لَمْ تجدْ في البيتِ بنتــــي ؟

 

هذا الجنونُ ! وهل لنا مِنْ مهربٍ غيرُ الجنـــــونِ ؟

وأعودُ ، أصطنعُ الوقارَ ، لخدعةِ الأمِّ الحنـــــونِ

 

عبثاً أعزِّيها ، فقد جلَّ المصاب عنِ  العــــــزاءِ

وجعلتُ أبكي ، مثلما تبكي ، ليَشْغَلَها  بكائــــــي

 

وأعدتها لسريرِها ، وطفقتُ أبحثُ عن ضميــــري

فوجدتُهُ مازالَ يسألُ عنكِ في ذاكَ السريـــــــرِ

 

وأظلُّ أخدعُها ، فإن نامتْ قتيلَ أسىً  و  سُهـــــدِ

أقبلتُ أسترقُ الخُطى ، وأهيمُ في الحجراتِ وَحْـــدي

 

وجعلْتُ أبحثُ مثلَما بحثَتْ ، وأفعلُ فِعْلَ  أمِّـــــكْ

فلعلَّها نَسِيَتْ – وقد ينسى العجولُ – مكانَ نَوْمـِـــكْ

 

البيتُ أصبحَ – ويله – لما طواكِ الموتُ أكبـــــرْ

والضوءُ فيهِ أصفرٌ مترنحٌ ، والموتُ أصفــــــرْ

 

وصحوتُ ، ما لي كنتُ ابحثُ في زوايا البيتِ عنـّـي ؟

مازالَ صوتُكِ ، مثلَ وجهكِ، ملء سمعي ، ملءَ عينـي

 

ورجعتُ – يا خجلَ الجنونِ – إلى فراشي يـا  ورُودي

وعرفتُ أنّكِ في الترابِ – هناكَ – في القبرِ البعيـــدِ

 

ـــــ 3

موتُ الأطفال

يا طفلتي ! هذا أبوكِ يظلُّ ينعقُ  كالغـــــــرابِ

أشعاره سودٌ ، تعششُ في الظلامِ ، وفي الخــــرابِ

 

خلّفتِ أهلكِ جثةً مصلوبةً ، إحدى  المجــــــازرْ

القبرُ أصبحَ جنةً ، والبيتُ أشبهُ بالمقابــــــــرْ

 

هذي عتابُ رأيتُهَا هرِمتْ ، وكانت أمسِ أصغــــرْ

وقفتْ تُحَدِّقُ في سريركِ فارغاً ، والوجهُ أصفــــرْ

 

ومضتْ على عجلٍ ، فجاءَتْها تواسيها  البنـــــاتُ

يسألنَ – يا تعبَ الطفولةِ – : ما الحياةُ ؟ ومـا المماتُ ؟

 

اللهُ هل يرضيهِ موتُ الطِّفلِ ؟ هل يغنيه  شَيـــــا ؟

واللهُ كيفَ يُحبُّه ميتاً ؟ وَيَعرِضُ عنه حَيَّـــــــا ؟

 

قالت وفاءُ : لسوفَ يغدو الطفلُ في الجناتِ  طيـــرا

وتُجيبُ هندٌ : لا ، فقد صَنعوا له كفناً وقبــــــرا

 

قالت عبيرُ: هبيه طيرا ، أين يرقدُ حينَ يتعـــــبْ ؟

أ تُراهُ يبكي مثلَنا ؟ أ تُراهُ يلعبُ حين  نلعــــــبْ ؟

 

وتقول سلوى : من يغطيهِ إذا ألقى اللحافـــــــا ؟

من ذا يُسَرِّحُ شعرَه ؟ ويضمُه إن كان  خافــــــا ؟

 

ومنى تساءلُ : من يقصُّ عليهِ في الليلِ  الحكايــــا ؟

والله يعرفُها ، ويعرفُ كلَّ ما صنعَ البرايـــــــا

 

قالوا لنا : إنّ العقابَ يصيبُ أصحابَ الذ نـــــوبِ

قولوا لنا : ماذا جنى الطفلُ البريءُ من العُيــــوبِ ؟

 

ومضى التساؤلُ ، والبناتُ يجبن أو يصغين سمعـــا

وخرسْتُ – يُعييني جوابُ صغارنا ، وأضيقُ  ذَرعــا

 

إنَّ الجوابَ على سؤالِ الطفلِ مفتعلٌ سخيــــــفُ

وتساويا : غِرٌّ يردد ما يقالُ ، وفيلســــــــوفُ

 

وأخوكِ منصفُ ، خلفَ نعشِكِ ، يملأُ الدنيا عويلُـــهْ

من ذا ينافسُه غداً في طولهِ ، إن زادَ طولُــــــهْ ؟

 

وشروقُ لا تخفينَ مُشطَكِ أو دُماكِ الشُّقرَ عنهـــــا

من ذا ينازعُها الثيابَ ؟ ومن يغارُ عليَّ منهــــــا ؟

 

وأخوكِ منقذُ هل يخافُ عليكِ حينَ نزلتِ  قَبــــركْ ؟

قد كانَ يخشى أن يداعبَ ناعمُ الأنسامِ ثغــــــركْ

 

أ ذكرتِ – في غمراتِ موتكِ – أمكِ الصغرى  خزامى ؟

ناديتِها : ماما ! فصاحتْ وانتشتْ : يا روحَ مــامــا ؟

 

من ذا يهزُّ البيتَ بالضحكاتِ – طولَ اليومِ – هـــزَّا

الضحكُ ماتَ ، وكانَ لي – في غمرةِ الأحزانِ –   كنزا

 

من ذا إذا غنّى ( حليمُ ) يظلُّ يرقصُ أو يُغنّـــــي ؟

عودي وغَنّي ، وارقصي وخذي بقايا العمرِ منّــــي

ــــــ 4

قصيدة وقصيدة

يا ربُّ أنتَ وهبتَ لي بنتي ، وأنتَ  حرمتنيهـــــا

زين سماءَكِ بالورودِ ، فما خلقتَ لها  شبيهــــــا

 

هذي ابنتي أبدعتَها فأجدتَها خُلُقاً وخَلْقـــــــــا

أودَعتَها فرددتُها لكِ ، والودائعُ ليس   تبقــــــى

 

يا ربِّ ! أنتَ قضيتَ لي ، وأنا صبرتُ لما قضيتـــا

حسبي وحسبُكَ أنني أرضى الذي ترضاهُ  أنتـــــا

 

آمنتُ باللهِ العظيمِ ، وعشتُ للألمِ العظيــــــــمِ

آمنتُ أني ذرَّةٌ في ملكهِ الرَّحْبِ  القديـــــــــمِ

 

آمنتُ لا أني أريدُ الربحَ ، أو أخشى  الخَســـــارهْ

آمنتُ إيمانَ الهُدى ، وتركتُ للنَّاسِ  التجــــــارهْ

 

يا ربِّ ! خُذني حيثُ شئتَ فإنني بعضَ الضَّحايــــا

لا تُحصِ أوزاري ، إذا كُشِفَ الحجابُ عنِ  الخطايــا

 

كم قلتَ لي : مهلاً ، ولكنّي عكفتُ على  الذُّنـُـــوبِ

لمْ أقضِ بالورعِ الشبابَ ، ولمْ يوقرني  مشيبـــــي

 

أنتَ الجميلُ ، وقدْ عرفتُكَ خالقاً يهوى الجميـــــلا

لا تتركِ الديدانَ تأكلُ وجهَها الحلوَ  النبيـــــــلا

 

يا ربِّ ! زينتَ السَّماءَ بأنجمٍ زُهْرٍ  مُنيـــــــرهْ

فعلامَ تَحرِمُ أهل بيتي قَبْسةً منها  صغيـــــــرهْ ؟

 

يا ربِّ ! بيتُكَ باذخُ الأرجاءِ ، عالٍ في السَّمـــــاءِ

فعلامَ تهدمُ بيتي المصنوعَ مِنْ طينٍ ومـــــــاءِ ؟

 

يا ربِّ ! قدْ جَربْتُ منذُ سنينَ – يومَ فُجِعْـتُ – كُفـري

واليومَ ها أنذا أمارسُ حلوَ إيماني و صَبــــــري

 

يا ربِّ ! عفوكَ – إن أطقْتَ العفوَ – عن تلكَ  القصيـدهْ

هذا اعتذاري سَطَّرتْه اليومَ مأساةٌ جديــــــــدهْ

 

جربتَني يَوْمَينِ : يَوْمَ رِضَاً عليَّ ويَوْمَ  نَقْمَــــــهْ

في تلكِ إيمانُ العذابِ ، وهذهِ إيمانُ رحمَـــــــهْ

 

إنَّ التناقُضَ في  حَيَاتي لمْ يَزلْ – كَالرُوحِ سّـِــــرا

مثلَ الرَّمادِ تخالني طوراً ، ومِثْلَ النَّارِ  طَـــــورا

 

إبليسُ في بُرْدي يُنازِعُ جَهرَةً مَلَكاً  رَحيمـــــــا

ما أعْجَبَ الإنسانَ : إنساناً وشَيطاناً رجيمـــــــا

ــــــ 5

خبز المآسي

يا طِفْلتي ! يا وردتي ! يا نورَ عَيْنَي ! يا ضِيائــــي

ثُرْنا وعُدْنا صاغرينَ نُقِرُّ أحكامَ  السَّمــــــــاءِ

 

أ ورودُ ! هذا ما أرادِ اللهُ ، لا ما نحنُ شِئْنـــــــا

ونظلُّ لا ندري : علامَ أتى بنا ؟ وعلامَ متنــــــا ؟

 

وغداً إذا جَاءَ الحسابُ ، ورحتُ أهوي للجحيـــــمِ

لا تأخذي يا وردتي بيدي إلى دارِ النعيــــــــمِ

 

خَلّي أباكِ ، فَمَا يَرى بشفَاعَةِ الأطفالِ حقـّــــــا

أنَا للشقاءِ خُلِقْتُ في الدُّنيا ، وفي الأُخرى  سأشقـــى

 

لا تَحسَبي أني لآلامي – التي قاسيُتُ –  نـــــاسِ

إِنّي لآكُلُ – مُذْ خُلِقْتُ لِشقوتي – خُبْزَ المآســـــي

 

ما زلتُ أقضمُ لُقمَتي مغموسةً بدمي  حَقيــــــرهْ

مازلتُ أشربُ جرعتي ممزوجَةً دمعاً  عسيـــــرهْ

 

قد كنتُ في شَرخِ الشبابِ أُصارعُ الأقدارَ فَـــــردا

فتركتِني وحدي عجوزاً لاهثاً عَرَقاً وكَــــــــدا

 

رافقتِني في رحلتي أيَّامَ  أرفُلُ في شَبابــــــــي

وتَركتِني لمّا كبرتُ ، فكادَ يقتُلُني  مُصابـــــــي

 

أينَ الوفاءُ ؟ فهل جنحتِ منَ الوفاءِ إِلى  العقــــوقِ ؟

أينَ الحنانُ على أبٍ لمْ يَنسَ ما لكِ مِنْ حُقـــــوقِ ؟

 

في كلِّ يومٍ يا ورودَ يَزورنا خِطبٌ جديــــــــدُ

كلٌّ يريدُ ، ويَنثني ، واللهُ يفعلُ ما  يريــــــــدُ

 

أنَا لمْ أُمَتّعْ ناظريَّ بوجهِكِ الحُلوِ الحبيــــــــبِ

قد كنتُ أخشى أن أراكِ ، وأنْ أمَسَّكِ من  قريــــبِ

 

واليومَ هذا الوجهَ يأكُلُ حِسنَهُ نمــــــــلٌ  ودودُ

يا ليتَني متّعتُ عيني من جمالكِ يــــــــا ورودُ

 

جاوزتُ خمسينَ السنينَ ، وكنتُ أحلمُ في  بقائـِـــكْ

ومضيتُ والخمسونَ تصرخُ بي لأسرعَ في  لقائِـــكْ

 

” إِنْ سارَ مَنْ خَلْفَ الفتى وَ أَمَامَهُ ، فالمَرءُ سائِـــرْ ”

ما لي أقيمُ ؟ وطِفلتي قَبلي تواريها  المقابِــــــرْ ؟

 

ـــــ 6

عضو يتقطع

 

قالوا : نظمتَ قصيدةً وسَكَتَّ ، قلتُ : وأينَ قلبــــي ؟

ووجدتُهُ يبكي ابنتي ، ولقدْ بكى بالأمسِ  حبِّـــــي

 

 

جُرحي الجديدُ أتى لينكأ في زوايا القلبِ جُـــــرحا

جُرحاً قديماً لمْ يَزَلْ ينزو دماً ، وينزُّ قيحـــــــا

 

كلَُ المآسي ذقتُها ، وكأنّها تأبى   فِراقـــــــــا

فوجدت ثكلَ الوالد المفجوعِ أوجعَها  مَذاقـــــــا

 

عضوٌ تَقطّعَ منكَ تبصرُه على الأيدي مُدَمــــــى

وتَدسُّه في التُرابِ ، تحسَبُ دسَّهُ في التربِ غُنمــــا

 

عضوٌ تقطَّعَ مِنكَ تمسِكُهُ عليكَ فلا تُطيــــــــقُ

عُضوٌ تَقطّعَ منكَ يدْفِنُهُ ـ فتشكرُهُ  ـ الصّديـــــقُ

 

عُضوٌ تَقطَّعَ منكَ يُخفيه ـ فَتَلثَمُهُ ـ  الرّغَــــــامُ

عُضوٌ تَقطّّعَ منكَ يُقصيهِ ـ فتصقُلُهُ ـ الرّخـــــامُ

 

عُضوٌ تَقطَّعَ منكَ تلْمَسُ لحمَهُ مِنْ جنسِ لحمـِــــكْ

وإذا تُنادى باسمِهِ فكأنّما نوديتَ باسمـــِــــــكْ

 

أنتَ الذي أبدعتَهُ وغذوتَهُ بدماءِ  قلبـــــــــكْ

وتَخِذتَهُ ذُخْراً يُظَلّلُ دوحُهُ أَعشابَ شيبـِـــــــكْ

 

فإذا رياح الموت تعصف دوحة الروض   الفتيــــه

فحنا عليها العشب يحضنها  بأضلعه  الوفيــــــه

 

أبكيكِ ، بل أبكي وفاتي يا حبيبةُ في  وفاتِــــــكْ

وارى رُفاتي بالِياً أبداً .. يَحِنُّ إلى  رُفاتــِـــــكْ

 

إنّي جنيتُ عليكِ حينَ صَنَعتُ خَلْقَكِ منْ وجــــودي

وحسبتُ أنّي  فيكِ ألقى ما أُحِبُّ منَ  الخـُـــــلُودِ

 

تلكَ الجريمَةُ ‍ يا لَعَارِ الأمِّ والأبِ  والجريمَــــــهْ

يا ليتَني كنتُ العقيمَ ، وليتَها  كانتْ   عقيمَــــــهْ

 

في ولولاتِ الموتِ ما ينسي زغاريدَ    الـــــولادهْ

بحرٌ منَ الآلامِ يطفو فوقَهُ زبدُ السعـــــــــادهْ

ـــــ 7

مأساة أمة ومأساة بيت

يا طفلُ ! يا مجنونُ ! لا يُغني البُكاءُ عنِ الصـِّــراعِ

ما أنتَ أولَ سالِكٍ خَدَعَتْهُ ألوانُ الأفاعــــــــي

 

يا طفلُ ! يا مجنونُ ! نارُكَ ما خبَتْ خمسينَ عامـــا

هوتِ النجومُ ، ولا ترى في ليلكَ الأعمى ظلامــــا

 

قد مالَ ظهرُكَ وانحنى ، وتظلُّ نفسُكَ مستقيمـــــهْ

والشيبُ غطَّى عارضيكَ ، ولستَ تشعرُ  بالهزيمَـــهْ

 

ما زلتَ تؤمنُ بالحياةِ ، وقد أَلفتَ أسى الممـــــاتِ

إنّ التفاؤلَ في الحياةِ يُعينُ في حَمْلِ الحيـــــــاةِ

 

مأساةُ شَعْبي كدْتُ أنسَى عندَها مأساةُ بيتـــــــي

واحسرتا ! دهتِ المصائبُ أمَّتي ، وقَتَلْنَ بِنْتـــــي

 

وطني أَعَزُّ عليَّ مِنْ نفْسي ومنْ أهلي وَمالــــــي

مالي نسيتُ جِراحَهُ ، وذكرتُ جرحي – اليومَ – مالـي ؟

 

وطني يُمَزّقُهُ العدوُّ كما يُمَزّقُهُ  بنــــــــــوهُ

عاشوا على أشلائهِ وتقاسَمُوهُ ومـَــــــــزقوهُ

 

الوحدةُ الغرّاءُ حطَّمها الدخيلُ و ما تــــــــزالُ

تدعو بأعلى صوتِها : أينَ الرجالُ ؟ ولا  رجــــالُ

 

وطني الكبيرُ مُمَزَّقٌ ، فلكُلِّ مَزْرَعَةٍ حُـــــــدودُ

شَعْبي العظيمُ مُوَزَّعٌ ، فلكلِّ مغتصِبٍ  عَبــــــيُد

 

وطني تَموجُ بهِ الدّماءُ  وسَوفَ تغْسِلُهُ   الدّمـــــاءُ

وغداً نوحِّدُهُ وتغمرُهُ المحبَّةُ والرّخــــــــــاءُ

 

يا موطنَ الأحرارِ ! هلْ أبصرتَ أحْرارَ  العُروبَـــهْ ؟

زحفُوا ، فليسَ تصُدُّهم فِئةٌ تكيدُ لهمْ  غريبَــــــهْ

 

مُستَقبلي فَجرُ الشعوبِ ، ولستُ إلاّ صـوتَ  شعبــي

أخلصتُهُ حُبِّي ، وما دنستُ بالأطماعِ حُبّـــــــي

 

قَدْ عشتُ أيّامي على دَرْبِ التحرُّرِ و  الرُّقــــــيِ

وقذفتُ أحجاري على الطُّغيانِ مَعْ شعبــي الأبـــيِّ

 

عَرَّضتُ صدري للرَّصاصِ وأعظُمي لبلى  السُّجــونِ

ووقفت في صفِّ الحضارةِ وقفةَ الرجُلِ الأميـــــنِ

 

الثَّورةُ الحمراءُ كنتُ وقُودَها زمناً   طَويـــــــلا

وهَوى العروبةِ في دمي كالسَّيلِ هـدّارا ً  جليــــلا

 

النصرُ يا ولدي لنا ، ولو أنّنا نحن  الضحايــــــا

ولنا غدٌ وجمالُهُ ، ولَو أنّنا عِشنا   رَعَايــــــــا

 

هُو للشعوبِ عزيزةً ، لا لي ، ولا لكِ يا   صغيـــرهْ

هو للصغارِ ، وكنتِ فيهمْ ، وردةً قُطِفَتْ نضيــــرهْ

 

لو عشتِ أنتِ لزدتِ يومَ النصرِ  لألاء  و  زينَــــهْ

ولكنتِ في تاجِ العروبَةِ ألفَ جَوهرةٍ ثمينـــــــهْ

 

لَو عشْتِ عيدَ الفتحِ ، كُنتِ العيدَ بهجتَهُ وطيبَـــــهْ

ولكُنتِ في عُنوانِهِ : عادت فِلسطِينُ  الحبيبــــــهْ

 

لكِنْ سقطتِ على الطَّريقِ ، وكدتُ أسقـط في   الطَّريقِ

واحسرتا ! جفَّ الندى ، والشمسُ تؤذِنُ  بالشـــروقِ

ــــــ 8

الدّمعة الأخيرةُ

ماتَتْ ورودُ ! ولَم ْ يزلْ في البيتِ عطرُكِ يــا  ورودُ

وأظلُّ اهذي : – إن سُئلتُ متى تعودُ ؟ – غداً  تعــودُ

 

ما زلتُ أهتفُ : يا ورودُ ، إذا أردتُ ســـوى ورودِ

غَلَطٌ أحِبُّ بقاءَهُ ، يدمى لهُ قلبُ الحديـــــــــدِ

 

أ أضُمُّها وأشُمُّها ـ يومَ القيامةِ ـ يا   إلهــــــي ؟

ما لي أغِصُّ بدمْعَتي ؟ ما لي أعَضُّ على  شفاهـــي !؟

 

ما باختياري : كانَ لي بنتٌ فصارت بنتَ  غيـــري

ما باختياري : كانَ لي صِهرٌ فصارَ الموْتُ صِهـْـري

 

دمشق 7 /1 / 1970

على شاطئ الاربعين

شعر:عبد المعين الملوحي

 سهرت ليلةَ بلغتْ الأربعين عام 1956، سهرتُ وسمعتُ الساعة تدق اثنتي عشرةَ دقةً ، وأطفأتُ النورَ بيدي ، وقبلت ُصبية كانتْ في حضني ، قبلتُ ابنتي خزامى ، وتمنيتُ أنْ أقبلَ صبيةً أخرى ولكنها لمْ تكن في حُضني ، بلْ لم تكنْ  في بيتي ، إنها هنالكَ في قبرها في طريق الشام .

كنتُ في تلكَ الليلةَ كثيرَ العنفِ ، كثيرَ المرحِ كنتُ أرقصُ وأغني ، كنتُ في ثورةٍ ، نفسي تتمخض لتلدَ شيئاً واحداً يعيشُ في العام الجديد ومضى الضيوف زوجاً زوجاً ، وفرداً فرداً ، وصعدتُ إلى المكتبة ، ووقفتُ على شرفتها أتأمل الوجودَ .

كانتْ السماءُ صافيةً شديدةَ الصفاءِ ، والنجومُ لامعةً شديدة اللمعان ، إن السماءَ لتصفو أحياناً حتى تقولَ إنها شفافة ، وأنَ النجومَ لتلمع أحياناً حتى تقولَ إنها شموسٌ ، والريحُ باردةٌ

تمرُ على الوجوه فكأنها وخزُ الإبرِ . والقمرُ في السابعةِ عشرةَ منْ عمرهِ يمشي في خيلاء فهو يعرف تمامَ المعرفةِ أنِ ملايينَ القرون قد مرتْ عليه حتى كادَ لا يحصيها عداً ، وأنَ ملايينَ الناسِ يعدونَ هذهِ السنةَ الجديدة من أعمارهمْ القصيرة فلا يكادونَ ينسونَ لها عدا ، وأنهُ في السنة القادمة سيرى وجوه عددٍ كبير من الناس لايراهمْ الآن لأنهمْ لمْ يولدوا .

واعترتني رعشةَ ، إنها ليستْ رعشةَ البرد يا صاحبي ، تلكَ التي اعترت ميرابو وهو يساقُ إلى المقصلة ، ولكنها كانت رعشةَ الموتِ . نعم ‍ إنها رعشةَ الموتَ .. ولعلها أيضاً رعشةُ الحياة .. من يدري ؟ في هذه الليلةَ أقفُ على شاطئ الأربعين من عمري ، أَقفُ عليها وأنا أعلمُ عِلمَ اليقينَ أنها أكثرُ من نصف عمري ، لقد مضى أطول شطرٍ من هذا العمرِ وبقي لي أقصر شطر ، مضتْ الأربعونَ وبقى بعض الأربعينَ …

لقد قضيتُ عشرينَ عاماً من الأربعين الأولى في إيمان مطلق ، وقضيتُ عشرينَ عاماً أخرى في جحودٍ مطلق ، وأريدُ أنْ أقضي ما بقى لي من أيامي في إيمان قلبي ناعمٍ لذيذ وفي استسلام عقلي هادئ عذب ، فمن ذا الذي وزعَ حياتهُ مثلما وزعتها ؟ وعدتُ أنظرُ إلى السماء .

كل شئٍ ساكن .. هذه النجوم ما تزالُ تنظرُ إليكَ ، ساخرةً منك ، هازئة بك . لستُ أنتَ الغبي الوحيدَ الذي نظرَ إليها طويلاً وساءلها طويلاً ثم لم تنظر هي إليهِ قط ولم تجبهُ قط … والسماءُ

صافية .. صافية .. وواسعة واسعة ، إنها تستطيع أنْ تلقي بكَ في ناحيةَ من نواحيها ، فإذا أنتَ ضائعٌ مهما كنتَ تظنُ أنكَ عالمُ ، كما يضيعُ فلاحٌ سوري مسكين تركَ قريته الصغيرة في

 

رأس الجبل لأول مرة فحملته طائرة إلى قلبِ نيويورك … ثم ألقتهُ هناك ، بل علامَ تلقي السماءُ بكَ في ناحيةٍ من نواحيها . إنكَ تستطيعُ أن تحدق فيها لحظات ، فإذا أنتَ ضائع لاتدري أينَ أنتَ …

ثمَ نظرتُ إلى الأرض … المدينة هادئة ، كأنها ماتت في منتصف الليل .. لاإنَ هناكَ نوراً منْ نافذةٍ يسطعُ ثمَ يخبو فجأة.. لقد سهرَ أهلُ ذلكَ البيت في عيد رأسِ السنة ، وهاهم  هؤلاء ينامون الآن .. كلا من قالَ لكَ هذا ؟ لعلَ في تلكَ الغرفة مريضاً لن يعرف نورَ الصباح .. صباح أول يومٍ من السنة الجديدة .

واعترتني رعشة أخرى .. إنها الآن رعشةُ البردِ حقاً ، وجعلتُ أصرخ بملء فمي : كلمات إيماني القديم ، وأحسستُ أن كلَ نقطةٍ في دمي تصرخُ : لاإلهَ إلا اللّه . وأحسستُ في أعماقي أني مؤمن إيماناً لا يعدلهُ إيمان .. ودخلتُ المكتبةَ وجلستُ وراءَ منضدتي وكتبتُ :

سيقول السفهاء من الناس : هذا تناقض . هذا نفاق ؟ وأنا أقول لهمْ في صراحة أنهُ ليسَ نفاقاً ، هكذا كتبت وأنا أنا في كلِ خلجةٍ من خلجاتِ حياتي .. صادقٌ جدُ صادق .

كتبتُ القصيدة ثمَ خرجت من المكتبة ووقفتُ على الشرفةِ ، لقد ملأتُ السحب السماءَ وحجبت النجومَ ، وتوارى القمر إلا دائرةٍ من النورِ تمشي خلفَ الغيوم ، وهطلَ رذاذ من المطر جعلَ يعبثُ بوجهي فأمسحهُ بيدي وأهبطُ الدرج لأنام .. ونمتُ وأنا أسمع من المسجد القريب صوتَ المؤذن يسبح ، ومن الكنائس البعيدة أصواتَ الأجراس ….

 

على شاطئ الأربعين

”  نظــرت إليَّ الأربعـون ”       وكادَ عـــودي الصلد يكسر

فوقفـت  أنظــرُ   للسمــــاء    منـــادياً   :   ” اللّه  أكبــــــر ”

*  *  *

نظــرت إلي الأربعـــون  فأصرخت  “كالثلج”  شـــيبي (1)

فوقفت أنظـــــر للسمــاء منــــادياً :     ” اللّه ربــــــي ”

*   *    *

” اللّه أكبــر ”   إن    مغزاهـــا   التحــرر     والكـــرامهْ

و ” اللّه ربي ”   إن    معناهــــا   التسامح     والســـلامهْ

*  *    *

بـــــكَ آمنـــت   أعماق  قلبي  ،  والتوت  أفعى   لســـــاني

مــلأت   بســـم  الريــــب  أوراقي ،  وعاثــت في كيــــاني

*   *    *

رحماك   ربي ‍‍‍‍  ‍ طالما    اســـرفتُ   في   شــكي   وجهلي

رحماك   ربي  ‍  طالما     قطعــت     بالشهوات    ليــــلي

*    *     *

يا رب !   عفــوك  عن   أثيــم   جاءَ  يرجــو  منك  عفــوا

إني   لاطمع   في   رضـــاك   أرى   بــه     أمنـا  وسلوى

*   *     *

يا رب !   فهمكَ  لا   يطيق  الناس    ،  كل  الناس ،  فهمك

يا رب !  علمك   لا   ينال     الخلق  ،  كل   الخلق ،  علمك

*    *    *

يا رب !   زينت   السمـــــاء    بأنجـم      زهـــر     منــيره

فــاترك     لبيتي     يا إلهي      قبســـة     منهـــا   صغــيرهْ

*     *    *

يا رب !   بيتك   واســـع    الأرجاء     عــــال  في   السماء

فاحفظ ،   إلهي    !   بيتيَ    المصنوع   من  رمـل  و  مــاء

*     *     *

كم  طالَ  بي   عهد  الجنون  ،   فهل مضى  عهد  الجنون ؟

كم  طاب َ لي   زمن  الفتون  ،   فهل  مضى  زمن  الفتون ؟

*      *      *

إني   مشيتُ   موزعــا    نصفَ     الطريق   إلى   ضريحي

أترى    سأمشي   نصفها    الباقي    بأحمــد     و  المسيح  ؟

*      *      *

إني    رأيتُ    أبي     يموت   ،    كأنهُ    يدعى    لعرس …

و يقول   لي    في     نشوة    كالبحر    تغمر    كلَ   نفسي :

*      *       *

لا  يدرك    الإيمــان      بالعقل   الصغير    ولا    الكـــــبير

لا  يدرك    الإيمان     إلا       باختلاجات       الضمير (1)

*      *       *

يا  شيخ     لاتجـزع   !   وكنت      تحبني    حبــا   عنيفــا

إني    أحسكَ    في   العروق    أبـــا   و  إنساناً    شريفــــا

*      *      *

ســـأعود    للإيمـان     يمــلأ    برده     عقـلـي   و  قلبــي

ســـأعود    أحمل   في   دمــي   ربي   و إيمــاني   بشعبي

*      *      *

——————-

(1):كلمة قالها لي والدي الشيخ سعيد ونظمتها الآن

حمص 24/1/1956

 

الغريب

كنت في دمشق وشعرت بغربتي عن أهلي وغربتي في وطني فقلت هذه الأبيات

 

يقولون لي صبراً على ألم النــوى

فمازال يلقى النائبات  غريــبُ

فقلت لهم ما الصبر إلا لجـــازع

وإني عيوف أن يقال   هيــوب

وما أنا بالنائي الغريب ولا الــذي

يروع فؤادي نكبة و كـــروب

لعمرك ما لي في البسيطة  موطـن

وما لي في كل الأنام قريـــب

غريب عن الأرواح لا أفهم الـورى

وإن قيل مولى واشج ونسـيـب

وما ضرني أني حللت ببلــــدة

وغادرتها كالشمس حين  تغيـب

جميع بلاد  الله سيان حرمــــة

لدي وما فيها إلي  حبــيــب

أأعشق أرضاً خانت الناس كلهــم

وكل خؤون ساقط و جنيـــب

غريب وما الخلق   الغريب  بعائبي

وهل بلغ البدرَ المنيرَ  معيــب

وقد كنت إن قالوا أديب وشاعــر

طربت ونفسي عندذاك تطيــب

فاصبحت إن قالوا أديب تمَزفــت

أسى كبدي حتى تكاد تـــذوب

وما قيمة الألقاب إن ما  تفرقــت

لكل دعي شاعر و أديــــب

وقد كنت أهوى أن يقال مهــذب

إذا لج في الحفل الجدال ، خطيب

فأصبحت أهوى يوم أترك  خامـلاً

فكل نبيهٍ في  الأنام  كـــذوب

وما هؤلاء الناس ؟ هل لهم  حجـى

فأهتف من هذا الورى و أهيـب

ألا فليهدمني الزمان  بخطبـــه

فصدري حمول للخطوب  رحيب

وليس عجيباً صبر قلبي على الأسى

ولكن بقائي في الحياة  عجيـب

غريب أنا عن موطني وعن الورى

وما أنا في أهل السماء غريـب

– 1935

نجوى حمص

نجوى حمص

بلدي ومسقط رأسي

بقلم عبد المعين الملوحي

 

تمهيد: حب الوطن

1-روي ان اأبان بن سعيد قدم على رسول الله (ص) فقال: يا أبان كيف تركت أهل مكة؟ قال: تركتهم وقد جيدروا (أمطروا) وتركت الاذخر (نبات طيب الرائحة) وقد أغدق (أزهر وأثمر) وتركت الثمام (نبت في البادية) وقد حاص (أصبح أحوص وكاد يتفتح).

فأغرورقت عيناه صلى الله عليه وسلم.

2-أوصى (الاسكندر) ان تحمل رمته (جثته) في تابوت من ذهب إلى بلاده، حبا لوطنه.

3-لما غزا (اسفنديار) بلاد الخزر اعتل بها، فقيل له ما تشتهي؟ قال: شمة من تربة بلخ وشربة من واديها

4-قالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة ابويك، اذا كان غذاؤك منهما وغذاؤهما منه.

5-قال الجاحظ: رأيت المتفلسف من البرامكة اذا سافر أخذ معه تربة مولده في جراب يتداوى به.

6-قال جبران خليل جبران:

أ-أحن إلى بلادي لجمالها، واحب سكان بلادي لتعاستهم

ب- أحب مسقط راسي ببعض محبتي لبلادي، وأحب بلادي بقسم من محبتي للأرض وطني الحقيقي.

7-وقال ابن الرومي يذكر داره في بغداد ويسميها وطنه

ولي وطن آليت ألا أبيعه

وألا أرى غيري له الدهر مالكا

***

 

النشيد الأول

(ما أعطتني حمص)

يا حمص!

يا بلدي!

يا مثوى آبائي وأجدادي!

ترابك الاحمر صاغ جسدي،

حجارتك الصلبة قدت مبادئي،

ماؤك العذب أنبت عواطفي،

ريحك العاصفة نسجت جنوني،

أغصانك المياسة ألهمتني حناني.

يا حمص!

يا بلدي!

يا مثوى آبائي وأجدادي.

 

***

 

النشيد الثاني

(كيف تكونت طبيعة حمص؟)

قالت جبال العلويين لجبال عكار:

–                  ألا تحبين حمص؟

–                  قالت: بلى!

–                  قالت: إذن فتعالي نفترق قليلا لتتنفس

–                  كان ذلك في الدور الثالث

***

قالوا: تجمعت أنهار الشام ذات يوم وقالت: تعالين نمضي الى الجنوب، وقال اكبرها: بل سأمضي الى الشمال.

وسألته الانهار: ولماذا أيها العاصي؟

قال لأسقي حمص وأهل حمص.

***

قالوا: اجتمعت العقارب، ذات يوم، وقال لها كبيرها:

تعالين نترك هذه التربة الطيبة، كيلا نؤذي أهلها الابرار.

وأطاعته رعاياه.

ومنذ ذلك اليوم لا تعيش العقارب في حمص

***

أرأيت يا حمص كيف أحبتك الجبال فانشقت لتتنفسي.

وأحبتك الانهار فتمردت لتشربي.

وهابتك العقارب فغادرتك لتطمئني.

***

 

النشيد الثالث

(سماؤها، ارضها، أنهارها)

 

يا حمص!

يا حبيبتي!

كيف لا أحبك؟

وسماؤك أحلى سماء،

وبرجك (برج الزهرة) أكثر النجوم تالقا،

وارضك هربت من الجنة، وهربت معها أسراب من الجور العين،

وعاصيك أكثر انهار الشام عنفوانا،

وهواؤك أكثر هواء الشام شدة وعصفا،

وحجارتك أقسى أحجار الارض،

وقلوب أهلك أنقى قلوب الناس،

وعيون صباياك أحلى عيون صبايا العالم،

البحر، في غربك، يمدك بنسيمه العليل،

والبادية في شرقك، تلهمك العزة والاباء،

وربما اشتاقت رمالها اليك فهبت عليك،

وأشجارك تنحني ساجدة على ارضك تقبلها شكرا لها لأنها نبتت فيك.

فكيف لا أحب سماءك وأرضك وعيون صباياك؟!

يا حمص!

يا بلدي!

 

***

 

النشيد الرابع

(شعراء حمص)

يا حمص!

شعراؤك لم يرتضوا عنك بديلاً،

ديك الجن لازم ميماسك ليل نهار،

فكأنه شجرة من اشجاره

***

نسيب عريضة مات في غربته،

وأوصى أن تنقل رفاته إليك،

وأن يكون قبره من حجارتك السود

ولكن وصيته لم ينفذها أهل حمص-واحسرتاه-

مالعمل يا نسيب اذا كان اكثر رجال بلدك قد أصابهم الخور(1)؟

مالعمل يا نسي اذا كان اكثر نساء بلدك قد أصابهن الوهن؟

ولذلك فهم منذ اثنتين وخمسين سنة عاجزون عن اعادتك الى بلدك.

***

عبد الباسط الصوفي أراد العودة إليك،

فلما لم يستطع ذلك وهو حي، انتحر، فعاد إليك وهو ميت (2).

وصفي القرنفلي عرف كيف أنكرت حمص نسيباً فآثر بقاءه في بلده.

بل زاد على ذلك فلزم فراش مرضه سنين حتى انتهى ودفن في أرضه (3).

***

 

النشيد الخامس

(وصيتي)

أما أنا فلست بشاعر:

كنت أقرزم (4) أبياتا حينا. وأسجل ما تمليه عليّ مصائبي حينا، ومع ذلك، فأنا أرجوك يا حمص ألا تبخلي علي بقبر كما بخلت على نسيب،

فغذا بخلت علي –وما أظن-

وإذا انا مت في غربتي،

فثقي أن عظامي ستزحف إليك زحفا من الدحداح (5)،

وستشق الارض والجبال شقا

لتتوارى تحت أحجارك السود، وهي تردد (6):

سأودع في أحجارك السود أعظمي

فلا يك -مثل الناس- صخرك قاسيا

 

***

 

النشيد السادس

(زيارتان سنويتان إلى حمص)

يا حمص!

يا بلدي!

يا مثوى آبائي وأجدادي!

لقد انتزعوني من جنتي انتزاعا وشردوني،

وأنا منذ أربعين عاما أعيش بعيد الجسد عنك، قريب الروح منك،

أزورك كل عام مرتين:

في ربيعك الاخضر، وفي خريفك الاصفر

أقبل في كل زيارة أحجارك الكريمة، وأدغدغ خاشعا ترابك الغالي،

فغذا دخلت ما بقي لي من دار أبي صرخت وسمعت الجدران تصرخ معي:

قلت يوما لدار يوم تفانوا     أين سكانك العزاز علينا (7)؟

فأجابت: هنا اقاموا قليلا     ثم راحوا، ولست أعلم أينا؟

أما أنا فأعلم:

لقد راحوا ليعمروا القبور بعد ان عمروا لادور، وتركوا لي هذه الغرفة ولسوف أسكنها أياما ثم اروح كما راحوا.

 

***

النشيد السابع

(نقد ورد)

يا حمص!

واسمع الناس كلما زرتك يتغامزون ويتهامسون: مجنون.

يترك اهله وولده وراحته في دمشق، ليعيش وحيدا في (قصر يلدز (8))

وقد جاوز الثمانين

ويخدع نفسه فيقول (9):

وحسبي من الدنيا كفاف وغرفة

تضم -على ضيق- كتابا ودفترا

إذا سمع الانسان صوت ضميره

تواضع فاستعلى، وأغضى فأبصار

يا ويحهم!

لو أحبوك كما أحببتك لفهموني وعذروني:

أهل حمص كلهم اهلي، أولادها كلهم اولادي، وجودي فيها راحتي وسعادتي.

 

***

 

النشيد الثامن

(من ذاكرة الايام)

 

يا حمص!

يا بلدي!

تعالي أذكرك ببعض ايام شبابي في رحابك:

كنت كل مساء أحمل زادي، وأمضي الى الوعر،

أجلس على ضفة ساقية الخبايا -وقيل الحيايا- حينا،

وأقف أتأمل وادي العاصي الأخضر حينا،

أرى أشجاره تترنح، وأرى حقوله تتموج.

ومن وراء الوادي ينتصب مسجد خالد بن الوليد شامخا،

وخالد يشهر سيفه ويذكرنا بماضينا المجيد (10)،

ويدعونا الى مجد جديد.

وحول المسجد تترامى البيوت،

وأتصور أني أجد بينها بيتي،

وقد أترعته أمي حبا وطهرا، وأترعه أبي إيمانا وتقوى،

وابقى في الوعر حتى ارتعش رعشة البرد لا الخوف،

آكل زادي وأعب ماء الساقية،

وأناجي القمر،

أصحبه من ساعة طلوعه الى ساعة غروبه،

أسأله: الست صديقك الحميم؟

واسمعه يجيب: (عفوا فليس لي صديق،

(في مطلع حياتي كان لي أصدقاء كثيرون،

(فلما رحلوا جميعا وخلفوني وحيدا،

(قررت أن لا يكون لي صديق، خشية أن أفجع به، كما فجعت بمن قبله)

وأغض طرفي وأمسح جرحي واصيح:

-واحسرتاه- حتى القمر ليس له صديق.

 

***

 

النشيد التاسع

(على ضفاف العاصي)

يا حمص!

دعيني أقص عليك حكاية عاصيك يوم كان عاصيا حقا.

كنا إذا زرناه نمد أكفنا ونشرب من مائه النمير،

أو ننبطح على بطوننا ونغب ماءه، بأفواهنا حتى نرتوي.

وكنت أسبح فيه.

كنت أقطعه وانا أمشي على ضفتيه ذهابا وإيابا من الميماس- إلى الجديدة- الى الخراب- إلى المزرعة…

واليوم -واأسفاه- كاد العاص يكون مستنقعا، وكدت أكون عاجزا، زرته مرة فإذا انا
أصرخ:

أرى مستنقع العاصي فأبي    كأني قد فقدت به حبيبي

أهذا كان نهرا -ذات يوم-    نثرت على شواطئه ذنوبي؟

أتذكرين أني نمت على ضفاف عاصي الخراب مرات،

دامت احداها ثلاث ليال متواليات،

وطاحونة العتيقة تغنيني،

وقصباته الرشيقات تتراقص وتغريني،

والقمر يطل عليّ إذا سهرت، ويبصبص من ثقوب خيمتي إذا نمت،

فإذا عدت إلى بيتي، وقد ملأني العاصي صحة ونضارة وقوة

جعلت أسير وأتوارى تحت أغصان الصفصاف وأنشد ما سكبه عاصي الخراب في أذني:

وعدت أساير ظل الغصون   وأطرق إطراقة سامده

أحاذر يسمعني من يمر      وترمقني عينه الراصده

شذوذ نعمت به في الحياة    أظل -وإن لمتها- حامدة!

وغني لأوحد من في الوجود   فيالهف نفسي إلى واحده

ولقد وجدت تلك الواحدة ايها العاصصي!

ولكنها (مرت وتركتني أعيش (11))

 

***

 

النشيد العاشر

(في حمص أستعيد شبابي)

 

يا بلدي!

كلما زرتك شعرت بدم جديد يسري في عروقي، وبنشاط عجيب يدب في أوصالي، كدت أنسى أني مشلول،

كدت ألقي عكازي المشؤومة،

عكازة الشيخ الذي يدب على الأرض دبيبا،

كدت أمشي مستقيم العود، منتصب القامة،

كدت أهرول،

كدت أثب على الدرج وثبا،

فغذا فعلت ذلك ردتني الثمانون إلى حقيقتي المرة.

كما ردت الخمسون ديك الجن ذات مرة.

ولئن لم تستطيعي يا حمص رد شبابي فحسبك أنك أحييت ذكرياته الحلوة في نفسي.

وحسبي أني آثرت العودة غليك ولو كنت في جنان النعيم.

وحسبي أني آثرت لثم ترابك على لثم ثغر حبيبتي:

ويا وادي العاصي وقد كنت روضة أناجي بها الأحباب، حييت واديا

لئن مزقت أيدي المقادير شملنا       فما زال قلبي صادق الود وافيا

(فإن أستكع في الحشر آتك زائرا) (12)     ولو خطرت حور الجنان أماميا

ولو خيروني لثم ثغر حبيبتي ولثم ثرى ارضي لثمت ترابيا (13)

وإلى اللقاء يا حمص! يا حبيبتي!

يا حبيبتي! يا حمص!

 

دمشق 15/1/1998

 

عبد المعين الملوحي
(1) صرخة نسيب الموجعة وردت في ديوانه (الارواح الحائرة:256

يا دهر قد طال البعاد عن الوطن

هل عودة ترجى وقد فات الظعن؟

عد بي الى حمص ولو حشوا الكفن،

واهتف أتيت بعاثر مردود،

واجعل ضريحي من حجارة سود

(2) قدم عبد الباسط إنذاره بانتحاره المبكر الرهيب في ديوانه 30

رجفة بين حنايا القبر فلأرسل صلاتي

ولأسر كالحلم الغارب لأطو حياتي

(3) رغم ان القرنفلي عرف سلفا وحشته في قبره. ديوانه (وراء السراب) 221

أموت فلا تبكي علي قصيدة

ولا عابر في الدرب يسأل عن قبري

(4) قرزم: يتدرب على نظم الشعر ليتعلمه، كما يتدرب الطفل بالزحف والدبيب حتى يتعلم السير.

(5) مقبرة دمشق، وفيها قبر ابنتي (ورود)

(6) بيت من قصيدتي: عبد المعين الملوحي يرثي نفسه 29

(7) بيتان مؤثران لشاعر قديم.

(8) غرفتي في حمص سميتها جنونا (قصر يلدز).

(9) انظر ديواني (أرجوزة الاحفاد وقصر يلدز: 29

(10) إشارة الى نصبه التذكاري.

(11) كلمة للشاعر الألماني -هنري هاييني- في كتابه (رحلاتي) من ترجمتي 1:107

(12) الشطر الأول للمعري

(13) من قصيدتي (عبد المعين الملوحي يرثي نفسه) 29

المؤلف: عبد المعين الملوحي.

ولد في حمص عام 1917.

شغل وظائف كثيرة

أحيل الى التقاعد عام 1976.

ذهب إلى الصين فمنحته لقب (أستاذ شرف) في جامعة بكين ومنحته فيتنام (وسام الصداقة) وبولونيا (وسام الثقافة)

أصدر حتى الآن 81 مجلد وهذا هو المجلد 82.

 

(هذه النجوى)

نقل الشاعر من حمص فهو يحن إليها حنين الوله.

من أحجارها عظامه، ومن ترابها لحمه، ومن عاصيها دمه، ومن رياحها العاتية جنونه، ومن حفيف أغصانها عاطفته، ومن قلعتها الشامخة إباؤه.

إنها نفحة عاطفية يهديها إلى بلده الحبيب، وهو يردد مع الشاعر العربي:

لا تصبر الابل الجلاد على النوى    حتى تحن ويصبر الانسان