على شاطئ الاربعين

شعر:عبد المعين الملوحي

 سهرت ليلةَ بلغتْ الأربعين عام 1956، سهرتُ وسمعتُ الساعة تدق اثنتي عشرةَ دقةً ، وأطفأتُ النورَ بيدي ، وقبلت ُصبية كانتْ في حضني ، قبلتُ ابنتي خزامى ، وتمنيتُ أنْ أقبلَ صبيةً أخرى ولكنها لمْ تكن في حُضني ، بلْ لم تكنْ  في بيتي ، إنها هنالكَ في قبرها في طريق الشام .

كنتُ في تلكَ الليلةَ كثيرَ العنفِ ، كثيرَ المرحِ كنتُ أرقصُ وأغني ، كنتُ في ثورةٍ ، نفسي تتمخض لتلدَ شيئاً واحداً يعيشُ في العام الجديد ومضى الضيوف زوجاً زوجاً ، وفرداً فرداً ، وصعدتُ إلى المكتبة ، ووقفتُ على شرفتها أتأمل الوجودَ .

كانتْ السماءُ صافيةً شديدةَ الصفاءِ ، والنجومُ لامعةً شديدة اللمعان ، إن السماءَ لتصفو أحياناً حتى تقولَ إنها شفافة ، وأنَ النجومَ لتلمع أحياناً حتى تقولَ إنها شموسٌ ، والريحُ باردةٌ

تمرُ على الوجوه فكأنها وخزُ الإبرِ . والقمرُ في السابعةِ عشرةَ منْ عمرهِ يمشي في خيلاء فهو يعرف تمامَ المعرفةِ أنِ ملايينَ القرون قد مرتْ عليه حتى كادَ لا يحصيها عداً ، وأنَ ملايينَ الناسِ يعدونَ هذهِ السنةَ الجديدة من أعمارهمْ القصيرة فلا يكادونَ ينسونَ لها عدا ، وأنهُ في السنة القادمة سيرى وجوه عددٍ كبير من الناس لايراهمْ الآن لأنهمْ لمْ يولدوا .

واعترتني رعشةَ ، إنها ليستْ رعشةَ البرد يا صاحبي ، تلكَ التي اعترت ميرابو وهو يساقُ إلى المقصلة ، ولكنها كانت رعشةَ الموتِ . نعم ‍ إنها رعشةَ الموتَ .. ولعلها أيضاً رعشةُ الحياة .. من يدري ؟ في هذه الليلةَ أقفُ على شاطئ الأربعين من عمري ، أَقفُ عليها وأنا أعلمُ عِلمَ اليقينَ أنها أكثرُ من نصف عمري ، لقد مضى أطول شطرٍ من هذا العمرِ وبقي لي أقصر شطر ، مضتْ الأربعونَ وبقى بعض الأربعينَ …

لقد قضيتُ عشرينَ عاماً من الأربعين الأولى في إيمان مطلق ، وقضيتُ عشرينَ عاماً أخرى في جحودٍ مطلق ، وأريدُ أنْ أقضي ما بقى لي من أيامي في إيمان قلبي ناعمٍ لذيذ وفي استسلام عقلي هادئ عذب ، فمن ذا الذي وزعَ حياتهُ مثلما وزعتها ؟ وعدتُ أنظرُ إلى السماء .

كل شئٍ ساكن .. هذه النجوم ما تزالُ تنظرُ إليكَ ، ساخرةً منك ، هازئة بك . لستُ أنتَ الغبي الوحيدَ الذي نظرَ إليها طويلاً وساءلها طويلاً ثم لم تنظر هي إليهِ قط ولم تجبهُ قط … والسماءُ

صافية .. صافية .. وواسعة واسعة ، إنها تستطيع أنْ تلقي بكَ في ناحيةَ من نواحيها ، فإذا أنتَ ضائعٌ مهما كنتَ تظنُ أنكَ عالمُ ، كما يضيعُ فلاحٌ سوري مسكين تركَ قريته الصغيرة في

 

رأس الجبل لأول مرة فحملته طائرة إلى قلبِ نيويورك … ثم ألقتهُ هناك ، بل علامَ تلقي السماءُ بكَ في ناحيةٍ من نواحيها . إنكَ تستطيعُ أن تحدق فيها لحظات ، فإذا أنتَ ضائع لاتدري أينَ أنتَ …

ثمَ نظرتُ إلى الأرض … المدينة هادئة ، كأنها ماتت في منتصف الليل .. لاإنَ هناكَ نوراً منْ نافذةٍ يسطعُ ثمَ يخبو فجأة.. لقد سهرَ أهلُ ذلكَ البيت في عيد رأسِ السنة ، وهاهم  هؤلاء ينامون الآن .. كلا من قالَ لكَ هذا ؟ لعلَ في تلكَ الغرفة مريضاً لن يعرف نورَ الصباح .. صباح أول يومٍ من السنة الجديدة .

واعترتني رعشة أخرى .. إنها الآن رعشةُ البردِ حقاً ، وجعلتُ أصرخ بملء فمي : كلمات إيماني القديم ، وأحسستُ أن كلَ نقطةٍ في دمي تصرخُ : لاإلهَ إلا اللّه . وأحسستُ في أعماقي أني مؤمن إيماناً لا يعدلهُ إيمان .. ودخلتُ المكتبةَ وجلستُ وراءَ منضدتي وكتبتُ :

سيقول السفهاء من الناس : هذا تناقض . هذا نفاق ؟ وأنا أقول لهمْ في صراحة أنهُ ليسَ نفاقاً ، هكذا كتبت وأنا أنا في كلِ خلجةٍ من خلجاتِ حياتي .. صادقٌ جدُ صادق .

كتبتُ القصيدة ثمَ خرجت من المكتبة ووقفتُ على الشرفةِ ، لقد ملأتُ السحب السماءَ وحجبت النجومَ ، وتوارى القمر إلا دائرةٍ من النورِ تمشي خلفَ الغيوم ، وهطلَ رذاذ من المطر جعلَ يعبثُ بوجهي فأمسحهُ بيدي وأهبطُ الدرج لأنام .. ونمتُ وأنا أسمع من المسجد القريب صوتَ المؤذن يسبح ، ومن الكنائس البعيدة أصواتَ الأجراس ….

 

على شاطئ الأربعين

”  نظــرت إليَّ الأربعـون ”       وكادَ عـــودي الصلد يكسر

فوقفـت  أنظــرُ   للسمــــاء    منـــادياً   :   ” اللّه  أكبــــــر ”

*  *  *

نظــرت إلي الأربعـــون  فأصرخت  “كالثلج”  شـــيبي (1)

فوقفت أنظـــــر للسمــاء منــــادياً :     ” اللّه ربــــــي ”

*   *    *

” اللّه أكبــر ”   إن    مغزاهـــا   التحــرر     والكـــرامهْ

و ” اللّه ربي ”   إن    معناهــــا   التسامح     والســـلامهْ

*  *    *

بـــــكَ آمنـــت   أعماق  قلبي  ،  والتوت  أفعى   لســـــاني

مــلأت   بســـم  الريــــب  أوراقي ،  وعاثــت في كيــــاني

*   *    *

رحماك   ربي ‍‍‍‍  ‍ طالما    اســـرفتُ   في   شــكي   وجهلي

رحماك   ربي  ‍  طالما     قطعــت     بالشهوات    ليــــلي

*    *     *

يا رب !   عفــوك  عن   أثيــم   جاءَ  يرجــو  منك  عفــوا

إني   لاطمع   في   رضـــاك   أرى   بــه     أمنـا  وسلوى

*   *     *

يا رب !   فهمكَ  لا   يطيق  الناس    ،  كل  الناس ،  فهمك

يا رب !  علمك   لا   ينال     الخلق  ،  كل   الخلق ،  علمك

*    *    *

يا رب !   زينت   السمـــــاء    بأنجـم      زهـــر     منــيره

فــاترك     لبيتي     يا إلهي      قبســـة     منهـــا   صغــيرهْ

*     *    *

يا رب !   بيتك   واســـع    الأرجاء     عــــال  في   السماء

فاحفظ ،   إلهي    !   بيتيَ    المصنوع   من  رمـل  و  مــاء

*     *     *

كم  طالَ  بي   عهد  الجنون  ،   فهل مضى  عهد  الجنون ؟

كم  طاب َ لي   زمن  الفتون  ،   فهل  مضى  زمن  الفتون ؟

*      *      *

إني   مشيتُ   موزعــا    نصفَ     الطريق   إلى   ضريحي

أترى    سأمشي   نصفها    الباقي    بأحمــد     و  المسيح  ؟

*      *      *

إني    رأيتُ    أبي     يموت   ،    كأنهُ    يدعى    لعرس …

و يقول   لي    في     نشوة    كالبحر    تغمر    كلَ   نفسي :

*      *       *

لا  يدرك    الإيمــان      بالعقل   الصغير    ولا    الكـــــبير

لا  يدرك    الإيمان     إلا       باختلاجات       الضمير (1)

*      *       *

يا  شيخ     لاتجـزع   !   وكنت      تحبني    حبــا   عنيفــا

إني    أحسكَ    في   العروق    أبـــا   و  إنساناً    شريفــــا

*      *      *

ســـأعود    للإيمـان     يمــلأ    برده     عقـلـي   و  قلبــي

ســـأعود    أحمل   في   دمــي   ربي   و إيمــاني   بشعبي

*      *      *

——————-

(1):كلمة قالها لي والدي الشيخ سعيد ونظمتها الآن

حمص 24/1/1956

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *