نجوى حمص

نجوى حمص

بلدي ومسقط رأسي

بقلم عبد المعين الملوحي

 

تمهيد: حب الوطن

1-روي ان اأبان بن سعيد قدم على رسول الله (ص) فقال: يا أبان كيف تركت أهل مكة؟ قال: تركتهم وقد جيدروا (أمطروا) وتركت الاذخر (نبات طيب الرائحة) وقد أغدق (أزهر وأثمر) وتركت الثمام (نبت في البادية) وقد حاص (أصبح أحوص وكاد يتفتح).

فأغرورقت عيناه صلى الله عليه وسلم.

2-أوصى (الاسكندر) ان تحمل رمته (جثته) في تابوت من ذهب إلى بلاده، حبا لوطنه.

3-لما غزا (اسفنديار) بلاد الخزر اعتل بها، فقيل له ما تشتهي؟ قال: شمة من تربة بلخ وشربة من واديها

4-قالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة ابويك، اذا كان غذاؤك منهما وغذاؤهما منه.

5-قال الجاحظ: رأيت المتفلسف من البرامكة اذا سافر أخذ معه تربة مولده في جراب يتداوى به.

6-قال جبران خليل جبران:

أ-أحن إلى بلادي لجمالها، واحب سكان بلادي لتعاستهم

ب- أحب مسقط راسي ببعض محبتي لبلادي، وأحب بلادي بقسم من محبتي للأرض وطني الحقيقي.

7-وقال ابن الرومي يذكر داره في بغداد ويسميها وطنه

ولي وطن آليت ألا أبيعه

وألا أرى غيري له الدهر مالكا

***

 

النشيد الأول

(ما أعطتني حمص)

يا حمص!

يا بلدي!

يا مثوى آبائي وأجدادي!

ترابك الاحمر صاغ جسدي،

حجارتك الصلبة قدت مبادئي،

ماؤك العذب أنبت عواطفي،

ريحك العاصفة نسجت جنوني،

أغصانك المياسة ألهمتني حناني.

يا حمص!

يا بلدي!

يا مثوى آبائي وأجدادي.

 

***

 

النشيد الثاني

(كيف تكونت طبيعة حمص؟)

قالت جبال العلويين لجبال عكار:

–                  ألا تحبين حمص؟

–                  قالت: بلى!

–                  قالت: إذن فتعالي نفترق قليلا لتتنفس

–                  كان ذلك في الدور الثالث

***

قالوا: تجمعت أنهار الشام ذات يوم وقالت: تعالين نمضي الى الجنوب، وقال اكبرها: بل سأمضي الى الشمال.

وسألته الانهار: ولماذا أيها العاصي؟

قال لأسقي حمص وأهل حمص.

***

قالوا: اجتمعت العقارب، ذات يوم، وقال لها كبيرها:

تعالين نترك هذه التربة الطيبة، كيلا نؤذي أهلها الابرار.

وأطاعته رعاياه.

ومنذ ذلك اليوم لا تعيش العقارب في حمص

***

أرأيت يا حمص كيف أحبتك الجبال فانشقت لتتنفسي.

وأحبتك الانهار فتمردت لتشربي.

وهابتك العقارب فغادرتك لتطمئني.

***

 

النشيد الثالث

(سماؤها، ارضها، أنهارها)

 

يا حمص!

يا حبيبتي!

كيف لا أحبك؟

وسماؤك أحلى سماء،

وبرجك (برج الزهرة) أكثر النجوم تالقا،

وارضك هربت من الجنة، وهربت معها أسراب من الجور العين،

وعاصيك أكثر انهار الشام عنفوانا،

وهواؤك أكثر هواء الشام شدة وعصفا،

وحجارتك أقسى أحجار الارض،

وقلوب أهلك أنقى قلوب الناس،

وعيون صباياك أحلى عيون صبايا العالم،

البحر، في غربك، يمدك بنسيمه العليل،

والبادية في شرقك، تلهمك العزة والاباء،

وربما اشتاقت رمالها اليك فهبت عليك،

وأشجارك تنحني ساجدة على ارضك تقبلها شكرا لها لأنها نبتت فيك.

فكيف لا أحب سماءك وأرضك وعيون صباياك؟!

يا حمص!

يا بلدي!

 

***

 

النشيد الرابع

(شعراء حمص)

يا حمص!

شعراؤك لم يرتضوا عنك بديلاً،

ديك الجن لازم ميماسك ليل نهار،

فكأنه شجرة من اشجاره

***

نسيب عريضة مات في غربته،

وأوصى أن تنقل رفاته إليك،

وأن يكون قبره من حجارتك السود

ولكن وصيته لم ينفذها أهل حمص-واحسرتاه-

مالعمل يا نسيب اذا كان اكثر رجال بلدك قد أصابهم الخور(1)؟

مالعمل يا نسي اذا كان اكثر نساء بلدك قد أصابهن الوهن؟

ولذلك فهم منذ اثنتين وخمسين سنة عاجزون عن اعادتك الى بلدك.

***

عبد الباسط الصوفي أراد العودة إليك،

فلما لم يستطع ذلك وهو حي، انتحر، فعاد إليك وهو ميت (2).

وصفي القرنفلي عرف كيف أنكرت حمص نسيباً فآثر بقاءه في بلده.

بل زاد على ذلك فلزم فراش مرضه سنين حتى انتهى ودفن في أرضه (3).

***

 

النشيد الخامس

(وصيتي)

أما أنا فلست بشاعر:

كنت أقرزم (4) أبياتا حينا. وأسجل ما تمليه عليّ مصائبي حينا، ومع ذلك، فأنا أرجوك يا حمص ألا تبخلي علي بقبر كما بخلت على نسيب،

فغذا بخلت علي –وما أظن-

وإذا انا مت في غربتي،

فثقي أن عظامي ستزحف إليك زحفا من الدحداح (5)،

وستشق الارض والجبال شقا

لتتوارى تحت أحجارك السود، وهي تردد (6):

سأودع في أحجارك السود أعظمي

فلا يك -مثل الناس- صخرك قاسيا

 

***

 

النشيد السادس

(زيارتان سنويتان إلى حمص)

يا حمص!

يا بلدي!

يا مثوى آبائي وأجدادي!

لقد انتزعوني من جنتي انتزاعا وشردوني،

وأنا منذ أربعين عاما أعيش بعيد الجسد عنك، قريب الروح منك،

أزورك كل عام مرتين:

في ربيعك الاخضر، وفي خريفك الاصفر

أقبل في كل زيارة أحجارك الكريمة، وأدغدغ خاشعا ترابك الغالي،

فغذا دخلت ما بقي لي من دار أبي صرخت وسمعت الجدران تصرخ معي:

قلت يوما لدار يوم تفانوا     أين سكانك العزاز علينا (7)؟

فأجابت: هنا اقاموا قليلا     ثم راحوا، ولست أعلم أينا؟

أما أنا فأعلم:

لقد راحوا ليعمروا القبور بعد ان عمروا لادور، وتركوا لي هذه الغرفة ولسوف أسكنها أياما ثم اروح كما راحوا.

 

***

النشيد السابع

(نقد ورد)

يا حمص!

واسمع الناس كلما زرتك يتغامزون ويتهامسون: مجنون.

يترك اهله وولده وراحته في دمشق، ليعيش وحيدا في (قصر يلدز (8))

وقد جاوز الثمانين

ويخدع نفسه فيقول (9):

وحسبي من الدنيا كفاف وغرفة

تضم -على ضيق- كتابا ودفترا

إذا سمع الانسان صوت ضميره

تواضع فاستعلى، وأغضى فأبصار

يا ويحهم!

لو أحبوك كما أحببتك لفهموني وعذروني:

أهل حمص كلهم اهلي، أولادها كلهم اولادي، وجودي فيها راحتي وسعادتي.

 

***

 

النشيد الثامن

(من ذاكرة الايام)

 

يا حمص!

يا بلدي!

تعالي أذكرك ببعض ايام شبابي في رحابك:

كنت كل مساء أحمل زادي، وأمضي الى الوعر،

أجلس على ضفة ساقية الخبايا -وقيل الحيايا- حينا،

وأقف أتأمل وادي العاصي الأخضر حينا،

أرى أشجاره تترنح، وأرى حقوله تتموج.

ومن وراء الوادي ينتصب مسجد خالد بن الوليد شامخا،

وخالد يشهر سيفه ويذكرنا بماضينا المجيد (10)،

ويدعونا الى مجد جديد.

وحول المسجد تترامى البيوت،

وأتصور أني أجد بينها بيتي،

وقد أترعته أمي حبا وطهرا، وأترعه أبي إيمانا وتقوى،

وابقى في الوعر حتى ارتعش رعشة البرد لا الخوف،

آكل زادي وأعب ماء الساقية،

وأناجي القمر،

أصحبه من ساعة طلوعه الى ساعة غروبه،

أسأله: الست صديقك الحميم؟

واسمعه يجيب: (عفوا فليس لي صديق،

(في مطلع حياتي كان لي أصدقاء كثيرون،

(فلما رحلوا جميعا وخلفوني وحيدا،

(قررت أن لا يكون لي صديق، خشية أن أفجع به، كما فجعت بمن قبله)

وأغض طرفي وأمسح جرحي واصيح:

-واحسرتاه- حتى القمر ليس له صديق.

 

***

 

النشيد التاسع

(على ضفاف العاصي)

يا حمص!

دعيني أقص عليك حكاية عاصيك يوم كان عاصيا حقا.

كنا إذا زرناه نمد أكفنا ونشرب من مائه النمير،

أو ننبطح على بطوننا ونغب ماءه، بأفواهنا حتى نرتوي.

وكنت أسبح فيه.

كنت أقطعه وانا أمشي على ضفتيه ذهابا وإيابا من الميماس- إلى الجديدة- الى الخراب- إلى المزرعة…

واليوم -واأسفاه- كاد العاص يكون مستنقعا، وكدت أكون عاجزا، زرته مرة فإذا انا
أصرخ:

أرى مستنقع العاصي فأبي    كأني قد فقدت به حبيبي

أهذا كان نهرا -ذات يوم-    نثرت على شواطئه ذنوبي؟

أتذكرين أني نمت على ضفاف عاصي الخراب مرات،

دامت احداها ثلاث ليال متواليات،

وطاحونة العتيقة تغنيني،

وقصباته الرشيقات تتراقص وتغريني،

والقمر يطل عليّ إذا سهرت، ويبصبص من ثقوب خيمتي إذا نمت،

فإذا عدت إلى بيتي، وقد ملأني العاصي صحة ونضارة وقوة

جعلت أسير وأتوارى تحت أغصان الصفصاف وأنشد ما سكبه عاصي الخراب في أذني:

وعدت أساير ظل الغصون   وأطرق إطراقة سامده

أحاذر يسمعني من يمر      وترمقني عينه الراصده

شذوذ نعمت به في الحياة    أظل -وإن لمتها- حامدة!

وغني لأوحد من في الوجود   فيالهف نفسي إلى واحده

ولقد وجدت تلك الواحدة ايها العاصصي!

ولكنها (مرت وتركتني أعيش (11))

 

***

 

النشيد العاشر

(في حمص أستعيد شبابي)

 

يا بلدي!

كلما زرتك شعرت بدم جديد يسري في عروقي، وبنشاط عجيب يدب في أوصالي، كدت أنسى أني مشلول،

كدت ألقي عكازي المشؤومة،

عكازة الشيخ الذي يدب على الأرض دبيبا،

كدت أمشي مستقيم العود، منتصب القامة،

كدت أهرول،

كدت أثب على الدرج وثبا،

فغذا فعلت ذلك ردتني الثمانون إلى حقيقتي المرة.

كما ردت الخمسون ديك الجن ذات مرة.

ولئن لم تستطيعي يا حمص رد شبابي فحسبك أنك أحييت ذكرياته الحلوة في نفسي.

وحسبي أني آثرت العودة غليك ولو كنت في جنان النعيم.

وحسبي أني آثرت لثم ترابك على لثم ثغر حبيبتي:

ويا وادي العاصي وقد كنت روضة أناجي بها الأحباب، حييت واديا

لئن مزقت أيدي المقادير شملنا       فما زال قلبي صادق الود وافيا

(فإن أستكع في الحشر آتك زائرا) (12)     ولو خطرت حور الجنان أماميا

ولو خيروني لثم ثغر حبيبتي ولثم ثرى ارضي لثمت ترابيا (13)

وإلى اللقاء يا حمص! يا حبيبتي!

يا حبيبتي! يا حمص!

 

دمشق 15/1/1998

 

عبد المعين الملوحي
(1) صرخة نسيب الموجعة وردت في ديوانه (الارواح الحائرة:256

يا دهر قد طال البعاد عن الوطن

هل عودة ترجى وقد فات الظعن؟

عد بي الى حمص ولو حشوا الكفن،

واهتف أتيت بعاثر مردود،

واجعل ضريحي من حجارة سود

(2) قدم عبد الباسط إنذاره بانتحاره المبكر الرهيب في ديوانه 30

رجفة بين حنايا القبر فلأرسل صلاتي

ولأسر كالحلم الغارب لأطو حياتي

(3) رغم ان القرنفلي عرف سلفا وحشته في قبره. ديوانه (وراء السراب) 221

أموت فلا تبكي علي قصيدة

ولا عابر في الدرب يسأل عن قبري

(4) قرزم: يتدرب على نظم الشعر ليتعلمه، كما يتدرب الطفل بالزحف والدبيب حتى يتعلم السير.

(5) مقبرة دمشق، وفيها قبر ابنتي (ورود)

(6) بيت من قصيدتي: عبد المعين الملوحي يرثي نفسه 29

(7) بيتان مؤثران لشاعر قديم.

(8) غرفتي في حمص سميتها جنونا (قصر يلدز).

(9) انظر ديواني (أرجوزة الاحفاد وقصر يلدز: 29

(10) إشارة الى نصبه التذكاري.

(11) كلمة للشاعر الألماني -هنري هاييني- في كتابه (رحلاتي) من ترجمتي 1:107

(12) الشطر الأول للمعري

(13) من قصيدتي (عبد المعين الملوحي يرثي نفسه) 29

المؤلف: عبد المعين الملوحي.

ولد في حمص عام 1917.

شغل وظائف كثيرة

أحيل الى التقاعد عام 1976.

ذهب إلى الصين فمنحته لقب (أستاذ شرف) في جامعة بكين ومنحته فيتنام (وسام الصداقة) وبولونيا (وسام الثقافة)

أصدر حتى الآن 81 مجلد وهذا هو المجلد 82.

 

(هذه النجوى)

نقل الشاعر من حمص فهو يحن إليها حنين الوله.

من أحجارها عظامه، ومن ترابها لحمه، ومن عاصيها دمه، ومن رياحها العاتية جنونه، ومن حفيف أغصانها عاطفته، ومن قلعتها الشامخة إباؤه.

إنها نفحة عاطفية يهديها إلى بلده الحبيب، وهو يردد مع الشاعر العربي:

لا تصبر الابل الجلاد على النوى    حتى تحن ويصبر الانسان

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *