لتحميل الجزء الثاني من كتاب ((شظايا من عمري))
الأرشيف: الأعمال
نجوى حجر
الى احجار بلادي
التي تجأربالشكوى
من انسان بلادي
عبد المعين الملوحي
صدر عام 1971
تمثيلية الله وبلانكوبوسني الحقيقي
رواية سورا بير (المتمرد)
في هذه الرواية التي نضعها مترجمة بين أيدي القراء العرب للكاتب ( انطوان ستراشيميروف ) , نجد الحديث قليلا عن حياة الشعب
هنا كل شئ يصدح كأغنية شجية , وأكثر من هذا أيضا , فنحن لانلاحظ في هذا الأثر تلك العبارات الجاهزة التي نصادفها في كثير من آثار الكاتب الأخرى .
إن “سورابير” العثماني رجل برتبة (بيرقدار) وهو جميل وقوي ورهيب وحاد المزاج , تمتد صلاحياته عبر شبه جزيرة البلقان , من الغابات المجنونة قرب نهر الدانوب إلى قمم جبل شار الأسطوري , ولكن هذا الرجل ذا الطبيعة المتمردة التي جمعت بين ثورة شخصية من اجل المجتمع ورغبة دائمة في النفوذ هو شخصية متناقصة ومدينة , لاتتورع عن فعل أي شئ عندما تصطدم مصالحها بالقيم الأخلاقية , بيد أننا لانكون عادلين تماما اذا ما حاولنا إبداء رأينا بهذا الأثر الستراشيميروفي دون أن نذكر أنه من الابداعات الرومانتيكية التي لايجوز الحكم عليها إلا من هذا المنطق
الدفاع عن اللغة العربية
دفاع عن اللغة العربية والتراث العربي
الى كل عربي يحرص على لغته حرصه على قوميته
ويعتز بتراثة اعتزازة بامته
اهدي هذا الكتاب
بلدي الحبيب حمص
الأدب في بلادنا مهنة الحزن والألم والشقاء
لقاء مع الكاتب والمترجم
” عبد المعين الملوحي “
الأدب في بلادنا مهنة الحزن والألم والشقاء
الخيال مهما جمح يظل اقل خصباً من الحياة
المساء ـ لبنان ـ العدد /292/ التاريخ 18/7/1988
أجرت الحوار : وفاء الخشن
مقدمة :
عبد المعين الملوحي كاتب ومترجم منذ أكثر من نصف قرن ، بدأ عمله الأدبي في العام 1936 ونشر أول كتاب في القاهرة عام 1945 وكان بعنوان ” ذكرياتي الأدبية ” لمكسيم غوركي ، نشر حتى الآن 67 كتاباً ، في التأليف والتحقيق والترجمة ، ونشر في الصحف أكثر من ثلاثة آلاف مقال وبحث وقصيدة ، عبد المعين الملوحي في مكتبته الآن مائتا مخطوطة تنتظر النشر . ومع ذلك فإنّ الكثيرين لا يعرفون اسم عبد المعين الملوحي ، لكن هذا لا يقلل من أهمية هذا الكاتب ـ المترجم الذي يمكن القول بثقة أنّه استطاع ـ فيما أمكننا الاطلاع عليه من الأعمال التي ترجمها ـ نقل نبض اللغة حتى بدا كتاب ككتاب رسول حمزاتوف ” داغستان بلدي ” ، وكأنّه كتب بالعربية كلغة أم ، عبد المعين الملوحي الذي ولد في العام 1917 ومازال يعمل ، أجرت معه مراسلتنا في دمشق وفاء الخشن هذا الحديث وكان السؤال الأول حول السبب الذي جعل مخطوطاته تقبع في أدراج خزانته ، وهنا نص الحديث مع الموحي :
ـ لأنّ أحوالي المادية لاتساعد على نشر هذه الكتب على نفقتي الخاصة ، ودور النشر كما هو معلوم لا تقدم على نشر مجموعات كثيرة ، مثلاً ترجمت الشعر البولوني من أول عصوره وحتى الآن في كتاب يقع في حوالي ألف صفحة ، ثم الشعر الهنغاري من أول عصوره حتى الآن في ثمانمائة صفحة ، ولم تنشر دور النشر هذين الكتابين لأنهما كبيران والطباعة مكلفة ، ثم أنني جربت وياللأسف دور النشر الخاصة فلم أكن أحصل منها على قرش واحد .
” داغستان بلدي ” هذا الكتاب ربحت منه دار النشر ما لا يقل عن مئة وخمسين ألف ليرة ، لم أحصل منها إلاّ على ألف ومئة وست ليرات فقط . ومجلدان كبيران لهنري هايني نشرتهما إحدى الدور في بيروت ولم تعطني قرشاً سورياً واحداً.
ثم أعطاني صديق في حمص ألف ليرة حيث كان يتولى بيع كتبي التي نشرتها تلك الدار .
في بيروت نشرت ” حق الشعوب في تقرير مصيرها ” و “مذكرات جاسوس” و ” دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع ” وأخذت خمس ليرات فقط ، ” مذكرات حياتي ” لمكسيم غوركي نشرتها في مصر أخذت جنيهاً واحداً .
وضع الطباعة والنشر حزين جداً ومؤسف جداً في بلادنا .
* ماذا تعتقد حول مصير هذه المخطوطات ؟..
ـ هذه المخطوطات ستبقى في أدراجها إلى ما شاء الله .
* هل تستطيع إذاً أن تسمي مهنة الأدب بالمهنة الفقيرة والحزينة في بلادنا؟..
ـ طبعاً هذه المهنة هي مهنة الذين لا يجدون مهنة غير اللم والحزن والشقاء وأحياناً كثيرة الاضطهاد ، هناك ديكتاتور في أمريكا الجنوبية قال هذه الكلمة الفظيعة: ” إذا سمعت باسم مثقف أصوب مسدسي ” لقتله طبعاً .
* هل تتمنى أنّك لم تكن كاتباً أم أنك راض بهذا القدر ؟..
ـ الآن ليس باستطاعتي أن أغير قدري ، القدر هو الذي قادني إلى هذا الموضع وأنا راض به لكنْ هناك شيء أريد أن أقوله لك ، أولادي الخمسة لم أعلم منهم واحداً اللغة العربية لأنني خفت أن يسير أحدهم على طريقي في الأدب ويتورط، فكلهم وجهتهم توجهات علمية .
* كثير من كتاباتك هي صورة لحياتك الواقعية ، هل في حياتك ما يغني خيالك ؟..
ـ لكل إنسان ، مهما كانت مرتبته الاجتماعية ، حياة واقعية حافلة ، ولقد كانت حياتي كذلك ، بل كانت أكثر مما أطيق ، والذي أحب أن أقوله أنّ الخيال مهما كان جامحاً يبقى أقل خصباً من حقائق الحياة .
* لقد رثيت نفسك ، لماذا اخترت رثاء نفسك في الوقت الذي أعطيت وما تزال تعطي الكثير ؟..
ـ بدأت برثاء نفسي حين مرضت في الصين عام 1978 ونحن في عام 1988 ، وما أزال أعيش وأعمل ولم أمت موتاً زمنياً ولا موتاً وجودياً ، وعندي مشاريع أدبية كثيرة أرجو أن أنجزها . لقد كان رثائي لنفسي واقعاً ملموساً عندما بدأت به وأصبح الآن ذكرى .
* من المعروف أنّك كتبت القصيدة العمودية ، فكيف تنظر إلى القصيدة الحديثة ؟..
ـ كتبت القصيدة العمودية والقصيدة الحديثة مع المحافظة على الوزن وتبديل القافية . القصيدة الحديثة نوع أدبي مقبول مادامت له موسيقى ، وما دام عربياً .
* كتبت عن الحب والحرب وليس أكثر منهما ما يغير الإنسان ، ما هو التغيير الذي أحدثه فيك كل منهما ؟..
ـ كانت حياتي سلسلة من الحب المفجوع بالموت أو بالخيانة ، وأنا أدين لهذا الحب بأحسن ما كتبت ، أما الحرب فلم أعرفها بصورة مباشرة أبداً ، كل ما كتبته عنها من أحاديث الأخ المرحوم عصام السرطاوي الذي كتبت عنه قصيدة ” الحب والحرب ” في ديوان يحمل هذا العنوان .
* شاركت في تحرير مجلة ” الثقافة ” التي لا تعطي كتابها بدلاً عن مقالاتهم. لماذا وقع اختيارك على هذه المجلة بالذات ؟..
ـ شاركت في تحرير مجلة ” الثقافة ” الدمشقية وما أزال أشارك دون مكافأة مادية وذلك لأسباب ثلاثة هي :
1 ـ أنا أجد في بيتي ثمن خبزي وخبز أطفالي فلا أريد مكافأة .
2 ـ الأدب لا يطعم أديباً ولا شاعراً في بلادنا .
3 ـ مجلة الثقافة تنشر أعمالي الأدبية .. وتستحق التشجيع ..
* ترجمت العديد من الكتب عن لغات أجنبية ، كيف تقوم بعملية الترجمة؟..
ـ الترجمة نافذة نطل منها على آداب العالم وحياته وأفكاره ، وبهذا المعنى فالترجمة عمل حضاري راق لا تستغني عنه أمة سواء أكانت كبيرة أم صغيرة . لقد نشرت حتى الآن 30 كتاباً مترجماً من أشهرها ” تاريخ الأدب الفيتنامي ” من أول عصوره حتى الآن ، ومن آخرها تاريخ الأدب السويدي من أول عصوره حتى الآن وديوان محمد إقبال ” جناح جبريل ” وأتوقع أن تظهر لي عن قريب ترجمات أخرى.
* ولكن ألا ترى أن لعملية الترجمة آثاراً سلبية ؟
ـ ليس للترجمة آثار سلبية إلاّ إذا كانت تثير غرائز الجنس أو العنف في الإنسان ، وتبقى لها آثارها الإيجابية في غير هذا المجال .
* ما هو المنهج الذي تتبعه في عملية الترجمة ؟
ـ المنهج الذي أتبعه في الترجمة يمر بمرحلتين :
1 ـ المرحلة الأولى : الترجمة الحرفية والتقيد الكامل بالنص .
2 ـ المرحلة الثانية : صياغة الترجمة صياغة عربية سليمة ، عندما يقرأ القارئ ترجمتي يشعر أنّها ليست ترجمة وإنما هي مكتوبة باللغة العربية .
* لكن بعض النقاد يرفضون الترجمة بتصرف ؟
ـ الترجمة التي يتصرف بها المترجم فيزيد وينقص ويحذف ما يريد ويضيف ما يريد ليست ترجمة على الإطلاق ، وإنما هي كتاب من تأليف المترجم استمد عناصره من غيره .
* من المعروف عنك استغراقك الطويل في العمل ، أيهما برأيك أشد أثراً العمل أم الإلهام في عملية الإبداع ؟..
ـ قضيت فترة غير قصيرة من حياتي أدخل مكتبتي في الساعة الخامسة صباحاً وأخرج منها في الساعة الحادية عشرة ليلاً ، مع راحة ساعة أو ساعة ونصف للغداء والقيلولة ، وكان هذا من أسباب مرضي الخطير .
الإلهام هو العنصر الأساسي في الإبداع ، ولكن الإلهام يحتاج إلى عمل وجهد وإلا اختفى كالبئر إذا لم يضخ منه الماء يبقى راكداً . لقد ذكرتني بكلمة لغوتيه التي يقول فيها ” العبقرية أن تعمل من الصباح إلى المساء ” ..
* هل يمكن رد الإبداع إلى العفوية التامة أم أن الذات الواعية هي المرجع في الكتابة ؟
ـ الذات الواعية عندما تتدفق يخيل إلى الأديب أنّها حالة من العفوية التامة ، وإنما هي ولادة بعد مخاض طويل وعسير .
* أسست في الثلاثينات جمعية النهضة العربية ” لدعم الفصحى ” ما هو تأثير تلك الجمعية ؟..
ـ أسسنا في حمص في الثلاثينات جمعية ” النهضة العربية “للتحدث باللغة العربية الفصحى وأقمنا لها فروعاً في بعض المدن السورية ومنها ” حماه ” و ” سلمية ” ولقد لقيت تأييداً غير قليل لكن السلطات الفرنسية آنذاك انزعجت من الجمعية فلما رأتنا أطفالاً يافعين تركتنا وأوقفت الجمعية .
ولا باس أن اذكر لك طرفة حدثت في حياة الجمعية :
جاء أحد الأصدقاء يسأل عني في بيت أهلي فخرج له أخي فسأله :
أين أخوك ؟ أخاك ؟ أخيك ؟ فضحك أخي ثم ناداني .
فكرة الحديث عن الطعام والعلاقات الجنسية والأولاد : لماذا لا تحب الحديث عنها ؟
ورد في سؤالك ما أكره الحديث عنه ، أما ما أحب الحديث عنه فثلاثة أمور أيضاً :
1 ـ انتصار الشعوب في كفاحها وتقدم الإنسان .
2 ـ هموم الأمة العربية ونجاحها في نضالها إن كان هناك نجاح .
3 ـ حديث الأدب والشعر والفن والكتب .
* هل قررت تمضية حياتك على الطريقة التي عناها شوبنهاور عندما تحدث عن الحياة المحزنة التي يجب إنفاقها بالتأمل ؟..
ـ رأي شوبنهاور في الحياة وأنّها محزنة رأي متشائم أوً وخاطئ ثانياً : الحياة فرحة وينبغي أن نزيدها فرحاً بالقضاء على سلبياتها إلى أقصى حد ممكن وأكثر كتاباتي تفيض بالتفاؤل والكفاح وفرح الحياة .. إلاّ عندما تصل المصيبة حداً أفقد فيه السيطرة على نفسي وقلمي وأصاب بالذهول وتضيع نفسي مني .
* تتحدث كثيراً عن الحزن ، ألا ترى أن الكتابة تعوضك جزءاً كبيراً من الحزن الذي تغرق فيه ؟..
ـ نحن سعداء بكتاباتنا وكتبنا . عندما أجد كتبي الشخصية وهي مجلدة مصفوفة في مكتبتي أشعر أني في عرس ، وعندما أرى مخطوطاتي مكدسة أشعر أني في مأتم . لقد قلت مرة في مجلة ” هنا دمشق ” : الكتاب نشوة لولاه لم نكن بشراً ..
ــــــــــــ
ـ الكتب المترجمة بتصرف هي من تأليف المترجم بينما عناصرها مستمدة من غيره .
ـ عندما تتدفق الذات الواعية عند الأديب يعتقد أنّها حالة من العفوية .
ـ ترجمت ” داغستان بلدي ” لحمزاتوف وحصلت على ألف ومائة وست ليرات سورية .
ـ الترجمة نافذة نطل منها على آداب العالم وحياته وأفكاره .
ـ عندما أنظر إلى كتبي المصفوفة أشعر وكأني في عرس ، وعندما أرى مخطوطاتي مكدسة أشعر أني في مأتم .
على ضوء الشموع
على ضوء الشموع(1)
علمت قبل أن أزور حمص أنّ الكهرباء تقطع عنها على فترات ، كما تقطع في دمشق ولكني ما ظننت أنها تقطع خلال ساعات طويلة ، تكاد تستغرق اليوم كله ، وذات يوم استمر قطع الكهرباء من الواحدة ظهراً حتى الحادية عشرة ليلاً ، فأشعلت شموعي واحدة بعد واحــدة ، وكتبت على ضوئها الشاحب هذه الأبيات .
وقد لاحظت ويلاحظ الأخ القارئ انّ هذه الأبيات متقطعة كما كان النور يتقطع في شمعتي الراقصة . وإليكم هذه الأبيات :
على ضوء الشموع نظمت شعري
وتَعجبني مناجاة الشمــــوع
تسيل دموعها من حر نــــار
وسالت من هوى وجوى دموعي
وينفد عمرها الواهي سريعـــاً
وليس نفادُ عمري بالسريـــع
وتعطي ثم لا ترجو ثنــــاء
كأن عطاءها عطر الربيـــع
ولا أعطي ، وأرجو المدح زوراً
كأني بالمديح أسد جوعـــي
قضيت العمر في قيد وكـــد
وفي فقر وفي مرض مريــع
ولم آسف على فقدان بعضـي
فهل آسى على فقد الجميـــع؟
سيشرق في الغد الآتي ربيـع
ويغرب – دون ما عود ربيعـي
وعشت برغم ما قاسيت جلـداً
أواسي كل ذي قلب صديـــع
أعيش ، وكل إنسان شقيقــي
سقاه رغم فقر دمي – نجيعـي
وأحمل فوق ظهري عبء أهلي
وأحمل داء قلبي في ضلوعـي
* * * *
متى ألقاك يا بلدي سعيـــداً
وربعك ليس بالربع الجديـب ؟
لقد عبثوا بنهرك فاستحالـت
مرابعه إلى قفر رهيــــب
أرى مستنقع العاصي فأبكي
كأني قد فقدت به حبيبـــي
ويجري أسود الأمواه ضحـلاً
ذليلاً ذلة العبد الغريــــب
ترى أيعود للعاصي صبـاه ؟
فيرفل بعد في ثوب قشــيب ؟
وأشرب ماءه بيديَّ صفـواً ؟
وكان يفيض بالماء الشـروب
وتسبح فيه أسماك تبـارى
تهز ، رشاقة ، وتر القلــوب
وتعمره الضفادع رائعــات
تنقنق في الصباح وفي الغروب
وفي شطيه شلال يـــدوي
دوي الرعد في الأفق الرحيـب
وألقى فيه آلامي فتســري
مع الأمواج خامدة اللهيـــب
وأقفز في المروج فتى رشيقاً
وأسبح فيه في مرح عجيــب
وينظم فيه ديك الجن شعراً
يفوح بيانه فوح الطيــــوب
تغني عنده ورد و – بكر –
فتسري ” الآه ” في الليل الرهيب
وهب الطير مذعوراً فألفـــى
حبيباً نام في حضن الحبيـــب
* * * * *
على ضوء الشموع نظمت شعري
وتعجبني مناجاة الشمــــوع
ولولا الشمس تنقذنا نهــــاراً
قضيناه على ضوء الشمـــوع
ـــــــــــــ
(1) – العروبة – العدد 7478 – التاريخ 30 / 9 / 1989
ابن العربي ووحدة الاديان
ابن عربي ووحدة الأديان
مقال الأسبوع
تمهيد:
عرف تاريخ الإنسانية ألواناً كثيرة من النزاعات المسلحة و غير المسلحة قامت لأسباب عديدة اقتصادية و سياسية و اجتماعية و عرقية و عقائدية، و لعل من أكثر الحروب شراسة و قسوة الحروب الدينية التي لم تنقطع منذ فجر التاريخ، و ما تزال بقاياها ظاهرة حتى في القرن العشرين في كثير من البلاد الراقية و النامية_ و يا للأسف.
ثم إن هذه المعارك الدامية لم تقتصر على الديانات الكبرى، بل قامت حتى بين المذاهب الفرعية المتنوعة التي انبثقت من هذه الديانات، من أمثال الحروب بين الكاثوليكية و البروتستانية و بين الشافعية و الحنفية في الدين الإسلامي.
و يروى_ على سبيل النكتة فيما أعتقد_ أن أحد أتباع المذهب الحنفي سأل أحد المشايخ: هل كان النبي r شافعياً أو حنفياً؟
فقال له الشيخ: سيدنا محمد أسبق من الشافعي و من ابن حنيفة و كان الشافعي و ابن حنيفة فقيهين من أتباع الرسول. و عندئذ غضب السائل_ و كان حنفياً_ و اتهم الشيخ بالجهل.
و لكن فئة من أهل الأديان على اختلافها ترفعت عن النزاعات بين الأديان و تنزهت عن التعصب للمذاهب، آمنت بوحدة الأديان إيماناً عميقاً كما آمنت بوحدة الإنسان في كل مكان، و مارست هذا الايمان ممارسة عملية، و دعت اليه دعوة نظرية.
و في طليعة هذه الفئات في الاسلام تأتي الصوفية. و في رأس هؤلاء الصوفية شاعر عربي هو ابن عربي:
و تعترضنا هنا ثلاثة أسئلة:
- ما هو الدين أولاً؟
- من هو ابن عربي ثانياً؟
- أين دعوته إلى وحدة الأديان ثالثاً؟
- ما هو الدين؟
نبحث عن الدين في مصادر ثلاثة:
- في اللغة:
جاء في لسان العرب ماجدة (دين) ما يلي:
دين: الديان من أسماء الله عز وجل معانه الحكم القاضي… و الديان القهار… و هو فعال من دان الناس أي قهرهم على الطاعة. يقال: دنتهم فدانوا أي قهرتهم فأطاعوا.
و الدين: الجزاء و المكافأة و دنته بفعله دينا، جزيته، و يوم الدين: يوم الجزاء، و في المثل: «كما تدين تدان» أي كما تجازي تجازى. أي تجازى بفعلك و بحسب ما عملت… و قيل: كما تفعل يفعل بك. و الدين: العادة و الشأن. و الديانة: كالدين. دان نفسه: أي أذلها و استبعدها. و قيل: حاسبها.
و الدين لله من هذا إنما هو طاعته و التعبد له. و دنته: ملكته. و الدين: الحال. و الدين: الورع. و الدين: القهر. و الدين: المعصية. و الدين: الدعاء. و الدين من الأمطار ما تعاهد موضعاً لا يزال يرب به و يصيبه.
تلك هي مادة الدين في لسان العرب. و هي كما ترى تكشف عن الأصل اللغوي و لا تعرض للمعنى الاصطلاحي.
- الدين في كتب التعاريف الإسلامية:
جاء في جامع العلوم في اصطلاحات الفنون المعروف بدستور العلماء( 2/118) ما يلي:
الدين: بالكسر الإسلام و العادة و الجزاء و المكافآت و الدين.
و ( الدين الاصطلاحي) قانون سماوي سائق لذوي العقول إلى الخيرات بالذات و جاء في الكليات للكفوي:
الدين بالكسر: في اللغة العادة مطلقاً و هو أوسع مجالاً يطلق على الحق و الباطل أيضاً…. و يشمل أصول الشرائع و فروعها، لأنه عبارة عن وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات قلبياً كان أو قالبياً كالاعتقاد و العلم و الصلاة، و قد يتجوز به فيطلق على الأصول خاصة بمعنى الملة و عليه قوله تعإلى[ ديناً قيما ملة ابراهيم] ( الأنعام 161)
و قد يتجوز فيه فيطلق على الفروع خاصة و عليه[ ذلك دين القيمة] ( البينة 5) أي المللة القيمة يعني فروع هذه الأصول.
و الدين منسوب إلى الله تعإلى و الملة إلى الرسول و المذهب إلى المجتهد. و لا يكاد يخرج التعهانوي في كتابه ( موسوعة اصطلاحات العلوم الاسلامية ج2 ص502/503) عن هذه التعريفات السابقة فيقول:
الدين بالكسر و السكون في اللغة يطلق على العادة و السيرة و الحساب و القهر و القضاء و الحكم و الطاعة و الحال و الجزاء و منه [ مالك يوم الدين]. و كما تدين تدان. و السياسة و الرأي. و دان: عصى و أطاع. و ذل و عز. فهو من الاضداد. و يقال: الدين هو وضع إلهي سائق لذوي العقول بإخيارهم إياه إلى الصلاح في الحال و الفلاح إلى المآل. و هذا يشمل العقائد و الأعمال…
3- في دوائر المعارف
أ/ في دائرة المعارف الاسلامية ( 9/368/369)
الدين: ذكر فقهاء اللغة من العرب في مادة ( دين) معاني مضطربة ( انظر مثلاً LEXICON LAM ص 944) أساسها كلمات ثلاث قائمة بذاتها:
- كلمة آرامية عبرية مستعارة بمعنى الحساب
- كلمة عربية خالصة معناها عادة أو استعمال.
- كلمة فارسية مستقلة تمام الاستقلال معناها ديانة.
و يعرف الدين من الناحية اللاهوتية بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول بأخبارهم إياه إلى الصلاح في الحال و الفلاح في المآل ( كشاف اصطلاحات الفنون ص/503) فهو إذاً يدل على الديانات بأوسع معانيها.
ب/ في دائرة معارف لاروس
الدين عبادة تقدم للآلهة DIVINITE.
قال ريفارول: قليل الفلسفة يبعد عن الدين و كثير الفلسفة يقود إلى الدين. مجموعة العقائد و الممارسات المتعلقة بإيمان ديني COMBESSION المسيحية و المحمدية.
الاعتقاد و ممارسة دين من الاديان
الأديان كثيرة: الدين الطبيعي هو الدين المستقل عن كل وحي REVELATION و يقوم على إهامات العقل و القلب او على التراث ( التقاليد) الإنساني المختلف.
هذه هي مادة الدين في المصادر الثلاثة الدينية و العلمية. و ننتقل الآن إلى الفقرة الثانية من البحث:
2- من هو ابن عربي؟
ليس وارداً في هذا البحث التوسع في التعريف بابن عربي. و لذلك فسنكتفي بماورد في ترجمته في كتاب الاعلام 7/170.
ابن العربي
(560-638هـ)
(1165-1240م)
محمد بن علي بن محمد بن العربي أبو بكر الحاتمي الطائي الأندلسي المعروف: بمحيي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر. فيلسوف من أئمة المتكلمين في كل علم. ولد في مرسية بالأندلس و انتقل إلى اشبيلية و قام برحلات فزار الشام و بلاد الروم و العراق و الحجاز. و انكر عليه اهل الديار المصرية« شطحات» صدرت عنه.
فعمل بعضهم على إراقة دمه كما أريق دم الحلاج و أشباهه. و حبس فسعى في خلاصه علي بن فتح البجائي( من أهل بجاية) فنجا.
و استقر في دمشق فتوفي فيها. و هو كما يقول الذهبي: قدوة القائلين بوحدة الوجود. له نحو أربعمائة كتاب و رسالة، منها ( الفتوحات المكية) عشر مجلدات في التصوف و علم النفس.
و أضاف معجم المؤلفين قوله: و توفي بها (بدمشق) في 22 ربيع الآخر و دفن بسفح قاسيون.
3- أين دعوته إلى وحدة الأديان و موقفها الإنساني؟
وحدة الأديان فكرة دان بها عدد كبير من الصوفية و لاسيما ابن الفارض و الحلاج و ابن عربي و الجليلي و جلال الدين الرومي.
جاء في دائرة المعارف الاسلامية( 5/215/298): و لابن عربي:
عقد الخلائق في الإله عقائداً | و أنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه.
|
فالتصوف نشأ عن المثل الديني الأعلى و ظل في أدواره كلها مخالفاً ما عليه العامة مخالفاً القراء و الفقهاء و أهل السنة و المتكلمين و المتفلسفين، متعرضاً لعدواتهم و اضطهاداتهم من غير أن تخرجه العداوات و الاضطهادات عن حدود الحب و التسامح. فالتصوف كما وحده بين معترك المذاهب تسامحاً صرفاً و سلاماً في كل ما مر به من أدوار.
و الصوفي_ كما قال أبو تراب النخشبي _ لا يكدره شيء و يصفو به كل شيء.
نظرت هذه الفئة من المتصوفة إلى الأديان المختلفة و العقائدية المتباينة على أن تباين هذه و اختلاف تلك ليس إلا من حيث الظاهر. أم من حيث الحقيقة و الجوهر فلا تباين و لا اختلاف. فكل ما هنالك من علل و نحل ليس في حقيقته الا مجرد وسائل يتوسل بها إلى غاية واحدة هي عبادة اله واحد و هو خط مشترك بينها جميعاً۱. قال ابن عربي:
« ان العارف المكمل هو من رأى كل معبود مجلي للحق يعبد فيه، و لذلك سموه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجرة أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك …»2.
أبيات ابن العربي و موقفه الإنساني فيها:
قال ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة و بيت لأوثان و كعبة طائف أدين بدين الحب أنى توجهت |
فمرعى لغزلان و دير لرهبان و ألواح توراة و مصحف قرآن ركائبه فالحب ديني و إيماني |
و نختم هذا الموقف بفقرة من كتاب ( ابن الفارض و الحب الإلهي 306) جاء فيه و ليس من شك في أن ما انتهى إليه ابن الفارض و أشباهه من الصوفية ( و منهم ابن عربي)1 من وحدة الأديان و اتخاذه من الحب ديناً.
و اعتبار انحرافه عن هذا الدين مفارقة لدين الإسلام و ارتداداً عنه قد اشتمل على كثير من المعاني الراقية و المثل العليا التي إن أخذ الناس أنفسهم بتحقيقها صفت نفوسهم و خلصت قلوبهم و سمت مشاعرهم فإذا هم ينظرون بعضهم إلى بعض على أنهم أخوة متساوون متآخون لا فرق فيهم بين إنسان و إنسان، و لا بين معتنق لدين و معتنق لدين آخر، لأن الأديان كلها من الله. قضى بكل دين منها على فريق من الناس بحيث لم يختر أحد لنفسه ما يعتنقه من هذا الدين أو ذاك و هذا من شأنه أن يؤدي إلى أن تزول الحواجز بين أفراد الإنسان و تحل الوحدة و الألفة محل الكثرة و التفرقة، و يمحو نور التسامح و الإخاء ظلمة التعصب و الشقاق، فتأتلف القلوب و تتحاب النفوس و يصبح الناس جميعاً إخواناً متحابين لا أعداء متسابين متنابذين. و عندي أن الذين ينظرون إلى التصوف و أذواقه و نتائجه نظرة ازورار أو ازدراء مسرفون على أنفسهم و على الصوفية…
أليست نظرة ابن الفارض و أشباهه إلى الأديان المختلفة على أنها مظاهر متعددة لجوهر واحد إلا سبيلاً إلى تحقيق المثل الأعلى في الحياة الفردية، و الاجتماعية تحقيقاً يعم معه السلام أرجاء العالم و يرفرف فيه الحب، الإخاء و المساواة بأجنحتها على بني الناس جميعاً؟ الحق أن ابن الفارض و من نهج نهجه و انتهى إلى ما انتهى إليه من هذه النتائج الرائعة قد قدموا إلى الإنسان أجمل عطاء و أسدوا إليها أحسن خير.
و كانوا بذلك من دعاة الحرية و المحبة و الإخاء و المساواة و ما إليها من الدعائم التي أقيمت عليها الديمقراطية الحديثة 1.
ذلك ماورد في كتاب الدكتور محمد مصطفى حلمي عن ابن الفارض و هو ينطبق تماماً على ابن عربي بل لعله أشد انطباقاً، فقد فصل ابن عربي رأيه في وحدة الأديان في نثره و في شعره. و السؤال الذي يرد الآن بعد ذكر هذا الموقف الإنساني النبيل لابن عربي و أمثاله في القرن الثاني عشر و مطلع القرن الثالث عشر الميلادي هو: هل يتعظ الذين يثيرون الحروب بين الأديان و النزاعات بين المذاهب في القرن العشرين فيكفون عن إثارة هذه الحروب بين الأديان و الفتن بين الطوائف؟ نرجو وننتظر
حمص العدد« 2016» التاريخ 28/5/1993
مماكتبه الدكتور غانم الجمالي
قلة هم المفكرون والشعراء الذين رثوا ذاتهم بقصيدة أو ديوان وهم على قيد الحياة ..هؤلاء القلة هم أهل الحكمة الصافية
الصديق القريب والاستاذ الباحث عبد المعين الملوحي من هؤلاء القلة .. من أهل الحكمة ..
كثر أولئك الذي يدخلون القلب كعابري سبيل ..أما أبو منقذ فلقد سكن القلب وامتلك حجرة خاصة به تطلّ شرفتها على وجداني ..
هل سمعتم يوما بشرفة لحجرة في قلب تفوح من أورادها المنثورة على جنباتها رياحين شعر يملىء الفكر والوجدان ؟
هو شعر عبد المعين الملوحي ..
مقال صحفي – أستاذ الأجيال في ذكرى رحيله السادسة
عبد المعين الملوحي خسارة لاتعوض – بقلم شاهر نصر
الجهات الرسمية والأوساط الشعبية تعزي
واتحاد الكتاب العرب يكتفي بنعوة مجحفة
(نص الكلمة التي ألقيت في اجتماع جمعية الترجمة في اتحاد الكتاب العرب بدمشق)
فقدت سوريا والوطن العربي بتاريخ 21/3/2006 علماً من أعلام الشعر والترجمة وتحقيق التراث، والفكر التنويري الحر؛ إنّه عبد المعين الملوحي.
من الصعب الإحاطة بنتاج الملوحي في دراسة أو مقال، أو كلمة موجزة. إنّه ثروة وطنية حقيقية. امتاز بموسوعية قلّ نظيرها. ففي مجال الشعر، وفضلاً عن الشعر الذاتي والغزل، والطبيعة، والشعر الوطني، والقومي، والإنساني الأممي، اشتهر بقصائد الرثاء التي رثى بها زوجته “بهيرة” وابنته “ورود” ونفسه:
أبهيرتي! قالوا لنا: ما هكذا عرف الرثاء
قولي لهم: بل إنّه نار بها احترق البكاء
كم ثائر للكبرياء بكت عليه الكبــرياء
الحقد مثل النار، يأكله وتلعنه الســماء
ورثى أصدقاءه وأبطال الوطن ومفكريه، كيوسف العظمة:
قضيت شهيداً شامخ الرأس كاتباً بموتك للأجيال ملحمة كبرى
وسلطان باشا الأطرش:
كم فتى عانق الرمــاح عناقاً يحسب النقع ـ إن دجى النقع ـ كحلا
إن دعاهم (سلطان) لبوا وهبوا يحسبون الرصاص غيثاً وطــــلا
وإبراهيم هنانو، والقمران: فارس الخوري، وفايز الخوري، وأحمد شوقي:
كان للنسمة في الصبح أخاً يرسل الشعر علينا نفحات
وحافظ إبراهيم:
روعوه وحطموا أقلامه وسقوه بعد الشقاء حمامه
وعصام السرطاوي، وشهداء فلسطين، وفتحي كامل محمود، وغيرهم…
قبرت ولم نحفر لأعدائنـــا قبرا ومت ولم نشعل لظى الثورة الكبرى
ونمت وباغي مصر في مصر ساهر يفاوضها جهــــراً ويطعنها سرا
أزعم أنّه لم يكتب شاعر في العالم ما كتبه الملوحي في مجال الرثاء، من حيث صدق العاطفة، والشمولية، والمستوى الفني الرفيع، ليحوز بجدارة على لقب: أمير شعراء الرثاء..
إنّه شاعر عالمي يذخر شعره بالمستوى الفني الرفيع، والموسيقى والصور المؤثرة وغناه بالعاطفة، والمشاعر المتميزة، وامتلاكه للصفات والأخلاق الإنسانية النبيلة، والروح الوطنية الحرة الأبية، ونكران كل أشكال الاستغلال والظلم… ودعوته إلى الحب والنضال معاً، وهما زبدة حياته:
حياتي كأسان: حبٌّ وحرب
وكلاً شربت نهالاً نهــــالا
ولولا النضال جهلت الهوى
ولولا الهوى ما عرفت النضالا
أجل إنّه يتميز عالمياً بملاحم الرثاء الإبداعية الخالدة، والتي أؤكد أنّه سيأتي يوم تترجم فيه إلى لغات العالم، وسوف يتباهى بها العرب على صعيد الإنسانية جمعاء..
ومن مآثره أنّه ساهم في مجال الترجمة في كسر احتكار الترجمات الغربية إلى اللغة العربية، فترجم الأدب الفيتنامي والأدب الصيني، والباكستاني، والروسي… منحته حكومة فيتنام أرفع أوسمتها، وقال له رئيس جمهورية الفيتنام في الرسالة المرافقة لمنحه الوسام: “لقد ساهمتم جدياً في تحرير بلادنا”.
كما أنه عمل في مجال تحقيق التراث، وهو يرى أن إحياء الجوانب المشرفة في التراث لا يمنعنا من فضح القضايا المظلمة فيه.
وعرف بتمكنه المتميز من اللغة العربية، حتى لقب بسيبويه القرن العشرين، لقد كان مدافعاً عن اللغة العربية، ومع تطورها الدائب…
كان اسمه وعناوين كتبه من الأسرار التي تخفى عن أعين رجال البوليس، كما قال عنه المفكر العربي الحر هادي العلوي، والذي لقبه بـ “زيتونة الشام”.
لقد أصدر مئة كتاب وكتاب، فضلاً عن عشرات المخطوط التي لم يستطع نشرها لأسباب منها مادي، ومنها عدم موافقة وزارة الإعلام واتحاد الكتاب العرب على نشرها ككتاب “عبد المعين الملوحي في السجن”… ومن الأمور التي كانت تثير شجونه انتظاره موافقة تلامذة تلامذته على طباعة كتبه… وتعليقاً على ذلك قال لي أحد الناشرين: إنّ اتحاد الكتاب العرب يتخلف في أدائه عن بعض الأجهزة الأمنية.
لم ينل شاعرنا وأديبنا حقه، وأزعم أنّ أقرب المقربين إليه لم يعرفوه حق معرفة… وبدلاً من إنصاف شاعرنا وأديبنا بنشر أعماله، يقوم اتحاد الكتاب بإجحاف حقه حتى في مماته، وهذا جلي من النعوة التي نشرت في العدد /1427 / تاريخ /25/ 3/2006 من “الأسبوع الأدبي” والتي جاء فيها: “له أكثر من ثلاثين عملاً من دراسة وترجمة وقصة وشعر وتحقيق”. ألا يثير ذلك التساؤل… لقد تفاءلنا كثيراً بانتخابنا مكاتب جديدة في الاتحاد، ونخشى أن يتبخر تفاؤلنا سريعاً…
الملوحي الذي ربى الأجيال سجنه بعض من رباهم… ولم يسمحوا له بطباعة بعض كتبه، ونشر فكره، وهؤلاء سنراهم غداً كما قال في رثاء نفسه:
غداً سوف يبكون المعلم جثة
وقد صار عظماً في المقابر عافيا
تناسوا حقوقي في الحياة فإن أمت
تباكوا على القبر الوفي تباكيا
إنّهم يحطمون هامات الوطن:
على هامش هذه الكلمة جرى نقاش من قبل السادة أعضاء جمعية الترجمة، وطرح الأستاذ عيسى سمعان تساؤلاً حول أسباب الإجحاف الذي شمل أيضاً المفكر أنطون مقدسي، والذي تم إنهاء عمله في وزارة الثقافة بشكل غير لائق، بعد تسعين سنة من العطاء، وأجحف حقه أيضاً.. ورأت الأديبة لطيفة أبو ديب أنّ الأديب والمفكر يكبر بعمله وعطائه، ولا يكبر بالكرسي والمنصب الذي يتبوأه، أو النعوات… ورأى الأستاذ عبود كاسوحة أنّ ذلك لا يعني تبرير الإجحاف الذي يحل بمفكرينا وأدبائنا، وأن الغربيين نعوا أنطون مقدسي ولقبوه بسقراط سورية، والأجدى بنا أن نعطي الملوحي ومقدسي والمفكرين والمبدعين حقهم، وأيد ذلك الحضور، وعلق الأستاذ عياد عيد على البيتين الأخيرين في رثاء الملوحي لنفسه قائلاً: إنّهم لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء الوقوف على قبره… ورأى الدكتور محمد دبيات ضرورة الاستفادة من إنتاج مبدعينا وعدم إجحافهم حقوقهم، ولو تطلب ذلك تنظيم كتب تطالب الجهات الرسمية بذلك… ونوه الأستاذ موسى عاصي بالخسارة الحقيقية لفقدان الأديب والشاعر عبد المعين الملوحي، ونوه بمآثره معدداً المسؤوليات التي شغلها في وزارة الثقافة، وفي المراكز الثقافية، ومستشاراً في القصر الجمهوري، ورأى الأستاذ نبيل أبو صعب أنّ ظاهرة إجحاف المبدعين حقهم، والتعتيم على من لا ينسجم ويتطابق مع النهج السائد، هي نهج يرتبط بحالة تحتاج إلى معالجة مبدأية… وكان أحد المثقفين والمهتمين بالشأن العام قد علق على هذه الظاهرة، والنعوة المجحفة بحق أمير شعراء الرثاء قائلاً: إنّهم يحطمون هامات الوطن.
طرطوس ـ دمشق 2-4/4/2006 شاهر أحمد نصر
عبد المعين الملوحي: كاتب ملأت إبداعاته مكتبتنا – الطيب التيزيني
يقول د. طيب تيزيني في مقدمته لكتاب: (هكذا رأيت عبد المعين الملوحي لكاتبه المرحوم يوسف بلال: (كان – الملوحي- أستاذي في إحدى سنواتي المدرسية وفي معظم سنواتي الثقافية، وهو ما زال كذلك(..) وقد نعتبر الأستاذ الملوحي أحد موسوعيي مرحلة وواحداً من أهم الأدباء العرب الذين ظلوا أوفياء لكرامتهم الأدبية والفكرية والشخصية الذاتية (..) وإن بحث الفقيد الباحث يوسف بلال حول عبد المعين الملوحي يمثل أحد مظاهر الوفاء العلمي).
يذكر أن كاتب هذا البحث توفي قبل أن يرى كتابه مطبوعاً، فطبعه الأستاذ عبد المعين بعده..
*في استهلاله للبحث يتساءل الباحث لماذا أكتب؟ ويجيب: (فتراني مهمشاً أستنجد بقايا نسوغ مخضوضلة في الروح لا تزال، منادياً بحرقة مبلولة بالهذيان أيتها الكلمات الخضراء، أيتها المفعمة بأريج أرواح الشعراء الذين توغلوا، لم يثنهم حر ولا قر أن يكون الخير عفواً، في أن يكون العدل أقوى، وفي أن تكون الحرية أفقاً، في أن تكون الإنسانية شرعاً).. إذاً إنه يكتب لخير الإنسان، وللحق والعدل والإنساني..
وفيما يخص الإنسان فهو يميز بين إنسان وإنسان:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى.
وصوت إنسان فكدت أطير
رسائل الملوحي:
ويذكر الكاتب رسائل الملوحي ذات الهموم المتفرقة، ومنها نجوى حجر: لا أنظر إلى دين المرء لأن دينه له وحده وليس لي، ولا لوطنه، ولا أنظر إلى حزب المرء لأن حزبه من خصوصياته لا من مقومات عمله، وإنما أنظر قبل كل شيء وآخر كل شيء إلى انتاجه إلى اندفاعه في أداء واجبه، وأعتقد أن هذه المقاييس وحدها هي التي يجب أن نطلبها من الناس إذا أردنا أن نسير إلى الأمام..
ومن رسالته من الصين:
إليك من الصين أهدي تحية
تهب على الشام ولهى ندية
تحوم على شفتيك صباحاً
وتغفو على ناهديك عشية
وتسبح في مقلتيك نهاراً
وتهجع في الليل نشوى هنية
ومما ذكره الباحث أيضاً، مطل قصيدة عن ثياب (البالة) وهو:
أعمل للبسك كل آلة
ولا تقعدن بذل حاله
وانهض بك أناقة
فالمرء يعجز لا محالة
إن لم تكن من طرز ديور
فحسبك طرز باله
وقد ضم الكتاب عشرة فصول توزعت بين الكتابة والتكوين والتجلي والشعر والمواقف والتراث.
وفي الكتاب الثاني (الأصالة والإبداع في شعر عبد المعين الملوحي) للكاتب شاهر أحمد نصر، نجد تشابهاً في منهج البحث، واختلافاً في الأسلوب الصياغة.
وضم الكتاب اثني عشر فصلاً في جزءين.. ففي الأول (ثمانية فصول) تحدث عن النشأة والقراءة والكتابة والرحيل وآراء عبد المعين الملوحي في الأدب والثقافة والتراث واللغة العربية والترجمة، وعندها نتوقف قليلاً.
يمر منهج الملوحي بمرحلتين:
1-الترجمة الحرفية والتقيد الكامل بالنص حرصاً على الأمانة في الترجمة.
2- صياغة الترجمة صياغة عربية سليمة، فينقل النص من الركاكة والتداخل إلى النص العربي الفصيح، ولا يخل بالمعنى ولا بأي عاطفة في الكتاب المترجم).
ويضيف الكاتب: (وهكذا عندما يقرأ القارىء ترجمة الملوحي يشعر أنها ليست ترجمة وإنما هي نص إبداعي بالعربية)… ويقول الملوحي في ذلك –كما ذكر الكاتب – إننا نبحث عن أنفسنا في ترجمات غيرنا.. وعندما ترجمت لغوركي – ذكريات حياتي الأدبية – كنت أرى في هذه الحياة الأدبية ظلاً من حياتي في بلدي.. ولذلك كانت كل الترجمات التي ترجمتها نوعاً من الفيض النفسي إلى العالم الخارجي (…) وهناك رأيان في الترجمة: رأي يقول بأنها خيانة ورد الملوحي عليها بأنها أمانة.. أما الرأي الآخر فلم يذكره الكاتب.. وقد ذكر الملوحي في التوجه بالترجمة إلى الترجمة عن الثقافات الشرقية التي تشترك معنا في الشرق العظيم، وأننا نحمل هموماً مشتركة.. وهي لا تقل عن الآداب الغربية.
في الشعر والأصالة:
في هذا المبحث يورد الكاتب آراء الملوحي في الشعر الحديث (والحر تحديداً) فيقول أنه ليس مع الشعر القديم ولا مع الحديث، بل مع الشعر وقد نظم الشعر بنوعيه القديم والحديث.
ويرى الملوحي أن: (مما يؤسف أن نجد كثيراً من الشعر القديم صار نظماً، لا روح فيه، وكثيراً من الشعر الحديث وقد أصبح نقاطاً وألفاظاً لا شعر فيه).
ويذكر الكاتب أن للشعر ثلاثة أقسام لدى الملوحي الأول وضعته نازك الملائكة وقررت له قواعده وعروضه، والثاني سار عليه معظم المجددين وهو ذو وزن وقافية دون التقيد بعروض الملائكة ووزنها. والثالث هو الذي لا وزن ولا قافية وهو أشبه بالنثر..) لكنه يقرر أن الشعر الحر عربي المصدر في أوزانه أولاً وفي موضوعاته ثانياً فالأوزان التي جاء بها الشعر الحر إنما تستمد عناصرها الأولى من الشعر العربي القديم، وهو ليس إلا تطوراً عادياً عبر القرون.ويستشهد هنا بقصيدة الأرواح الحائرة لنسيب عريضة /1917/:
كفنوه.. وادفنوه..أسكنوه، هوة اللحد العميق، واذهبوا..لاتندبوه، فهو شعب ميت ليس يفيق.. ووزنها (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن، فاعلاتن فاعلات، فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن، فاعلاتن فاعلات).
ويستشهد بأبي العتاهية، في مكان آخر:
للمنون دائرات يدرن صرفها
حتى ينتقيننا واحداً فواحدا
فلما انتقد في هذا، قال: أنا أكبر من العروض.. وبالرغم من كل ذلك ينحاز الملوحي إلى الشعر كقيمة شعرية خالصة، وهي التي تحدد جمال وروعة وإدراك وخلجات النفس وتسجل خفقات القلب وأداء ارتعاشات الضمير وجلاء ألوان العواطف استكناه أسرار النفس..)إلخ.
*ودعا الملوحي إلى كتابة أوزان للشعر الحديث.. ويمثل على ذلك بالقول: بأن الأوزان في الشعر الصيني أكثر تعقيداً، ولا يتذمر الصينيون من ذلك كما نفعل نحن.. وأن شعرنا لا يتقيد بستة عشر بحراً كما يظن البعض، فهناك كتاب لابن سناء الملك، يتحدث فيه عن أوزان في الموشحات ويستخرج حوالي 300 وزن.. أما الموشحات الأخرى في وزنها في الموسيقا وضرب العود.. فماذا يريد الحداثيون أكثر من ذلك؟).. ويذكر أن المعركة بين الشعر القديم والحديث هي مفتعلة، فاللغة في هذين الشعرين هي العربية وهي طريقة التعبير المشتركة، أي أن الدم الأساسي هو واحد يجري في شرايين النوعين ثم يفترقان).
ومن قصائد الملوحي من الشعر الحديث، يسجل الباحث عدداً منها،
يا صبية! سوف أمضي وأعود
فاسمحي، سيدتي، سوف أعود
كدت أمضي
ثم لم أصبر فعدت
ثم قبلت الرسالة
ألف مرة
أطار منها الحبر شوقاً
وارتمى في شفتي.. إلخ
ربما هذه القصائد لا تحمل صوراً واهتزازات وأوزاناً كما تحملها القصائد القديمة.
-مالي أقيم؟ وطفلتي قبلي تواريها المقابر؟
-الليل أقبل.. والزقاق يغط في نوم عميق.
وسهرت، أرقب أمك الثكلى.. على حذر وضيق.
وتلوب في الحجرات تهتف: باورود ولا جواب
وتفتح الأبواب، تسألها: عسى يخفيك باب..
ونختم بهذين البيتين من قصيدة يرثي الملوحي بها نفسه فيقول:
دفنت سروري في مصائب أمتي إذا ما وردت النبع كالشهد ماؤه |
فكانت حياتي الروض لم يلق راويا صدرت طريداً صادي النفس ظاميا.. |
*ما كتب عن الملوحي، يندرج في إطار البيبلوغرافيا اشخصية ولم تتعمق في دراسة أدبه /شعره ونثره/ وترجماته التي مر عليها الكاتب نصر مروراً، ولم نعرض لهذين الكتابين: لا لكونهما تذكيراً حميماً ولافتاً بأحد أعمدة الأدب أعماله التي أثرى بها المكتبة العربية خمسة وتسعين مؤلفاً، بينها التحقيقات وبينها الترجمات والشعر والنثر.. وهو لم ينفك عن القلم الذي صقلته السنوات عبر ثمانية عقود، ولم يزل مستمراً في إبداعاته، ونحن على وعد مع كتابه الجديد، أيضاً.
نزيه الشوفي.
تشرين – العدد 8679 التاريخ 15/7/2003
مماكتبته أميمة الخش
رحم الله تلك النفس الطاهرة. كان عبد المعين الملّوحي أستاذاً لي وصديقاً ورغم فارق السن الكبير بيننا كنتُ أحسّه شابّاً أكثر من أغلب الشباب! لن أنسى وقفته أمام باب منزله يعدّ خطواتي وأنا أصعد سلّم بيته! وكنتُ أهرع إليه معاتبة بلهفة المحب:”لماذا تتعب نفسك ياأستاذي؟”كنتُ أسأله.يبتسم وهو يسلّم حاضناً يديّ ويقول ونحن نعبر البهو إلى غرفة مكتبه:”أنا احب هذا….مازلتُ شاباً في الثمانين….مارأيك؟” تطول جلستنا يحكي لي فيها عن همومه مع الناس ومع كتبه التي كانت طباعتها شغله الشاغل. كان يحكي بل يروي والإبتسامة لاتفارق ثغره! كان يحب أن يدور معي على كتبه الموجودة في غرفة جلوسه وفي غرفة الكتبة”:كما كان يسمّيها “لأن جدران الغرفة كلها مكتظّة بكتب من كل المعارف.وحين كان يلمح استغرابي_بذكائه الحاد_ يقول وهو يمشي خارج الغرفة “القراءة متعتي” ثم يصلني صوت ضحكة خفيفة”لاأخفيك في الشباب كان هنالك متع أخرى!” ويتابع ضحكته وهو يهزّ رأسه وقد كسا عينيه بريق خفيّ! لن أنسى ذلك الوجه الأبيض الذي يشعّ منه نور قلّ أن تراه إلا على وجوه “المصطفين!”
أستاذي وصديقي ستبقى في القلب والذاكرة.
“أميمة الخش”
عبد المعين الملوحي بين المادية والروحانية
حمص ـ في ديوان «ندرة حداد»
«أوراق الخريف»
الحنين إلى الأوطان غريزة في كل إنسان، بل إنه غريزة في الحيوان، فكما تحن الناس إلى أوطانهم تحن الإبل إلى أعطانها، بل ربما حنت الجمال إلى أعطانها وصبر الإنسان وتجلد فلم يظهر حنينه إلى وطنه.
قال الشاعر:
لا تعتبر الإبل الجلاد([1]) على النوى حتى تحن ويصبر الإنسان
ومن أكثر الناس حنيناً إلى أوطانهم شعراء حمص: نسيب عريضة وندرة حداد ونصر سمعان.
قال جورج صيدح في كتابه (أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية) ص 28: (ندرة حداد) ربت حمص دلبات شاعر العامي الحق.
وقال فريد حجافي في كتابه (الحنين في الشعر المهجري) ص 11: إن الإنسان مرتبط بالوطن كل الارتباط، متعلق به كل التعلق، وكلما عظم هذا التعلق وكثر ذلك الارتباط كان الإنسان قريباً من السمو والكمال، أي من تحقيق إنسانيته بكل المثل العليا.
ويقول شاتوبريان في مقاله (أرضنا مسقط رأسنا): انظر كتابي تحليل النصوص الأدبية ص 53 على طريقته في الإلهيات: ربطت العناية الإلهية أرجل كل إنسان بأرضه مسقط رأسه بمغناطيس غير منظور، سواء أكان في صقيع (إسلاندة) أو في رمال (أفريقيا المحرقة).
ومن الجدير بالملاحظة أنه كلما كانت أرض الإنسان مقفرة وطقسها قاسياً، وكلما زادت معاناة الإنسان ومكابرته للحرمان والضيق. في بلده بدا له بلده هذا أكثر سحراً، وإنه لأمر عجيب أن يتمسك الإنسان بالبؤس والشقاء وأنه إذا حرم كوخه زاده ذلك حنيناً إلى بيت أبيه.
ثم إنه يذبل ويهلك إن لم يعد إلى أرضه مسقط رأسه، إنه نبتة من نبات الجبل يجب أن تمتد جذورها في كل صخرة من صخوره.
وذلك ما فعلته ميسون الكلبية زوجة معاوية بن أبي سفيان وأم يزيد حين آثرت العودة إلى البادية وخيمتها في مهب الريح وهجر قصر معاوية المنيف ثم ثالت:
لبيت تخفق الأرواح فيه وليس عباده وتقر عيني وخرت من بني عمى نجيب وأصوات الرياح بكل فج وآكل كسيرة في كسريتي عشوته عيش في البدو أنهى فما أبقى سوى وقنى بديلاً |
أحب إلي من قصر منيف أحب إلي من لبس الشعوف أحب إلي من علج غيض أحب إلي من نقر الدفوف أحب إلي من أكل الرغيف إلي نفسي من العيش الطريف فحسبي ذاك من وطن شريف |
ديوان شعراء بني كلب 1: 528.
لقد رفضت هذه البديوة الكلبية قصر معاوية وما فيه من ثراء ونعمة لتعود إلى عيشها الخشن في باديتها.
وإذا كان هذا شأن هذه البدوية في حنينها إلى باديتها فكيف ؟؟؟ حنين شعراء حمل إلى بلدهم الطيب دعا صيفه المتدفق وهوائه العليل ورياضه الغناء.
والحق أنه كان حنيناً عجيباً.
في ديوان ندرة حداد قصائد كثيرة يذكر فيها مراراً حمص والميماس والدوير والعبار. بل يذكر هذه الصورة الحمصية الأصيلة عندما كان أهلها يصنعون البرغل من القمح وينشرونه في المرج ليجف في أشعة الشمس. قال ندرة بذكر العاصي ونساء حمص:
ولاذرت غماداته البرغلا
كتابي (حمص) ص 187 مقالي كيف لا تنطفىء.
إن حنين الشعراء إلى أوطانهم ومساقط رؤوسهم أمر طبيعي في كل الأزمان والأوطان، ولكن ظاهرة ارتباط شعراء حمص خاصة بمدينتهم وخيمهم إلى عاميها ظاهرة بلغت حد الإعجاز وزاحمت الأسطورة.
كتابي (حمص) ص 168:
هكذا لم تحفل الأرض بشعر أكثر حنيناً من الشعر العربين ولم يحفل الوطن العربي بشعر أرق حنيناً من شعر المهجر، ولم يحتل المهجر بشعر أكثر لوعة في خمسة من شعراء حمص ولم تحتله حمص بشعر أكثر التصاقاً بها وإحياء لها من شعر نسيب عريضة ثم من شعر ندرة حداد ونصر سمعان.
في قصيدة ندرة (الدفق البعيد)، نجد الوطن يرافق الشاعر في كل زمان ومكان .
ويتفق ندرة ونسيب عريضة في رغبتهما في أن يدفنا في حمص، أما نسيب فقد وردت أمنية في قصيدته (حمص أم الحجار السود) حين يقول:
يا دهر قد
عدلي إلى حمص
وأهتف
بعاثر
واجعل ؟؟؟ من حجار
ندرة تمنى كذلك أن يكون قبره في حمص:
هكذا كلما مررت بأمر فتمنيت أن أرى في العبر |
عند لفظي الأخير من أنفاس |
لاح في الحال رسم حمص لفكري تربه أشتهي تكون لقبري |
الديوان: 115
ندرة حداد
(1881-1950)
لأبناء أدباؤنا جورج صيدح ص: 28
ابن حمص (البار) وشاعر العاص الحق.
كانت وفاته فجأة في حفلة عرس بعد أن أنشد فيها شعر التهاني.
الحنين في الشعر المهجري ـ فريد جحا
ص 11: الحنين إلى الوطن عاطفة سامية، فيها الإخلاص والوفاء والحب. إن الإنسان مرتبط بالوطن كل الارتباط، متعلق به كل التعلق، وكلما عظم هذا التعلق وكثر ذلك الارتباط كان الإنسان قريباً من السمو والكمال، أي من تحقيق إنسانيته بكل المثل العليا.
وندرة حداد يدخل الرياض كلما ألم به حزن أو نزلت به شجون… وهناك حيث الشجر والزهر والطير وفي ظل شجرة على شاطىء النهر ينتقل به الخيال إلى سوريا حيث الجمال لا نظير له:
فدب في قلبي حنيني إلى فكم يملك الأرض من جدول |
جمال سوريا العديم النظيره ومنظر ساحر يربع نضير |
بل إنه يذكر وطنه كلما مر بأمر جميل في الطبيعة الورود والأزهار تذكره بالشيح والآس، والنهر والرياض والصفصاف (تذكره بدوحة الميماس) وهكذا كلما سره أمر لاحت (حمص) في حقله ولذلك يتمنى أن يرى تربها ويشتهي أن يكون قبره فيها:
كلما كنت مسافراً في البراري
بين صف الورود والأزهار
خلتُ أني في (حمص وسط الدار
أو أمام المروج في (العبار) موطن الشيح عنده والآس
هكذا كلما مررت بأمر
لاح في الحال رسم (حمص) بفكري
فتمنيت أن أرى في العمر
تربة أشتهي تكون لقبري عند لفظي الأخير من أنفاس
ص: 15
وندرة حداد لا ينسى (حمص) كذلك، إنه يذكرنا كلما غدت الطيور صباحاً فحملت إلى صدره انشراحاً وهو بطيء نفسه في (حمص) وسط الدار كلما سار في البراري بين الورود والزهر، فهو يخال نفسه في (دوحة الميماس)، كلما جلس قرب نهر في روضة ورأى العصافير تحنو على الماء كما تحنو الأم على أبنائها:
كلما غدت الطيور صباحاً أتمنى كمن تساقى الراحا كلما كنت مسافراً في البراري كلما كنت جالساً في المساء |
هاتها فالحياة جرعة كأس
موطن الشيح عنده والآس
خلت نفسي في (دوحة الميماس) |
مهديات إلى الصدور انشراحا بين أحبابه بـ (حمص) فصاحا بين صف الورود والأزهار قرب نهر في روضة غناء |
ص: 23
القصص في شعر الحنين
ويعرض لنا (ندرة حداد) في قصيدته (الأنهر الثلاثة) قصة طريفة تؤدي في نهايتها إلى مغزى:
ثلاثة
أبناء
من سفح
معنوا ليستوا
هذا إلى حمص
وذا إلى زحلة
وذا إلى الشام
فأزهرت
وواضح أنه أراد بهذه الأنهر الثلاثة: العاصي وبردى والبردوني التي يخلق كل منها حول المدن التي يمر بها بقعة زاهية خصها الله بطيب الثمار. ويصف ندرة الجنات والرياض التي بينها مياه هذه الأنهار، ويتخيل الأشجار وقد اخضرت وأزهرت وأثمرت والأطياب على أغصانها تغرد والغزلان في الحقول تلهو:
وأصبحت
على سواها
وأكثرت
ما يطرب واصبح
وانتشرت
وقد حلت
بشربها باردة
…
ولابد للشاعر من وقفة على العاصي، عسى أن يجد منفرجاً لكربته وهناك البحر، يلتقي بأخيه النهر…
ص: 33
و(ندرة خداد) يذكر (حمص) كلما ساء أمر أو سره، وعند ذاك يتمنى أن يرى قبره فيها حين يلفظ أنفاسه الأخيرة:
هكذا كلما مررت بأمر فتمنيت أن أرى في العبر |
عند لفظي الأخير من أنفاس |
لاح في الحال رسم حمص لفكري تربه أشتهي تكون لقبري |
ص: 42.
خصائص شعره الحنين:
1- كثرته
2- الفواء
3- لغتها مأنوسة.
4- الخيال
5- قصائد الحنين ؟؟؟
6- أما أوزانها فتقليدية وأحياناً محدثة وموشحات.
ونختتم هذه الكلمة بهذه الأبيات الثلاثة يقولها الشاعر من قصيدته في رثاء داوود ؟؟؟ الخوري:
داوود لا أبكي على ماض لنا لكنني أبكي حياة أصبحت فأنا المقيم بغربة لا تنتهي |
قد كنت فيه بهجة الخلان بعد اكتسبت بؤرة الأحزان أيامها إلا مع الأكفان |
الديوان ص: 204
والحق أن غربة ندرة لم تنته إلا وهو مدرج في أكفانه.
هكذا كان حنين ندرة إلى بلده وخير ما نختم به هذه الكلمة هذه الأبيات الثلاثة التي تعبر عن غربته وحنينه حتى في رثائه لصديقه داوود.
هذا نصيب حمص من شعرائها، فماذا كان نصيب شعراء حمص من حمص، ذلك ما يجيب عنه عظام نسيب وندرة البالية في بند بورك.
حنين شعرائها الوجيع
وإليكم هذا الجدول بأسماء المواقع التي ذكرها في حنينه وربما كانت أكثر ، فأنا لا أحسن الحساب، وفي هذه القائمة ما يدل على ارتباط المهاجر الغريب بوطنه وأرضه حتى بأنهار هذا الوطن ومنتزهاته.
وهذه بعض المرات التي ذكر فيها الشاعر وطنه وبعده.
سورية: 3 مرات
حمص: 6 مرات.
العاصي: 5 مرات
الميماس: 3 مرات
الدوير: مرتين
البار: مرة واحدة
إلى أخ بعيد وبعيد
يكتب إليك أخ حرم منك مرتين:حرمته أنت نفسك مرة،وحرمته الأقدار منك مرة أخرى،ولقد كان الحرمان الأول أقسى من الحرمان الثاني،ذلك لأن الأول كان إرادياً أنت الذي صنعته،ولأن الثاني ما يزال شيئاً خارجاً على إرادتك .
عندما مات أخوك أنيس قلنا:لقد نقص منا واحد،أبعدته عنا ظروف لا معنى لها،أشخاص لا مسؤولية عليهم.. أبعدنا عن نفسه دون مبرر،وأبعدناه عن أنفسنا دون مبرر،وقلنا:كفانا،أصبحنا أقل عدداً؛نقصنا واحداً،بدأنا نغيب وجهاً بعد وجه،فلنصنع عهداً جديداً من التقارب والتفاهم…وتمضي أيام وما تزال أظفار أنيس تنمو تحت التراب،وإذا نحن أكثر بعداً،وأشد جفوة،وأضرى تفرقاً،وأقل مبرراً..ووجدنا أنفسنا مرة أخرى نلقي أنفسنا بأيدينا في هوّة لا فراغ فيها،في حفرة لا عمق لها،في بحر دون ماء،في مستنقع دون طحالب…
وهكذا نحن في انتظار أخ ثان…لا تدري من يكون دوره منا،لنجدد العهد مرة ثانية وننقض العهد ألف مرة.. ونموت ولعنة الكراهية دون كراهية والعداوة دون عداوة،والنزاع دون نزاع تسبقنا إلى قبورنا.
ما أقسى هذا..أن يكون أخوك الصغير الحبيب الذي كاد يقد مرة نور عينيه،والذي ترك ثلاثة أطفال دون عائل، وغادر زوجاً دون مرشد…والذي فارقك مكرهاً إلى البلد البعيد دون مال،أن يكون أخوك هذا الصغير الحبيب في مثل هذا الوضع الكئيب…ثم لا تكتب إليه كلمة…ولا ترعى أولاده بقبلة حنان،ولا تمد إلى زوجه يد صديق…أن ترى هذا الأخ الصغير الحبيب هكذا إعلاناً عن حانة بعد أن غرقت في الخمر وأنت في طريقك سكران إلى البيت،أ تراه هكذا إعلاناً عن حانة ترى فيه دون أن تقرأه اسم صاحبها…وتهم أن تفتتح عينيك…فتنسى ما همت به،وتمر لا تنوي على شيء…لا تحفظ شيئاً من ذكراه ولا تترك على صفحته شيئاً من ذكراك…ولا تقبل حتى ولديه الصغيرين،وهما عندك مثل أولادك،ولا تضم حتى ابنته الصغيرة…وأنت لم تر حتى الآن وجهه في وجهها،وهو من بقايا أمك،ولا تمد يدك تصافح بها يد زوجه الوحيدة..وهي يد أختك..ثم تبقى مع ذلك خلي البال،مرتاح الضمير نقي الوجدان…لا تشعر أنك أسأت إلى أحد ولا إليه،ولا تظن أنك تخليت عن مروءة إذا تخليت عنه…وأقسى من هذا كله أنك تشعر أنه لو فعل فعلتك وسلك سلوكك لم يكن في نفسك عليه أكثر مما في نفسه عليك..
جرح قديم لا تذكره يوم كنت طفلاً تدغدغ بأصابعك آثاره تظن أنه جاء معك من بطن أمك.
أليس هذا العار الذي بلغ من العار أنك لا تعده عاراً،والحطة التي بلغت من الحطة أنك لا تحسها حطة،والواقع الذي ينبو به الواقع..ثم تجل وراء منضدتك تكتب إلى أخيك وتحاول أن تجد له كلمة حلوة فلا تجد غير هذا الكلام..
لقد صنعت ذلك كله بيديها امرأة سخيفة ونفذه بكل تفصيلاته رجل أكثر سخفاً.
يا عدنان
لقد فقد العالم قبل أن يخلق العالم عقله،وفقدنا نحن قبل أن نخلق عقولنا وقلوبنا معاً…فقدناها حتى ما نكاد نشعر أن بقي منها قشرة واحدة…ولا ذرة من رفات .
ويتحدث الأدب الحديث عن التمزق الإنساني وما عرفوا منه حبة رمل من صحرائنا،نحن في أعماقنا عشناه نأكله ونشربه ونضاجعه…
وتسألني بعد ذلك لم لم أكتب إليك وتريدني بعد ذلك أن أكتب إليك..
آمل أن يكون سلوكي بعد كتابك خيراً من رسالتي…
فلست أريد أن أكون أديباً كبيراً على حسابك،ولكني أريد أن أكون إنساناً ولو على حسابي.
عد إلينا يا عدنان فليس من شيء يمنع عودتك..ولعلي حين تعود،أن أصبح ثرثاراً كبيراً..هواء بلادنا يشتاق هزة ضحكاتك..وترابها يشتاق وقع أقدامك،وماؤها يشتاق شفتيك.ولسنا-ولا تقرأ هذا-أقل شوقاً إليك من هوائها وترابها ومائها.
دمشق 12/7/1964
أخوك
عبد المعين الملوحي
أربعون عاما في الوظيفة
تنطفىء الذكريات رويدا… رويدا وتفقد الأشياء حياتها
إنها معجزة انتصار الحياة
عدت إلى الميماس بحدائقه الزاهرة وأشجاره الباسقة
في حمص
عدت إلى حمص بعد سنوات من التشرد في حماة وحلب واللاذقية عانيت فيها ما عانيت: موت زوجة وهجوم بالمدى علي في حلب وترك ابنة صغيرة رضيعة في حمص، وسلسلة من الازعاجات الإدارية في اللاذقية، وبيع ثياب الزوجة بالمزاد العلني في حمص.
أقمت في بيت أهلي في حمص، أخذت غرفة واحدة فرشتها ببقايا أثاث غرفة النوم الزوجية. كانت كل قطعة منها عزيزة علي، تذكرني عهدي بالحبيبة الميتة الغالية، ولكن الإنسان لا يلبث أن ينسى أفراحه كما ينسى أتراحه، ولا يلبث أن يألف الأشياء ويجدها عادية بعد أن كان يراها خارقة خالدة.
كنت إذا جلست في مقعد أو اضطجعت في سرير تعود إلي كل ذكرياتي وكأنها ليست ذكريات وإنما هي قطع حية وتنطفىء الذكريات رويدا رويدا وتفقد الأشياء حياتها شيئا فشيئا، وإذا الحياة أقوى من الموت وإذا الشباب ينتصر على آلام الشباب، ويعاود الإنسان حياته من جديد كأنما يبدؤها بدءا.
كنت في كل يوم، عند الصباح، أذهب إلى المقبرة لأضع وردة أو زهرة على قبر بهيرة، وكنت في كثير من الأحيان أذهب، عند المساء، أو عصرا لأضع على القبر زهرة أو وردة، وظللت كذلك أشهرا عديدة لا أعرف لها رقما، حتى في أيام الجمعة، وهي أيام راحة كنت أذهب إلى القبر، خاشع القلب دامع العين، أخاطب من في القبر مخاطبة الحي، أدعوها إلى العودة إلى بيتها وزوجها وابنتها، فما كنت ألقى جوابا.
إن الإنسان يبقى طفلاً مهما كبر، وتبقى المعجزات أموراً يسهل عليه تصديقها مهما جرب الحياة مهما عرف في عقله أن المعجزات غير ممكنة، وأن من مات وشبع موتا فلن يعود إليك في حياتك، إن كان سيعود في الحياة الآخرة.
ولقد كتبت في ذلك العهد أشياء كثيرة أليمة، وكتبت أحد كتبي ـ ثلج على قبر ـ وذلك بسبب زيارتي للقبر فعلا في يوم من أيام الثلج.
كانت ابنتي تعيش مع جدتها في بيت خالها وخالتها، وكنت أعرف أنهم يعتنون بها عناية فائقة، فهي من رائحة المرحومة، وكان بيتهم يعج بأيتام آخرين فقدوا أمهاتهم، ولكني كنت أعرف أن ـ خزامى ـ تلقى من الرعاية مثل ما يلقى أو أكثر مما يلقى الأيتام الآخرون.
وكنت آتي بها مرة واحدة في الأسبوع تبقى عندي ليلة واحدة ثم أنتزعها من قلبي وأعيدها إلى أهل أمها.
كانت زيارتها الأسبوعية سلوى وعزاء، كنت أنام معها في سرير أمها، وكانت رقيقة ناعمة قليلة الضجة والضوضاء، ميالة إلى السكينة والهدوء.
وكان أهل أمها يمنعونني من رؤيتها أحيانا دون سبب، وأحيانا لسبب ما يزعمون أنها مريضة، وأبقي ليلة سوداء أتصور كيف أن ابنتي ليست لي، وأنها مريضة هناك في بيت لا تجد فيه أمها ولا أباها، وأنا الذي لا أزور بيت أهل أمها لا أعرف ما أفعل. أسكت وأصبر.
كانت زرايتها لي صدقة تقطر لي تقطيرا، وربما حجبوها عن زيارتي أسابيع وشهورا ويصبر الأب المفجوع مرتين: مرة بوفاة زوجته ومرة ببعد ابنته، وتصفو الأمور بعد شهور وتعاود البنت زيارتها لأبيها.
كانوا يصبون على هذه البنت كل ألوان الحقد والكره لأبيها، كانوا يزعمون لها وهي صغيرة أنه وحش لا انسان، وأنه لا يحبها، وكلما زاد عمرها زادوا في أبعادها عن حب أبيها، وكانت الطفلة عاجزة عن فهم ما يجري فهي ترى أن أباها يحبها حقا ويعطف عليها عطفاً. وهي ترى أن جدتها وخالتها تحبانها حباً وترعيانها رعاية، ومع ذلك فهي تسمع شيئاً لا تراه، وترى شيئاً لا تسمعه، ووقعت الطفلة الصغيرة في حيرة ما بعدها حيرة وتشتت قلبها الناشىء في اتجاهات متناقضة تعصف بها ذات اليمين وذات الشمال.
أذكر يوما من الأيام، وكانت في الثالثة أو الرابعة من عمرها أني خرجت بها من البيت لشراء لعبة أو حلوى من سوق الحي، وكنت أحملها على ذراعي.
اشتريت لها ما تريد وعدت بها، وأنا أحملها إلى البيت فإذا حمار يمشي في الطريق، يقوده بستاني، والتفتت الطفلة إلى الحمار وقالت في لهجة هي بين التقرير والاستفهام ـ بابا جحش ـ؟
وأدركت أنهم كانوا يعلمونها أنا أباها جحش، فقلت في كل بساطة:
انظري أن أباك ليس جحشاً، أنه يمشي على رجلين أما الحمار فيمشي على أربعة، وهو صغير الأذنين، الحمار طويل الأذنين، ثم إنه يحملك بين ذراعيه والحمار لا يحمل ولده بين ذراعيه.
واقتنعت الطفلة آنئذ أن أباها لم يكن حماراً، وبقي على أبيها أن يقتنع بذلك.
تلك الحادثة من مئات الحوادث كان يستقبلها الزوج المفجوع، والأب المصاب في هدوء وبرود، كان يعلم أن ابنته ستفهم كل شيء، فيتركها لينضج عقلها وتفهم على مر الأيام، ولا يستعجل إفهامها بالإلحاح والتكرار.
وكبرت البنت حقا وفهمت كل شيء.
إنك قد تسجن الحقيقة حينا ولكنك لا تستطيع أن تسجنها كل حين.
عدت إلى حمص التي أحبها.
إلى أحبابي وأصدقائي.
إلى بيتي المتواضع الذي شهد طفولتي وشبابي إلى حارتي ومن فيها من حلاقين وخضريين وباعة يسلمون علي وأسلم عليهم كلما مررت بهم ذات اليمين وذات الشمال، وأسمع منهم كلمة طالما أحببتها وما أزال أحبها:
أهلا ابن الشيخ:
أنهم ما يزالون يعرفونني بأبي…
وأنا بذلك راض وفخور.
عدت إلى الميماس.
– إلى حدائقه الزاهرة وأشجاره الباسقة.
إلى الوعر.
بأحجاره السود وصخوره الصم، وساقيته ـ الخبايا ـ التي تنفلت حولها ـ الحياياـ جمع حية في اللغة الدراجة ـ إلى الجديدة والخراب.
بما يغمرها من أشجار الصفصاف وتحنو عليها من الأقصاب ما أجمل بلدي وما أحلاه.
أعرف حجارته واحدة واحدة، وشوارعه شارعا شارعا كيف شقت؟ ومتى عبدت؟ أعرف أسواقه جميعا وعددا غير قليل من التجار الباعة فيها، من هو صديق ومن هو عدو ومن هو بائع قانع، ومن هو غشاش طامع.
عدت إلى الروضة.
أعرف عصافيرها، وزقزقاتها صباح مساء ـ وأعرف هداياها على رؤوس الجالسين في حديقتها بين حين وحين.
عدت إلى غرفتي.
وكنا نسميها في عهد أمي (الكعبة) فقد كان لا يدخلها أحد ولا يزورها أحد إلا في الأعياد والمناسبات الكبيرة.
هكذا بعد تشرد دام سنين أعود إلى بلدي لأخدم أبناءه أعلمهم لغتهم العربية، ألقنهم الشعر العربي الجميل، أقرأ عليهم نثر الأدباء الكبار، وأدفعهم بأمثولة إلى حب أدبهم ولغتهم ووطنهم.
ما أحلى أن تشعر أنك في بلدك أولا وأنك تخدم هذا البلد ثانيا.
بمثل هذه الروح استقبلت عودتي إلى حمص، وباشرت عملي في مدارسها الرسمية، ولم تكد تمضي أيام حتى باشرت عملا إضافيا في مدارسها الخاصة وفي المدرستين الأرثوذكسيتين للبنين والبنات.
كنت أشعر أني نواة صلبة في اللغة العربية، وفي طريق التقدم والحضارة، كنت أحس أن طلابي يحبونني وأن من أعز الدروس عليهم دروسي.
وكان أكثر ما يرضيني أنهم جاؤوا وخاصة في المدارس الخاصة من كل قرى محافظتي اللاذقية وحمص من صافيتا وطرطوس ومشتى الحلو وعيون الوادي ومرمريتا والمشتاية، وتلكخ، وكنت أشعر أن هؤلاء الطلاب القرويين أقرب إلي من طلاب المدينة وأكثر جداً ونشاطاً ورغبة في العلم.
كانوا لي أصدقاء قبل أن يكونوا طلاباً، أشاطرهم مشكلاتهم ومصاعبهم، وأعمل على حلها ماديا ومعنويا كلما استطعت إلى ذلك سبيلا.
وكنت أقوم تفكيرهم. كان أكثرهم يميلون إلى بعض الأحزاب المحلية أو الرجعية أو العنصرية، فأجاهد لكي أوحي إليهم أنهم من أمة واحدة، هي الأمة العربية، وأنهم مدعوون إلى إقامة حضارة جديدة في أرضهم، وإلى الكف عن إثارة النزعات الطائفية أو العنصرية في مدارسهم وقراهم ومدنهم، وأنهم هم المسؤولون عما قريب عن هذا الوطن الغالي الجريح.
كان عملي في الصفوف له جانبان اثنان:
جانب تدريسي قوي متماسك، ربما مال إلى المبالغة أحيانا في الشدة والعنف.
وجانب توجيهي تقدمي قومي، ربما خالطته أحيانا دعابات وأضاحيك ونكرزات.
كان الطلاب يستجيبون لهذين النوعين والجانبين في حماسة غير قليلة، لقد شعروا أن هذا الأستاذ منهم ولهم، وإذا كان شديدا أحيانا فلمصلحتهم ولحرصه على مستقبلهم.
وجاءت نتائج الامتحانات غالبا لتؤيد وجهة نظرهم.
نظرهم في إقامتي في حمص كان نشاطي الفكري والأدبي والشخصي عظيماً.
شعرت أن السمكة التي حرمت من الماء قد عادت إلى النهر الصاخب المتدفق.
إن الغرفة التي أغلقت نوافذها وأبوابها على من فيها قد تفتحت نوافذها وأبوابها على مصاريعها ولعبت بها الريح وأودت بما كان يختلها من عفن.
أحببت حمص.
وأحببت من أجلها وطني سورية.
وأحببت من أجل سورية كل العالم.
لقد اتسعت دائرة الحب لتشمل الوجود كله في الهند عانقت الأرض عند سفوح جبال الهملايا في الصين عانقت الأرض عند السور العظيم وفي غابة الأحجار.
في تشيكوسلوفاكيا عانقت الأرض من قمم جبال التترا.
في أفريقيا عانقت الأرض على ثلوج قمة كليمنجارو.
في سويسرا عانقت الأرض على شاطىء بحيرة جنيف وزوريخ.
في الباكستان عانقت الأرض في حدائق لاهور.
في كل مكان أحببت الأرض وأحببت الناس لأني بدأت بحب أرضي وأهل بلدي.
هكذا تكون الإنسانية حقا تبتدىء بحب الأرض الوطنية والأمة، لتنتهي إلى حب الأرض كلها والأمم كلها فما أحلى هذا الحب.
اشتريت دراجة، هي أرقى وسائل النقل التي اشتريتها، لأقوم برحلاتي اليومية إلى العاصي.
استيقظ عند الصباح، فأحمل آنية طعامي ثم أركب دراجتي وأطوف في البساتين والوعر وعلى شاطىء النهر ما استطعت. ثم أذهب إلى المدرسة لأقوم بالتدريس في نشاط، وأنا ما أزال أجني في رئتي الهواء الطليق وفي أنفي رائحة الأزهار. وأعلق على ثيابي شيئا من الندى ومن أوراق الأشجار، وعلى حذائي طين الأرض وبعض الأعشاب.
ما أزال أحن إلى هذه الرحلات وإلى هذا البلد الطيب وأسأل نفسي: ماذا صنعت بي الأيام، وكيف أبعدتني عن بلدي وعن أهلي لتقذف بي في بلد أحبها ولكني لا أستطيع التعامل معها.
ما أصعب أن تنتزع الشجرة من جذورها المغروسة في باطن الأرض، في أعماق التراب.
مضت السنة الدراسية 48 ـ 1949 في هدوء نسبي، وحدث أن تتابع على ثانوية الزهراوي التي كنت أدرس فيها ثلاثة مديرين، كان آخرهم نصف مجنون وكان يريد أن يعتمد في إدارته على الشرطة والمباحث فهو في كل حادثة يستدعيهم. فكان الطلاب يكافئونه على هذه الإدارة الجازمة برميه بالبندورة والبيض في شوارع حمص.
وذات يوم استدعى الشرطة إلى المدرسة في إضراب واصطدام الطلاب والشرطة واستخدموا الحجارة، وخرجت مع مدير سابق للثانوية أصبح نائبا من نواب حمص، للتفريق بين الفريقين، وأصابني حجر في ساقي، وكان هذا النائب هو المرحوم راتب الحسامي، ولكن مدير المدرسة الأحمق كتب إلى الوزارة أنني أنا الذي حرضت الطلاب على التظاهر كما حرضتهم على ضربه بالبندورة هذه الشكوى الحمقاء وأهملتها حتى نهاية عام 1949 حين أصبح هاني السباعي وزيرا للمعارف.
ما أظن أن هاني السباعي كان مقتنعا بالشكوى ولكنه لأمر ما وأعتقد أنه من بقايا حملات الانتخاب أصدر قراره بنقلي إلى دير الزور.
ورفضت تنفيذ القرار، وأردت الاستقالة والعمل في المدارس الخاصة.
كان المطران الكسندروس جحا مطران الطائفة الأرثوذكسية في حمص، وعرض علي مجلس الطائفة أن أعمل في مدارسها:
على شروط غاية في الكرم:
1- أتقاضى مرتبي في الدولة تماما.
2- ساعاتي الإضافية محسوبة مثل ساعات المدارس الرسمية.
3- العقد مدى عشرين عاما ويصادق عليه مجلس الطائفة.
4- إذا حدث ترفيعات وزيادات في الرواتب حصلت عليها تماما كما يحصل عليها زملائي ومن هم في رتبتي.
كان العرض سخياً كريماً مضموناً وقررت أن أترك الوظيفة، ولكن الوزير عندما نقلني إلى دير الزور لم يكن يرغب في إثارة هذا النزاع إلى هذا الحد، ذلك أن خلافه مع أخي (أنيس) ـ رحمه الله ـ في موضوع الانتخابات لم يكن خلافا كبيرا. يستدعي كل هذه التدابير، وتدخل بعض الأخوان في الموضوع فوعد بشرفه وبحياة ابنه أن لن يتركني في دير الزور أكثر من عشرة أيام وأن المهم أن أنفذ القرار أولا، ثم يعمل على إعادتي إلى حمص فور انقضاء الأيام العشرة.
كنت في تلك الأيام قد خطبت زوجتي الثانية الحالية، وأصر أهلها على ذهابي مؤقتا إلى دير الزور فذهبت.
كان عام 1949- 1950أبرد عام في شتائه. نزلت درجة الحرارة إلى 20 تحت الصفر، وماتت أشجار الزيتون ويبست في مناطق واسعة، وهطل الثلج أياماً وتجمدت المياه وتشققت الأنابيب وفي نهاية عام 1949 وأول عام 1950 سافرت إلى دير الزور.
كنت أضع جبهتي على زجاج نوافذ السيارة لكي أطفىء ما في رأسي من حرارة، ووصلت دير الزور ليلا وبحثت عن فندق أنام فيه. في ليالي الشتاء الباردة، ولم يكن في الغرفة مدفأة وقضيت الليل كله مؤرقاً.
في اليوم الثاني وجدت أحد الزملاء المدرسين في دير الزور، وهو صديقي في حمص، فحمل أغراضي إلى بيته، وبقيت عنده خلال الأيام التي قضيتها في دير الزور.
كانوا يقولون لي أن طلاب دير الزور أحيانا أشداء يزعجون الأساتذة ويضربونهم أحياناً. ولم أجد شيئا من ذلك.
عرفت تماما أن الطلاب لا يمكن أبداً أن يؤذوا أستاذاً يشعرون أنه يعلمهم في شرف ووجدان مهما كان شديدا عليهم الطلاب ماهرون في الحساب يعرفون من يفيدهم فيحترمونه ويحبونه، ويعرفون من لا يفيدهم فيحتقرونه ويكرهونه.
هذا هو المقياس الوحيد للحب والكره عند الطلاب كانت إقامتي في دير الزور قصيرة لا تتعدى أسابيع، ومع ذلك فقد بذلت فيها كل ما أستطيع من جهد، وأحببت الطلاب وقدمت إليهم كل ما أملك من علم، وأحبني الطلاب وكان يوم مغادرتي لهم يوما عصيبا عليهم.
عدت إلى حمص بعد أسابيع قليلة لأستأنف عملي في مدارسها الثانوية.
قصة الزواج الثاني
ما كنت أريد الزواج مرة ثانية، ولكني أردت أن أسافر إلى فرنسا لأحصل على شهادة الدكتوراه، ولذلك فقد جمعت من عملي بعد قضاء ديوني 6000 ليرة سورية، كانت كافية في ذلك الحين للدراسة في فرنسا سنتين أو ثلاثاً.
جمعتها ليرة ليرة وتركتها في البيت وأعددت العدة للسفر وحصلت على جواز السفر، وانتظرت نهاية السنة الدراسية 1948 ـ 1949 لأسافر.
وجاءني أحد الأصدقاء من التجار، وقد علم بما عندي من وفر وقال لي:
لماذا تترك مالك دون استثمار، أعطنيه وسوف تربح ربحاً غير قليل.
قلت له: لا أريد الربح، أريد أن أسافر ويكفي ما عندي لسفري.
ويظل يلح علي أن أستثمر مالي، وظللت أصر على تركه. وأخيراً قال لي:
ما دمت لا تريد أن تستثمر وفرك، فأعطنيه أزيد به تجارتي وعملي، وسوف أقدمه لك فور طلبك له. وهكذا تساعدني في عملي.
وأخطأت وأعطيته 6 آلاف ليرة.
حان وقت سفري وأعددت جواز السفر ولم يبق إلا أن أسترد المال لأسافر. وطلبته من الصديق في اليوم الأول من الطلب أعطاني 500 ل.س وفي اليوم الثاني 300 ليرة، ثم 100 ثم لم يعطني شيئاً وظل يماطلني يوما بعد يوم، وهكذا حبط المشروع وكنت أنا الذي أخطأ عندما سلمت الصديق وفري.
عرض علي الصديق أن يعطيني صابوناً ـ وكان الصابون صناعته ـ بما بقي لي عنده فرفضت.
ماذا أصنع بالصابون.
ومرت الأيام وشهور وسنون، ومالي لا استرده وعرفت أني أضعت فرصتي الذهبية في استكمال دراستي وحصولي على شهادة الدكتوراه.
هذا الخطأ جعلني أفكر في الزواج، وأنه خطأ لم يكن الأول والأخير في حياتي.
لقد كانت تجربتي هذه كافية لتحذيري من الوقوع في أمثالها، ولكني وقعت في هذا التجربة مرات ومرات، كنت أثق بالناس، بكلامهم، بوعودهم ولكن الكلام لم يكن إلا ريحاً، والوعود لم تكن إلا هواء، ومع ذلك فقد ظللت أثق بالكلام وأعتمد على الوعود. صعب عليك أيضاً أن تتخلى عن إنسانيتك لتكون وحشا وصعب عليك أيضا أن تكتم أنفاس الوحش فيك لتكون إنساناً، وقد فضلت في علاقاتي بالناس أن أكون إنساناً لا وحشاً، فلقيت من نكرانهم وأكاذيبهم وألاعيبهم ما لقيت، وبقيت إنساناً.
مات الرجل، وما تزال نقودي في ذمته وأنا الآن أسامحه رغم ما غير من حياتي وما بدل من مستقبلي. سامحه الله وعفا عنه.
خلال ذلك بدأت أعطي دروسا خصوصية لطلاب البكالوريا وطالباتها، وأحيانا للشهادة الإعدادية.
كنت أعطي دروسي في بيتي، ولا أذهب إلى بيت أحد وتراكم الطلاب والطالبات في غرفتي فلا تكاد تنتهي ساعة درس حتى تبدأ ساعة أخرى، فلا أكاد أستريح.
وكان أكثر الطلاب من المعلمين والمعلمات الذين دخلوا سلك التعليم وهم يحملون الشهادة الإعدادية وأرادوا أن ينالوا الشهادة الثانوية لينتسبوا إلى الجامعة، وكان الإقبال على التعليم في ذلك العهد يكاد يكون موسماً من مواسم الحصاد.
وجاءني أحد الأصدقاء يطلب مني أن أعطي درساً خاصاً لفتاة في الشهادة الإعدادية، ووافقت على إعطاء الدرس شريطة أن تأتي إلى بيتي أسوة بغيرها من الفتيات، وقال لي الصديق أن الفتاة لا تستطيع أن تترك بيتها، وأنها مستعدة لدفع المبلغ الذي أريده لقاء درسها على أن يكون في بيتها، ورفضت وظللت أرفض أكثر من شهرين والصديق يصر علي، ودللته على غيري، ولكن الفتاة رفضت إلا أن أعطيها أنا وحدي دروسها، وأخيرا قبلت وذهبت إلى بيتها لإعطاء الدروس.
كان استقبالي في بيتها الفخم استقبالا حسناً وشكرتني الفتاة على مجيئي إلى البيت لتدريسها، وهي تعلم أنه أول درس أعطيه خارج غرفتي في بيتي.
وتطور الحديث عن الدروس على الحديث عن حياتي الخاصة، كانت تعرف أني فقدت زوجتي بعد أن تركت لي بنتاً صغيرة، وطلبت صورة الطفلة وجعلت تقبل الصورة وتظهر أنها تحب الطفلة وتريد أن تعتني بها وأن تكون لها أماً ثانية.
هذه الإشارات والتلميحات هزتني قليلاً وجعلتني أفكر حقاً في الزواج واتفقنا على طلب يدها. من أهلها، وقالت أن أهلها موافقون.
في خلال هذه الدروس طلبت الفتاة من زوجتي الحالية أن تزورها لتحضر بعض دروسي، وكانتا معا في صف واحد ومدرسة واحدة، وجاءت زوجتي وهي على طبيعتها تلبس ثياباً عادية ولا تضع زينة، وقد غمر الحبر أصابعها ويدها رأيتها أول مرة فأعجبتني.
أعتقد أن في الزواج شيئاً سرياً، أمرا عجيباً تريد شيئاً ويأتي الزواج ليقرر شيئاً آخر.
تضع أمامك مشروعاً تظن أنه كامل، فإذا هنالك مشروع آخر يقلب مشروعك الأول رأسا على عقب.
وهكذا فقد كان مشروعي الأول أن أتزوج تلك الفتاة فجاءت فتاة أخرى عرضاً، وتتابعت الأحداث لتبعد عني الفتاة الأولى وتقرب مني الفتاة الثانية لتكون سيدة بيتي.
هنا دمشق العدد 164 التاريخ 30- 15/5/1983
دفاع عن بساتين حمص
دفاعاً عن بساتين حمص‑(1)
تابعت باهتمام شديد معركة بساتين حمص وقرأت كل ما نشرته “العروبة” حول هذا الموضوع الحيوي الخطير ، وها أنذا أدلي بدلوي في هذه المعركة :
1 – أشكر جريدة ” العروبة ” أولاً على اهتمامها بالمحافظة على بساتين حمص وتصديها لمحاولة تدميرها .
2 – في تموز عام 1997 كنت كعادتي في زيارة بلدي ثم حملني الصديق الأستاذ حسان السقا بسيارته ، فزرنا شارع خالد بن الوليد الجديد ، وفرحت بالجهد الكبير الذي بذل في شق هذا الشارع ليكون متنزه أهل حمص الكبير .
3 – ثم صحوت وقلت : ألا يمكن أن يكون هذا الشارع مقدمة لتدمير بساتين حمص .
4 – عند عودتي إلى دمشق نشرت في جريدة تشرين العدد 6865 وتاريخ 21/7/1997 كلمة عبرت فيها عن قلقي على بساتين حمص وجاء فيهـا : ” والمشكلة الأكبر أنّهم الآن يدمرون بساتين حمص كما دمروا غوطة دمشق ”
5 – شعرت بالاطمئنان عندما صرح السيد محافظ حمص أنّه أصدر قراراً بمنع البناء – مهما كان صغيراً – في بساتين حمص ومنها البساتين الواقعة على طرفي الطريق الجديدة بين عاصي الخراب والمدينة وأنّ هذا القرار سينفذ تنفيذاً كاملاً .
6 – دخل عام 1999 فنشر الأستاذ معتصم الدالاتي مشكوراً في جريدة العروبة العدد 10285 تاريخ 17 / 5 / 1999 مقاله الخطير ” أـرضنا الخضراء الصفراء ” واتهم فيه غرفة تجارة وصناعة حمص بالتعدي على مناطق حمص الخضراء .
7 – ردت غرفة تجارة وصناعة حمص على المقال ” بموضوع إنشاء ” حماسي جاء فيه ما يلي : ” إنّ غرفة تجارة وصناعة حمص لا تحتاج إلى وصاية .. ”
ثم إنّ غرفة تجارة وصناعة حمص بهيئتها العامة ومجلس إدارتها تضع هدفاً لها أن تكون اليد التي تحيل الأرض القفراء المهملة إلى أرض خضراء مزهرة ”
والمهم أنّ الغرفة لم تذكر في ردها أنّها لم تطلب الترخيص لها بإنشاء معرض وناد على إحدى العقارات المطلة على شارع خالد بن الوليد .
8 – وجاء البرهان القاطع على صحة هذا الطلب في كتاب رئيس مجلس المدينة ورفضه له لأنّ العقارات الواقعة في شارع خالد بن الوليد داخلة في الحدود الإدارية لمدينة حمص وأنه لا يسمح بالبناء عليها .
9 – وهنا هبت حمص بمثقفيها وفنانيها ومؤسساتها بعد نشر مقال الأستاذ الدالاتي للدفاع عن بساتين المدينة وكان منهم رابطة الخريجين والنوادي الفنية وعلى رأسها نادي دوحة الميماس .
10 – بل إن بعض أعضاء مجلس الغرفة وبعض أعضاء الهيئة العامة تحفظوا على هذا الطلب لسببين :
أولهما : الدفاع عن بساتين حمص لكي لا تساهم الغرفة في اختراق لرئة المدينة ، وثانيهما : الدفاع عن أموال الغرفة ، فكلفة شراء 24 دونماً في أرض البساتين تبلغ 24 مليون ليرة سورية وهذا المبلغ يشتري أضعاف أرض البساتين في موقع آخر .
وأخيراً :
لي في هذا الموضوع الوطني الخطير عدة التماسات :
أولاً : أرجو السيد المحافظ والسيد رئيس مجلس المدينة الإصرار على موقفهما الراسخ في تنفيذ المادة 171 من نظام ضابطة البناء كما فعلا من قبل ،
ثانياً : أرجو أن تكف غرفة تجارة وصناعة حمص عن طلبها حرصاً على مصلحة المدينة التي أعلنت أنها وفية لها ماضياً ومستقبلاًَ .
ثالثاً : أن يتابع المواطنون والفعاليات الثقافية والفنية والعمالية والشعبية مراقبة حماية بساتين حمص وأن تعتبرها مهمة وطنية ، فقد كفانا ما حدث في ” مجزرة الغوطة ”
4 – أرجو من جريدة ” العروبة ” وهي لسان حال ” المدينة ” أن تتابع هذا الموضوع وتنشر ما يجد فيه .
لمحة أدبية :
في كتابي ” نجوى حمص ” قلت ما يلي ص 32
كنت كل مساء ، أحمل زادي وأمضي إلى الوعر
أجلس على ضفة ساقية – الخبايا – وقيل – الحيايا – حيناً
وأقف أتأمل وادي حمص الأخضر حيناً
أرى أشجاره تترنح ، وأرى حقوله تتموج
ومن وراء الوادي ينتصب مسجد خالد بن الوليد
يشهر سيفه يذكرنا بماضينا المجيد
ويدعونا إلى مجد جديد .
وقلت : ص 38 :
أتذكرين يا بلدي أني على ضفاف عاصي الخراب نمت مرات
دامت إحداها ثلاث ليال متتاليات
وطاحونه العتيقة تغنيني
وقصباته الرشيقات تتراقص وتغريني
والقمر يطل علي إذا سهرت ،
ويبصبص من ثقوب خيمتي إذا نمت .
ملاحظة هامة :
لا بد في هذه الكلمة أن أذكر على الخصوص حيل بعض أصحاب البساتين في القضاء عليها ، حين يدعون أنّهم يريدون بناء بيت صغير لهم فيبنون دارة ” فيلا ” كبيرة فيها مسبح وملعب وقصر ، كما حدث في بعض الدارات التي أنشئت على نهر العاصي ودمرت عدة بساتين .
ـــــــــــ
(1) – العروبة – العدد 10325 تاريخ 5 / 7 / 1999
عبد المعين الملوحي .. قلق على آثار حمص(1)
تعيش مدينة حمص في وجدان الأديب ” عبد المعين الملوحي ” فهي بالنسبة له قطعة من كبده ، لكنه قلق جداً على ما آلت إليه هذه المدينة من تغيير في بنيتها المعمارية ، وقلع لأشجارها ، وهدم لحاراتها وأزقتها القديمة التي تمثل ماضي حمص وعراقتها .
يقول الأديب ” الملوحي ” :
مأساة حمص – مأساة عجيبة – فهي تشهد حالياً وبكل أسف انهياراً وتدميراً لآثارها وطبيعتها وحاراتها وأزقتها .. فعلى سبيل المثال أذكر حياً اسمه ( حي الأربعين ) كنت ألعب فيه عندما كنت صغيراً مع أطفال من عمري ، وهذا الحي ليس له شبيه في كل أنحاء العالم . للأسف تم هدمه وأحيل إلى قاع صفصف .
والمشكلة الآن ، أنهم يدمرون بساتين حمص .. كما دمرو غوطة دمشـق ، فقد فتحوا شارعاً عريضاً يزيد عرضه على الخمسين متراً .. ويمتد من عاصي الخراب إلى المدينة .. وسيتم إذا ما بدئ به قلع ما يزيد على خمسة ملايين شجرة ..
وقد عزمت مرة أن أتحدث مع السيد محافظ حمص في هذا الموضوع ولكن بعض الأصدقاء أشاروا علي بغير ذلك ما دامت الأراضي التي لم تكن تساوي قروشاً ستصبح أثمانها بالملايين .. لهذا كففت عن الحديث ، ولكن يحز في نفسي أن أرى تلك البساتين الجميلة وقد تحولت إلى اسمنت كما حصل مع غوطة دمشق .. وأخاف أن تتحول هذه المدينة الجميلة في القريب العاجل إلى حطام . فالقضية كما ترى قضية وطنية والمسألة في غاية الأهمية وتحتاج إلى جهود المخلصين من أبنائنا الشرفاء .
نقطة أخرى في هذا السياق .. فبعد أن خربوا حي الأربعين ، أرادوا أن يصلحوا قلعـة حمص ، فما كان منهم إلاّ أن ردموا خندق القلعة بالتراب والحجارة بدل أن يسيجوه وينظفوه ويملؤوه بالماء الذي تتخلله النوافير .
ــــــــــ
(1 ) -تشرين – العدد – 6865 – تاريخ 21 / 7 / 1997
إجراءات للحفاظ على البيئة والآثار في حمص(1)
استجابة لما نشرته ” تشرين ” في عددها / 6865 / الصادر في الحادي والعشرين من الشهر الجاري حول قلق الأديب ” عبد المعين الملوحي ” عل آثار حمص وبساتينها .. فقد صرح السيد محافظ حمص في اتصال هاتفي مع الأستاذ ” الملوحي ” أنّه أصدر قراراً بمنع البناء مهما كان صغيراً في بساتين حمص – ومنه البساتين الواقعة على طرفي الطريق الجديدة الممتدة بين عاصي الخراب والمدينة .. وأنّ هذا القرار سينفذ تنفيذاً كاملاً .
كما صرح السيد المحافظ أيضاً أنّه أصدر قرارين آخرين .. أولهما قرار بتسمية لجنة للمحافظة على مدينة حمص القديمة .. وعدم التعدي على بيوتها وأحيائها الشعبية .. وثانيهما لجنة للنظر في تطوير قلعة حمص .. وتحسينها وتحويلها إلى منشأة سياحية ..
وبدورنا نشكر مع الأديب عبد المعين الملوحي – السيد محافظ حمص – على اهتمامه بآثار حمص وأشجارها ، ونتمنى عليه الاستمرار في الرعاية وفي مراقبة تنفيذ قراراته الثلاثة الهامة التي تعهد الالتزام بها .. وكلنا أمل أن يحذو الآخرين من المعنيين حذو هذه الخطوات الجريئة التي تصب جميعها في خدمة الوطن والمواطن .
ــــــــــــ
(1) – تشرين – العدد 6869 – تاريخ 27 / 7 / 1997
من روائع الشعر القصصي الصيني
قصيدة يرجع تاريخها إلى 1700 سنة
نظمها شاعر مجهول
ترجمها من الصينية إلى الفرنسية وعلق عليها :
( هان هانس هانغ )
ترجمها من الفرنسية إلى العربية ، وعلق عليها :
عبد المعين الملوحي
ـــــــــــــــــــــــــ
* مجلة الأدب الصيني ( باللغة الفرنسية ) العدد 2 الفصل الثاني 1984 ص29 – 41
عرض القصيدة :
بقلم : زي بيان
تمهيد
منذ ألف وسبعمائة سنة ، عاش في ( لو جيانغ ) زوجان شابان ، ثم انتحرا حباً .
مأساة هذه الأسرة الفتية مسّت قلوب الناس مسّاً عميقاً ، وقد روّت قصيدة طويلة قصة هذه المأساة بكل ما فيها من تفاصيل .
ظلت القصيدة تنتقل شفوياً من فم إلى فم طوال ثلاثمائة عام ، ثم سجلت كتابياً منذ ألف وأربعمائة سنة . وفيما يلي ننشر هذا الأثر الأدبي الصيني النفيس .
نجهل اسم الشاعر الذي نظم هذه القصيدة القصصية ، وقد استوحى حوادثها من أسطورة شعبية قديمة. كان عنوانها الأصلي : ” قصيدة من قصائد الأسلوب القديم مهداة إلى زوجة ( جياو زون جينغ ) ” . نشرت أول مرة في ديوان ” قصائد جديدة من سطح اليشب (سو لينغ ) ( 507 – 583 ) وهو أديب من أدباء الجنوب . ثم أصبح البيت الأول من القصيدة ” الطاووس يطير نحو الجنوب ـ الشرقي ” عنواناً لها . وتمت كتابة مقدمة لهذه القصيدة الطويلة تحدثت عن عصرها ، ومواقعها وأشخاصها الأساسيين .
وبعد نشرها أول مرة تداولتها مجموعات شعرية كثيرة تضم قصائد قديمة .
وقد أعجب الأدباء بهذه القصة جيلاً بعد جيل ، واعتبروها أطول القصائد التي عرفت حتى ذلك العهد.
حب كبير في مجتمع إقطاعي :
تتألف القصيدة في مجموعها من 353 بيتاُ وتضم 1765 مقطعاً صينياً . وهي أطول قصيدة قصصية من ( ذوات التفعيلات الخمسة ) . تستنكر القصيدة فظاعة الأعراف والتقاليد وقواعد السلوك في المجتمع الإقطاعي . وخلاصتها أن ( ليو لا نزي ) وهي الشخصية الرئيسية في القصة صبية مثقفة مجدة ، جميلة وذكية ، تزوجت وهي في السابعة عشر من عمرها ( جيد زون جينغ ) وأحب كلاهما صاحبه حباً رقيقاً ، كان من المفترض أن يعيش الزوجان سيدين ولكن الزوجة ـ ويا للأسف ـ لم تحظ برضا حماتها فعاملتها هذه معاملة قاسية ثم أجبرت ابنها على طلاقها . واضطرت الفتاة لكي من زواج ثانٍ ولكي تظل مخلصة لزوجها الأول ، اضطرت إلى الانتحار فكانت ضحية من ضحايا النظام الموروث وتقاليد الإقطاعية القاسية ، وأسرع زوجها بعد انتحارها إلى اللحاق بها في عالم الموتى .
في هذه القصة نرى كيف استطاعت قواعد السلوك الإقطاعية بطغيانها تدمير سعادة زوجين شابين ، كما نرى أن الانتحار هو الوسيلة الوحيدة التي عبر بها هذان الشابان عن احتجاجهما واستنكارهما لهذه الأعراف والتقاليد وثورتهما عليها .
ولو أن الزوجين لم ينتحرا لكان معنى ذلك أنهما خانا عهودهما واستسلما خاضعين للأعراف الإقطاعية المناقضة لحرية الأزواج . ولكن موتهما منتحرين كان إشارة ورمزاً لانهيار قوى النظام التي مارست عليهما ضغطاً لا يحتمل وإرهاباً لا يطاق ، لقد سدد هذا الانتحار لطمة صاعقة لكل الذين قاموا باضطهاد الزوجين الحبيبين .
أبدى ناظم القصيدة المجهول كل عطفه على الزوجين الشابين . وأبرز حبهما ومقاومتهما ، كما انتقد كذلك انتقاداً عنيفاً أم ( جياد ) وأخاها ( ليو ) اللذين مثلا السلطة الإقطاعية .
أما نهاية القصيدة فقد بلغت مستوى شاعرياً رفيعاً :
دفنوا العاشقين المنتحرين معاً في قبر واحد ، وزرعوا على جوانب القبر أشجار الأرز والصنوبر والدفلي ، فألقت الأغصان ظلالها على القبر وتعانقت فوقه ، وبنى طائران من ( طيور الحب ) عشهما بين أوراق الشجر وجعلا يتناجيان ويغنيان مرفوعي الرأس ، وكأنهما بذلك يرمزان رمزاً مؤثراً لحب راسخ لا يتزعزع . ولا يستطيع الإرهاب ـ مهما اشتد ـ أن يدمره .
هذه النهاية التي أضفى عليها الشاعر سحراً موجعاً تعبر ـ دون ريب ـ عن أماني الشعب وتطلعاته للخلاص من الإرهاب .
غنى الشخصيات النفسي :
عرض الشاعر بطلي القصة ( لانزي ) و ( زون جينغ ) والأم ( جياد ) والأخ (ليو) عرضاً يكد يكون رسماً تخطيطياً ، في لغة واضحة بسيطة ، كانت كل هذه الشخصيات تنبض بالحياة ، وانصب اهتمامه ـ على الخصوص ـ في وصف دقيق على ل( لانزي ) البطلة التي كانت عرضة للاضطهاد ، وثائرة عليه في وقت واحد .
لم تخضع الصبية لا لتهديدات العائلة ولا لاغراءات الثروة والجاه . لقد كان الواجب عليها حسب التقاليد الإقطاعية الكونفوشية أن تظل صامتة ـ مهما حدث ـ ولكنّها رفضت هذه التقاليد وثارت عليها . عندما أدركت أنّ حماتها تريد طردها طلبت هي نفسها أن تعود إلى أهلها . وعندما استأذنت العجوز لتعود إلى بيتها لبست أحسن ثيابها في عناية ، دلت ـ أمام حماتها ـ على رباطة جأشها وبرودة دمها . ولكنّها أمام أخت زوجها جرت دموعها غزيرة . وهي التي لم تذرف دمعة واحدة أمام حماتها . وخضعت ـ في الظاهر ـ لزوجها الثاني الذي أعدته لها أمها وأخوها ، ولم تنبس بكلمة واحدة عندما أجبرها على قبول الزواج مرة ثانية . ولكنّها ـ في الواقع ـ كانت عاقدة العزم على الخلاص من مصيرها ، ولو أدى ذلك إلى موتها .
لقد أخفت قرارها الأسود هذا حتى عن أمها ، ولم تكشف هذا السر الأليم إلاّ لزوجها الأول ، وهكذا بلغت غايتها التي رسمتها لنفسها ، ويدل هذا التصرف وهذا السلوك بما فيه من دقة ، على ما في سجاياها من إرادة وتصميم .
يؤكد الشاعر رقة الصبية ، فهي رغم الإهانات التي كالتها لها حماتها لم تشك أمرها إلى زوجها مادامت مقيمة في بيته ، ولكنّها ذكرت له ذلك عندما أوشكت على العودة إلى أهلها . وهي في شكواها لم تبالغ ولم تتزيد ، وذلك لأنها أدركت وضعها إدراكاً تاماً ، وقاست الشقاء وتحملته ، ولم تشر إلى المستقبل المجهول .
وفي عودتها إلى أهلها في انتظار طلبه عودتها إليه ، قالت له وهو يرافقها : ” لا تثق بكل هذه الأوهام ” ثم أضافت : ولماذا الحديث عن عودة محتملة ؟ في هذه الكلمات ما يدل على صفاء روحها ووضوح رؤيتها ، ومع ذلك ولكي لا تهدم آمال زوجها ، عند وداعهما قالت له : مادمت تحتفظ بي في قلبك فأنا أرجو أن تعود إليَّ عن قريب ” وعندما لامها ( زون جينغ ) على زواجها الثاني أسرعت إلى إزالة سوء التفاهم بينهما فقالت له :
” نحن كلانا ضحية الطغيان ” ” أنت شقي وأنا شقية ” من هذا السلوك الصادق تبدى كل ما تتمتع به من حب وحنان .
أما ( زون جينغ ) فكان أقل تماسكاً من امرأته في طبعه . يبدو أنّه مطبوع بطابع الأعراف الإقطاعية ومتأثر بها ، فهو لم يعرف كيف يتصرف أمام النزاع العائلي الدائر بين أمه وزوجته . ومع ذلك فعندما بلغه موت حبيبته قرر أن يضحي بنفسه حباً لها ، رغم إحساسه بواجبه نحو أمه ، ورغم أنّه أطلع أمه على نيته ، ويجدر بنا أن نشير إلى أنّه عبر عن قلقه لترك أمه وحيدة بعد موته . كل هذه الجزئيات تعكس لي بشكل دقيق ضعف شخصيته والتناقضات التي تعبث به .
استغرق الحوار حول أوضاع الشخصيات وأعمالها ثلثي القصيدة ، وهكذا بدت لنا صفاتها وسجاياها المتنوعة في وضوح تام . ولعلّ من أحلى الحوارات ما دار بين الزوجين الشابين ، وبين ( لانزي ) وحماتها، وبين وسيط الزواج ، وأسرة الفتاة . ويعود هذا النوع من الحوار في بلادنا إلى أسلوب ( يوفو )(1)
إننا نجد أنفسنا أمام قصيدة ـ قصصية تحفل بعدد كبير من الشخصيات ، رائعة من الروائع قدها الناس جميعاً حق قدرها في كل العهود .
استخدام التناقض والتطور خلال الوصف ، كان هو أيضاً سمة مميزة من سمات قصائد الوصف في ( يو فو ) . والإسهاب في القصائد لا يسهم فقط في انسجام الأبيات ، بل يعين كذلك على غزارة الصور وغناها ـ على الخصوص ـ ، إنّ وصف لباس ( لانزي ) وزينتها عندما غادرت بيت ( زونغ جينغ ) يبرز جمال الصبية ، ويبدي ـ في الوقت نفسه ـ رباطة جأشها ودمها البارد ، وكذلك فإنّ حفلة الزواج المترفة التي أعدتها أسرة الحاكم والتي وصفها الشاعر بكل ما فيها من تفصيلات استخدمت في تأكيد سجايا ( لانزي) التي لا تبالي بالغنى ، ولا تعبأ بالجاه . ثم إنّ وصف جو الاحتفال بالعرس الجديد يناقض تماماً يأس الزوجين الشابين . كل هذه الوقائع حققها الشاعر في شكل يدعو إلى الإعجاب .
لقد اعتبر الناس قصيدة ( الطاووس يطير نحو الجنوب ـ الشرقي ) بتقنيتها الشعرية الرفيعة وبمبادئها المناهضة للإقطاعية رائعة من الروائع وتحفة من التحف . ونحن اليوم ومنذ 1700 سنة ما نزال لا نمل الاستماع إليها والاستمتاع بها .
ـــ(1) يوفو كلمة تدل في الأصل على هيئة مكلفة جمع الأغاني والموسيقى الشعبية في عهد أسرة ( هان ) ثم بقي الاسم بعد ذلك للدلالة على هذه المؤلفات .
القصيدة :
الطاووس يطير نحو الجنوب ـ الشرقي
يطير الطاووس نحو الجنوب الشرقي
ويتردد فيتوقف كلما اجتاز خمسة أميال
* * *
” في الثالثة عشرة من عمري تعلمت الحياكة ،
” في الرابعة عشرة من عمري أجدت الخياطة ،
” في الخامسة عشرة من عمري عزفت على القيثارة ،
” في السابعة عشرة من عمري صرت زوجتك
” ما أكثر ما عانيت من الحزن والمرارة
” وأنت بعيد تعمل موظفاً في أقصى الولاية
” ولكن حبي ـ رغم غيابك عني ـ ظلّ مخلصاً لك .
” عندما يصيح الديك صيحته الأولى أشرع في عملي .
” أشتغل من الصباح حتى منتصف الليل دون أن أرتاح ،
” أحوك كل ثلاثة أيام خمس قطع من النسيج .
” ولكنّ حماتي تعتقد أني امرأة كسول ،
” وليس ذلك لأني أبطئ فعلاً في نسيجي ،
” ولكن من العسير أن تكون امرأة كنة عند أسرتكم .
” أرجوك أن تمضي إلى أمك
” وقدم لها رجاءك في تسريحي ـ إذا أطاعها قلبها ”
* * *
سمع ( زون جينغ ) كلام زوجته
فمضى إلى أمه وكانت تتمشى في بهو البيت ، وقال لها
” أنا ولدك ، وقد ولدت فقير الحال
” ولكني سعيد بزوجتي هذه ،
” لقد جمعنا حياتينا منذ زواجنا
” ونريد أن نبقى كذلك حتى نموت .
” حياتنا الزوجية ـ وقد كادت تنقضي منها ثلاث سنوات ـ
” ليست إلاّ في أولها ، إنّها ليست طويلة .
” سلوك الصبية لا غبار عليه .
” ولست أفهم لماذا لم تنل رضاك . ”
أجابت الأم ابنها الموظف :
” ما هذه الحماقة التي تنطق بها يا ولدي ؟
” امرأتك هذه تنقصها اللباقة وآداب السلوك .
” إنها عاصية تتصرف في كثير من الحرية
” منذ زمن بعيد وأنا أتحمل إهاناتها .
” أما أنت فلا أستطيع أن أدعك تتصرف حسب هواك
” في بيت جيراننا فتاة فاضلة
” جميلة جمال ” كين ليوفو(1)
” فتانة إلى حد بعيد ،
أريد أن أخطبها لك ،
” أسرع فطلق زوجتك هذه
” ولتذهب دون رجعة . ”
ركع ابنها على ركبتيه وانحنى لها
وتوجه بقلبه إلى أمه خاضعاً وقال لها
” إذا طلقت هذه المرأة اليوم فسأبقى طول حياتي دون زواج .”
غضبت الأم غضباً مخيفاً حين سمعت كلام ولدها
وجعلت تضرب المنضدة بيديها وتصرخ
” يا لك من ولد وقح لئيم
” يتجرأ فيدافع عن زوجته .
” هذه الزوجة التي لا توحي لي بأي عطف
” لن تنال رضا أمك ـ على كل حال ـ
* * *
لزم ( زون جينغ ) الصمت وحيا أمه
ثم انسحب إلى غرفة زوجته
وأعاد عليها كل ما دار بينه وبين أمه
وقال لها ، وصوته متهدج يقطعه النحيب :
” لا أريد أبداً هجرانك
” ولكن أمي مصرة ولا أستطيع لأمرها ردا ،
ـــــــ
(1) امرأة تقول الأساطير إنّها جميلة جداً .
” خير لنا أن تذهبي فترة من الزمن إلى بيت أهلك ،
” وأسافر أنا إلى عملي في الولاية ،
” سأعود إليك عمّا قريب ،
” وأردك عندئذ إلي .
” فاطمئني ولا تقلقي .
واتبعي كل ما أوصيك به .”
قالت الصبية لزوجها الموظف :
ـ ” حذار أن تعقد الأمور ،
” سأعود إلى بلدي في هذا الشتاء الذي لا أنساه ،
” إلى بلدي الذي تركت فيه أسرتي لألتحق بأسرتك الشريفة ،
” نفذت إرادة والدتك في كل أمر .
” كيف أجروء على التصرف حسب إرادتي ؟
” اشتغلت ليلاً ونهاراً دون راحة
” أجهدت نفسي ونسيت تعبي
” ما أظن أني ارتكبت خطأ
” في أداء واجباتي نحو أمك الطيبة ،
ورغم ذلك فقد تم طردي
” لماذا تتحدث عن عودة محتملة ؟
” لي ثوب مطرز تطريزاً دقيقاً
” إنّه يفيض ألقاً وروعة
” ولي كلة محفوفة بسماء من حرير لماع
” جوانبها الأربعة مطرزة بحاشية معطرة ،
” ولي ستون حقيبة وأشياء أخرى
” مربوطة بحبال وخيوط زرق وخضر .
” ولي أدوات أخرى مختلفة الأنواع والأشكال ،
” كل هذه الأشياء لا قيمة لها ما دامت صاحبتها موضع احتقار .
” إنّها لا تليق باستقبال زوجتك التي ستحل محلي .
ولذلك فأنا أتركها لك لتهبها لمن تشاء ،
” وما دمنا لن نلتقي أبداً
” فلعلها تدخل إلى قلبك شيئاً من العزاء حين تراها
” ولعلها تحيي ذكراي في نفسك فلا تنساني ”
* * *
صاح الديك ، وكاد ينبلج النهار
أفاقت الصبية وأخذت زينتها
ارتدت إزارها وثوبها من الديباج
توقفت مراراً لتدقق في كل التفصيلات .
وانتعلت حذاءين من الحرير
وجمعت شعرها في دبوس من عظم السلحفاة
ولمع في أذنيها قرطان من اللؤلؤ في لون القمر
وتراءت شفتاها قرمزيتين ،
ومشت في خطوات خفيفة
إلى البهو فاستأذنت حماتها
فتركتها هذه ترحل ، دون أن تقوم بحركة للإمساك بها ،
قالت للعجوز :
ـ ” عندما كنت صغيرة عشت في ركن منعزل في الريف
” لم أقتبس قواعد السلوك الحسن ،
” أنا غير لائقة بابن أسرتك النبيلة
” في زواجي تلقت أسرتي منكم كثيراً من المال .
” ولكني عندما دخلت بيتكم لم أخدمك كما يجب
” واليوم ، وأنا أعود إلى بيت أبويّ
” يعزّ عليّ أن أراك وأنت تقومين بأعباء البيت ”
مضت الصبية لتودع أخت زوجها
وعندئذ سالت دموعها غزيرة كأنّها لآلئ تتساقط
قالت لها :
ـ ” عندما دخلت هذا البيت
” لم تكوني أطول من هذه المنضدة ،
” أما الآن ، بعد أن طلقني زوجي ،
” فقد أصبحت قامتك في طول قامتي .
” كوني نشيطة واعتني بأمك خير عناية
” واهتمي بأمورك ، فأنت ما تزالين صغيرة .
” في اليوم السابع من الشهر السابع ومن كل الأيام التي تقع في التاسع عشر من كل شهر(1)
” حاولي ألا تنسيني عندما تلعبين مع صديقاتك .
قالت الصبية ذلك وصعدت إلى عجلتها
وقد غرقت وجنتاها بفيض من الدموع .
* * *
أما العجلة سارت مطية زوجها الموظف
ووراء المطية سارت عجلة الصبية .
قرعت سنابك الخيل الأرض ، وصرّت دواليب العجلة صريراً .
توقف الزوجان عند مفرق طرق .
ترجل ( زون جينغ ) وصعد إلى العجلة
أحنى رأسه ، وهمس في أذن زوجته
ـ ” أقسم لك إني لن أهجرك .
” ستقضين أياماً عند أهلك .
” وسأمضي إلى عملي في الولاية
” وسألحق بك حتى بعد أيام
” أقسم لك بالسماء : إني لن أخونك .”
قالت الصبية عندئذ لـ ( زون جينغ )
ـ ” أشكر لك هذه العواطف الصادقة
” وما دمت تحتفظ بي في صميم قلبك
” فأنا أرجو أن أراك تعود إليّ عما قريب .
” أنت مثل صخرة
” وأنا مثل عرق في قصبة تقاسي التجربة
” أما الصخرة فراسخة لا تتزعزع .
” ولكن لي أخاً هو أكبر مني سناً
” طبعه قاس .
” أخشى أن يكرهني على الزواج إذا رآني مطلقة
” وذلك ما يقلقني ويرهقني .”
ــــــ
(1) لم أدر المقصود من هذا التحديد للزمن ولعله من الأزمنة القمرية التي يعتني بها أهل الصين ، كما أخبرني بذلك أحد أصدقائي من الصين وهو من أيام السعد والانسجام عندهم .
رفع الزوجان يديهما للوداع ، وهما حزينان
كئيبان تسحقهما حسرة واحدة .
* * *
اجتازت الصبية باب بيتها ورأت أهلها
حيتهم في احترام دون أن ترتبك
رأتها أمها فضربت كفيها وصرخت :
ـ ” ما كنت أحسب أن تعودي إلينا وحدك
” عندما كنت في الثالثة عشرة علمتك الحياكة
” في الرابعة عشرة تعلمت الخياطة
” في الخامسة عشرة عزفت على القيثارة
” في السادسة عشرة أحطت بقواعد السلوك
” في السابعة عشرة ، عند زواجك ، زودتك بأوامري وتوصياتي
” فلماذا عدت إلينا وحدك ولماذا لم أذهب أنا لإحضارك
” إن لم يكن هنالك ما يعيبك . ”
قالت الصبية لأمها قلقة مرتبكة :
ـ ” أماه . الحق أني لم أرتكب خطأ ”
نزل بالأم كرب شديد ، وحزن عظيم
بعد عشرة أيام من عودة (لانزي)
أرسل رئيس المقاطعة وسيطا
قال الوسيط :
ـ ” الولد الثالث من أولاد رئيسي
” شاب جميل . ذو قوام رشيق
” عمره ثمانية عشر عاماً أو تسعة عشر
” أهل لتلبية طلبه ، فهو نابغة .”
قالت الأم لابنتها الصبية :
ـ ” عليك أن تكشفي عما في ضميرك .”
أجابت الصبية ، وعيناها مغرورقتان بالدموع :
ـ ” في الطريق وأنا عائدة إلى بيتنا
” جدد لي ( زون جينغ ) وصاياه ،
” أقسمنا ألا نفترق ،
” أخشى إن أنا حنثت اليوم بقسمي
” أن تحل بي مصيبة
” أرجوك أن تعتذري عني للوسيط
” مازال لدينا متسع من الوقت ندرس فيه هذا الموضوع .”
عمد ذلك قالت الأم لرسول حاكم المقاطعة :
ـ ” ليس في بتنا المتواضع غير هذه البنت
” ولقد عادت منذ قليل من بيت زوجها الأول .
” وإذا كانت غير لائقة بموظف صغير
” فهي أقل لياقة بالسيد الكبير ،
” أرجو أن تطلع على هذه الأمور في إسهاب
” وأفضل أن نتريث قبل قبول اقتراحك .”
* * *
بعد أيام من رحيل الوسيط
أرسل حاكم الولاية رسوله .
عاد الرسول من مهمته وقال لسيده :
ـ ” في أسرة (لان) ، وهي أسرة موظفين قدماء
صبية جميلة تصلح زوجة لولدك . ”
ثم أضاف :
ـ ” للوالي ولد خامس
” كثير الدلالة على والديه ولكنّه ما يزال عزبا
” وطلب مني الحاكم أن أكون له وسيطا . ”
لم يكد يقول ذلك حتى مضى إلى ( لانزي ) وقال لها :
ـ ” في بيت الوالي سيد شاب جميل
” يريد أن يرتبط بأسرتك
” لقد أوفدني الحاكم إلى بيتك الشريف .”
ردت الأم على طلب الرسول فقالت :
ـ ” ابنتي حريصة على عهودها
” فكيف تريد أن أجيبك بدلاً عنها ؟ “سمع أخو ( لانزي ) الكبير ما قالته أمه
فاستبد به الغضب
وقال لأخته الصغيرة :
ـ ” أ يمكن أن تكوني طائشة إلى هذا الحد ؟
” في زواجك الأول كان زوجك موظفاً صغيراً ،
” وفي زواجك الثاني سيكون زوجك سيداً كبيرا .
” قارني بين هذا وذاك وسترين الفرق بينهما مثل الفرق بين الأرض والسماء .
” سترفلين هذه المرة في أثواب الشرف
” وإذا رفضت طلب ابن الوالي
” فلماذا تريدين البقاء في هذا البيت ؟ ”
رفعت ( لانزي ) رأسها وقالت لأخيها :
ـ ” أنت على صواب يا أخي الكبير
” لقد تركت بيتنا لأخدم زوجي
” ولكني عدت إلى أسرتي وما أزال في منتصف عمري
” أنت يا أخي من يقرر في هذا البيت كل أمر .
” فكيف تريد أن أقرر أنا ما أريد .
” أحب زوجي الأول الموظف
” ولكن لا سبيل إلى لقائه من جديد .
” اقبل ـ إذا شئن ـ طلب ولد الحاكم
” ويمكن أن نحتفل بالزواج في أمد وجيز .”
وقف الوسيط واستأذن
وشكر مضيفه في حفاوة
ومضى إلى الحاكم في قصره
ـ ” أنا خادمك المطيع ، كلفتني القيام بهذه المهمة
” وكان لي مع الأسرة حديث آتى ثمرته .”
سمع الحاكم هذا الخبر
فلم يستطع كبح جماح فرحه .
نظر إلى التقويم السنوي واستشار المواقيت ،
وجد في الشهر نفسه حظاً سعيداً
تجتمع فيه الانسجامات السبعة
قال :
ـ” في الثلاثين من هذا الشهر مناسبة مثالية
” نحن اليوم في اليوم السابع والعشرين منه
” هيا . ليكن كل شيء جاهزاً للاحتفال .”
وأذيع أمر الحاكم بالاستعداد :
هاج الناس وماجوا ، فكأنّهم غيوم تسبح في السماء .
دهنت المراكب ، صورت عليها طيور بيض وخضر
زخرفت زواياها الأربع بشعارات التنين وراياته
وجعلت الرايات ترفرف في مهب الرياح ،
وضعوا للعجلات الذهبية دواليب من اليشب
وجعلت الخيول المطهمة تشب في هيجان
وطرزت سروجها بعقود من الذهب الخالص الرنان .
قدمت لأسرة الصبية هدايا من ملايين الدنانير
وقد صرت الهدايا كلها بخيوط خضر
وقدمت لها كذلك ثلاثمائة قطعة من الحرير الملون
ومنتجات نادرة جاءت من البحر الجنوبي .
وسار وراء الموكب عدة مئات من الرجال واحداً بعد واحد
خرجوا جميعاً من قصر الحاكم .
* * *
قالت الأم لابنتها الصبية :
ـ ” الآن وصلتنا رسالة الحاكم
” سيصل الموكب غداً لأخذك
” فلماذا لا ترتدين ثيابك ؟
” حذار أن تؤخذي على حين غرة .”
لزمت الصبية الصمت
غطت فمها بمنديلها وأجهشت بالبكاء ،
وتساقطت من وجهها إلى الأرض دموع مرة
نقلت سريرها الصغير الموشى بالبلور من مكانه
ونصبته عند النافذة الأمامية
تناولت المقص والمسطرة بيدها اليسرى
أمسكت أثواب الديباج والحرير بيدها اليمنى
في الصباح أتمت خياطة ثوب الديباج
في المساء صنعت وشاحاً من الحرير .
وعندما أدبر النهار وحل الليل
خرجت حزينة لتبكي خارج بيتها .
* * *
سمع الموظف أنباء هذه الأحداث التي لم يكن يتوقعها
فطلب إجازة وسافر
على بعد ميلين أو ثلاثة أميال من بيت ( لانزي )
صهل حصانه صهيلاً موجعاً
وعرفت الصبية صهيل الحصان
مشت في هدوء للقاء زوجها
كانت عيناها تفيضان حزناً وتنظران إلى بعيد ،
عرفت أنّ زوجها القديم وفى بوعده وعاد إليها
رفعت يدها وألقتها على سرج حصانه
وقالت له :
ـ ” منذ تركتنني
” فاجأتني أحداث وأحداث
” لم يسر شيء كما تمنيناه وخططنا له ، ولقد تنبأت بذلك .
” يستحيل عليّ أن أشرح لك كل ما حدث
” مارست أمي وأخي الكبير كلاهما الضغط عليّ .
” وافقا على خطبتي لرجل آخر
” فماذا تريد أن أصنع ؟ ”
وأجاب الموظف في مرارة :
ـ ” أهنئك على ما أنت فيه من نعيم
” الصخرة راسخة صلده
” سيبقى قلبي صامداً ولو بعد ألف عام
” ولكن عرق القصبة لا يثبت أكثر من ثانية واحدة
” إنّه لا يلبث أن يتمزق
” أنت بين يوم ويوم تسيرين في طريق الثروة والشرف .
” أما أنا فأمضي وحيداً إلى الدار الآخرة .”
قالت الصبية عندئذ للموظف :
ـ ” ما كنت أظن أن تقول لي ما قلته
” نحن كلانا ضحية الطغيان ،
” أنت شقي وأنا شقية
” سنلتقي قريباً في العالم الآخر
” ليتمسك كل منا بهذا العهد .”
ثم تصافحت يداهما وافترقا
ليعود كل منهما إلى مسكنه
عندما يفترق إنسانا حيّان ليلتقيا في أحضان الموت .
فليست هنالك كلمات تستطيع التعبير عن مرارة هذا الفراق .
لقد قررا أن يمضيا إلى الدار الآخرة
وما من شيء يمكن أن يربطهما بالحياة الدنيا .
* * *
عاد الموظف ( زون جينغ ) إلى بيته
ومضى إلى البهو لتحية أمه
قال لها :
ـ ” الريح تعصف اليوم والجو عنيف
” البرد دمر الأشجار والأعشاب
” الصقيع سحق زنابق الباحة
” ولدك مثل هذا النهار الذي يتلاشى
” سوف يغادر أمه لتعيش بعده وحيدة
” لقد اتخذت أنا نفسي هذا القرار المشؤوم
” لا تنقمي على الأرباب
” ولتكن حياتك طويلة مثل جبل الجنوب ،
” ولتكن صحتك زاهرة متينة .”
سمعت الأم هذه الكلمات فانتحبت وفاضت عيناها بسيل من الدموع
ودمدمت وهي تنشج وتشهق :
ـ ” أنت يا ولدي وريث أسرة كبيرة ،
” لقد كان أسلافك من الموظفين العظام .
” لا تمت من أجل تلك المرأة ذات الأصل الوضيع ،
” ليس من الخيانة طلاق امرأة ناقصة
” عند جيراننا في الشرف فتاة فاضلة
” جمالها ليس له مثيل في المدينة
” سأخطبها لك يا ولدي
” وسيتم الأمر خلال يوم أو يومين .”
حيا ( زون جينغ ) أمّه مرة أخرى
وعاد وهو يشهق إلى غرفته الخالية
لقد قرر التضحية بنفسه في سبيل حبه
ولكنه ، وه يترقب موته ، حدق طويلاً
في غرفة أمه ، والألم يمزقه
* * *
طلع النهار ، وعلى صحصحة الخيول وخوار الأبقار
دخلت (لانزي ) خيمة الزوجة الجديدة .
وعندما هبط المساء وسكنت الضجة وساد الصمت
قالت :
ـ ” اليوم تنتهي حياتي
” عمّا قليل ستمضي روحي وتبقى جثتي ”
قالت ذلك وخلعت حذاءها الحريري
وفضت عنها ثيابها ، وألقت بنفسها في البركة الصافية .
سمع الموظف ( زون جينغ ) الخبر فأدرك
أنّه لن يرى حبيبته الغالية أبداً
تمشى تحت شجرة الباحة
وشنق نفسه على غصن يجنح نحو الجنوب ـ الشرقي
* * *
طلبت الأسرتان أن يدفن العاشقان معاً
في قبر واحد عند سفح جبل ( هوس ـ هان )
في شرقي القبر وغربيه نبتت أشجار الأرز والصنوبر
على يمين القبر وشماله امتدت ظلال الدفلي
وتعانقت أغصان الشجار
وامتزجت أوراقها
وسكن بين الأغصان زوجان من الطيور
سماهما الناس ” طيور الحب ”
كانا يتراءيان ويغردان مرفوعي الرأس ،
في كل ليلة حتى الهزيع الخامس .
وظل المارة يتوقفون لسماع غنائهما .
أما الأرامل فكن لا يطقن البقاء فيهرعن مجنونات .
* * *
نصيحتي للأجيال المقبلة
أن يأخذوا العبرة من هذه القصة وألا ينسوها أبدا
* * *
تعقيب
بقلم عبد المعين الملوحي
هزتني هذه القصة الصينية الرائعة ” الطاووس يطير نحو الجنوب الشرقي ” ولاحظت الملاحظات التالية :
1 ـ تتشابه أحوال العاشقين في كل الشعوب : يهجرون ، يقاسون ، يموتون أو ينتحرون .
2 ـ وجدت لهذه القصة الصينية مشابه في أخبار التراث العربي والتاريخ العربي ، منها :
أ ـ الآباء والأمهات يتدخلون في التفريق بين الأزواج المتحابين ومنهم :
1 ـ أبو بكر الصديق ، فقد تزوج ابنه عبد الله عاتكة بنت زيد بن عمر بن نفيل ، فعشقها حتى كاد يطير عقله .. فلما تزوج بها أقام سنة لا يشتغل بسواها ى، ثم قدمت عليه تجارة من الشام ، فخرج يتعاطى أمرها ، فخيل إليه حين خرج أنّه لم يعد ينظر إلى عاتكة فعاد في الأثر فجلس معها وترك التجارة . فلما كان يوم جمعة وهو معها ، إذ فاتته الصلاة ، وهو لا يدري ، وجاء أبوه ، وهو أبو بكر الصديق ، فوجده عندها ، فقال له : أ جمعت ( أصليت الجمعة ؟ ) فقال : وهل صلى الناس ؟ فقال قد ألهتك عاتكة عن التجارة ، فلم نهتم بذلك ، ولم نقل شيئاً ، وقد ألهتك عن الصلاة ، طَلِّقْها ، فطلقها طلقة ، واعتزلت ناحية ، فلما كان الليل قلق قلقاً شديداً ، فأنشد :
أعاتك لا أنساك ما ذر شارق وما ناح قمري الحمام المطوقُ
فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ولا مثلها في غير شيء تطلقُ
وكان أبو بكر على سطح يصلي ، فرق له فقال له : أرجعها ، فقال : قد أرجعتها ، ثم أشرف على غلام له فقال له : أنت حر ، وأشهد أني أرجعت عاتكة ، ثم ضمها إليه وأعطاها حديقة .
( تزيين الأسواق في أخبار العشاق لداوود الأنطاكي 1:245ـ246
وإذا كان هذا التدخل الأبوي قد توقف وعاود الزوجان المتحابان حياتهما المشتركة ، فهناك تدخلات أخرى تحولت إلى مأساة :
2 ـ قيس بن ذريح وزوجته لبنى بنت الحباب الكعبية .
تزوجها قيس وأقام مدة مديدة معها على أرفع ما يكون من أحسن الأحوال ومراتب الإقبال وفنون المحبة ، وكان قيس على أبلغ ما يكون من أنواع البر بأمه ، فشغله الانهماك مع لبنى عن بعض ذلك ، فحسنت أمه لأبيه التفريق بينهما فقالت له : لو زوجته بمن تحمل لتجيء بولد كان أبقى لنسبك وأحفظ لبيتك ومالك ، وأنّهما عرضا ذلك على قيس فامتنع امتناعاً يؤذن باستحالة ذلك وقال : لا أسيبها قط ، واقام يدافعهما عشر سنين ، إلى أن أقسم أبوه أو أمه لا يكنه سقف أو يطلق قيس لبنى ، فكان إذا اشتد الهجير يجيئه فيظلله بردائه ، ويصطلي الحر حتى يجيء الفيء . فيدخل إلى لبنى ويتعانقان ويتباكيان ، وهي تقول : لا تفعل . إلى أن قدر له أن طلقها . فلما أزمعت الرحيل بعد انقضاء العدة .. فأتى إليها فمنعه أهله وأخبروه أنّها غداة غد ترحل إلى أهلها فسقط مغشياً عليه .
وتبعها حين ارتحلت ينظر إليها ، فلما غابت رجع يقبل أثر بعيرها . ومازال يتقلب بين المرض والصحة حتى ماتت لبنى ، ومات بعد ثلث من موتها ودفن إلى جانبها ..
( المصدر نفسه 1 : 83 – 96 باختصار )
3 ـ عروة بن حزام وعفراء
حال أهلها دون زواجه بها وزوجوها لرجل غني .. فلما مات عروة ألقت نفسها على قبره فحركت فوجدت ميتة .
ب ـ حكاية الشجار التي نبتت على قبور العاشقين
جاء في نهاية القصة الصينية هذا المقطع العاطفي المؤثر :
طلبت الأسرتان أن يدفن الحبيبان معاً
في قبر واحد ، عند سفح جبل ( هوس ـ هان )
في شرقي القبر وغربيه نبتت أشجار الأرز والصنوبر
على يمين القبر وشماله امتدت ظلال الدفلي
وتعانقت أغصانها
وامتزجت أوراقها
ورفرف بينهما زوجان من الطيور
سماهما الناس ” طيور الحب ”
الخ ..
جـ ومثل هذه الحكاية تتردد كثيراً في الأدب العربي :
1 ـ لما ماتت ( عفراء ) ودفنت إلى جانب ( عروة ) فنبتت من القبرين شجرتان ، حتى إذا صارتا على حد قامة التفتا فكان المارة ينظرون إليهما ، ولا يعرفون من أي ضرب من النبات هما ، وكثيراً ما أنشد فيهما الناس شعراً ..
( المصدر نفسه 1 : 133 )
2 ـ شجرة العروسين :
تزوج عتبة بن الحباب ريا ثم مضيا إلى أهله ، وفي الطريق خرجت خيل ، فأصابت طعنة نحر عتبة فمات ، فلما علمت ريا بموته جاءت حتى انكبت عليه وأنشدت شعراً .. ثم شهقت شهقة فماتت .
قال الراوي ، عبد الله بن معمر القيسي : فواريناهما معاً ، فأقمت سبع سنين ، ثم رجعت إلى زيارة قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـفقلت : لا أبرح أو أزور عتبة ، فجئت فإذا أنا بشجرة عليها ألوان من الورق ، قد نبتت على القبر ، فسألت عنها فقالوا ” شجرة العروسين ”
( المصدر نفسه 1 : 165 – 166 )
وورد في شاعرات العرب 1 – 15 : سعدى الأسدية نعيمة ، علقها فتى من قومها فمنعه أبوه من الزواج بها، وزوجها أبوها من رجل آخر فاشد وجد الفتى بها فأنشدها شعراً فأجابته سعدى ووعدته مكاناً وزماناً . فجاء في الموعد فوجدها ميتة فاحتملها إلى شعب بذرى جبل وضمها ملتزماً لها فمات . ثم إن بعضهم وجدهما فأبلغ عنهما فدفنوهما .
رأي :
أ ترى اطلع الأدباء العرب حين رووا أخبار الشجر على قبر عروة بن حزام وعفراء وعتبة وريا ، على هذه القصة الصينية وحديثها عن شجرة العاشقين المنتحرين ؟ ما أظن .. ولكن العواطف الشعبية تتشابه في شفقتها على العشاق المحرومين ، ونهايتهم الحزينة ، هذه الشفقة التي لا تقتصر على الشجار الملتفة بل تصل إلى الطيور المغردة . فكأنّ الطبيعة شاركت الناس في حزنها على العشاق .
همسة :
ورد في تحليل القصيدة للكاتب ” زي بيان ” ما يلي :
( منذ ألف وسبعمائة سنة ، عاش في بلاد ( لوجيانغ ) زوجان شابان ثم انتحرا حباً .. وبعد نشر ( القصيدة ) تداولتها دوواين كثيرة ، وقد أعجب بها الأدباء جيلاً بعد جيل .. ونحن اليوم ومنذ 1700 سنة لا نما الاستماع إليها والاستمتاع بها .. )
وإذا كانت هذه القصيدة الصينية لا يمل أهل الصين تكرارها وترديدها وقد مضى عليها 17 قرناً ، فلماذا يلوم بعض الناس العرب لأنّهم ما يزالون يعجبون بالشعر الجاهلي ويرددونه ولم يمض عليه 15 قرناً؟
رثاء الموظفين
أيها الموظفون.
يا موظفي الدوائر السود، ويا كتاب الوزارات الكبرى في الدولة، إن عليكم أن تقرؤوا صباح كل يوم على أبواب سجونكم الكالحة، هذه الجملة التي كتبها دانتي فوق باب “جحيمه”:
“انفضوا عنكم كل أمل يا من تدخلون”.
يدخل الموظف دائرته للمرة الأولى وهو في العشرين من عمره، فيبقى إلى الستين وينقضي هذا العمر كله، لا يحدث فيه حادث، ولا يجد فيه جديد، وتنصرم الحياة كلها في زوايا ذلك المكتب الصغير القاتم، وهي هي نفسها، والمكتب هو هو نفسه والأوراق هي هي بعينها، يتخذ منها المكتب فراشه وأثاثه ورياشه.
يدخل الموظف دائرته للمرة الأولى وهو، يدخلها في الساعة التي تتوثب فيها الآمال الجامحة، ويخرج منها شيخا عجوزا يهم بأن يستلقي في تراب قبره ليستريح.
أما هذا الحصاد من الذكريات التي يصنعها الإنسان في الحياة، وأما ذلك الجني من الحوادث الخارقة التي يلقاها الإنسان في الدنيا، وأما تلك الأنواع المختلفة من الحب العذب أو المر، البهيج أو الحزين، وأما تلك السياحات المغامرة وتلك الرحلات الصاخبة، وأما تلك المصادفات التي تلقاها الحياة الحرة الطليقة في طريقها، أما هذه الأمور كلها فأمور يجهلها هؤلاء المساجين، هؤلاء الذين حكمت عليهم وظيفتهم بالأشغال الشاقة المؤبدة:
الأيام كلها تنقضي والأسابيع كلها تمر والأشهر كلها تنصرم، ولكنها كلها متشابهة متساوقة ذات نمط واحد ووتيرة واحدة:
يأتي الموظف في الساعة المعينة المحدودة، ويطعم في الساعة المعينة المحدودة، ويخرج في الساعة المعينة المحدودة ويبتدىء هذا القتل للحياة في العشرين من العمر لينتهي في الستين من أرذل العمر، ولكنه قد ينحرف قليلا في حوادث أربع طارئة تثبت تاريخها في ذاكرته:
الزواج، ولادة الطفل الأول، موت الأب وموت الأم ثم لا شيء أبدا، عفوا عفوا فلقد نسيت، هنالك أيضا الملاكات والترفيعات.
أما الحياة العامة العادية، وأما العالم فلا يعرف عنهما شيئا بل أنه ليجهل تلك الأيام الضاحكة ذات الشمس المشرقة في الشوارع وتلك الضروب اللذيذة من التشرد في البساتين والحقول وعلى ضفاف الأنهار وعلى شواطىء البحار فالوظيفة لاتطلقه من عقاله قبل الساعة التي يحددها القانون، وباب المعتقل يغلق عليه في الساعة الثامنة صباحا ليفتح له في الساعة السادسة مساء وقد أرخى عليه الليل حجابه، ولكن علام ننكر أن تكون له مكافأة في كل سنة، أما مكافأته فهي حقه خلال خمسة عشر يوما في أن يكون كالناس يناقش ويحكم ويلوم ويستنكر وفي أن يبقى معتكفا في عقر بيته يراقب العنكبوت، وإلا فاخبرني أين يمكن أن يذهب ولا مال له .
أما عامل المدافىء فيصعد الأبنية متسلقا إلى السماء، وأما الحوذي فيطوف المدينة دائرا في الشوارع وأما عامل السكك الحديدية فيخترق الغابات والسهول والجبال ويغادر دون انقطاع حيطان المدينة السود إلى الأفق العريض الأزرق في البحار، ولكن الموظف لا يترك مكتبه أبدا، وهل مكتبه إلا تابوت حياته.
ويهم الموظف بمغادرة مكتبه، ويرى وجهه في مرآة هذا المكتب ولكن ما بال هذه المرآة التي رأى فيها لأول مرة شاربيه الأشقرين عند دخوله إلى المكتب ما بالها تريه وجهه الآن وهو ذو لحية بيضاء وتريه رأسه الآن وهو أصلع لا شعر فيه أمن أجل هذا قذفوا به إلى الشارع؟؟
إذن فقد انتهى كل شيء، أما الحياة فقد أغلقت عليه أبوابها، وأما المستقبل فقد سد نوافذه في وجهه، ولكن كيف حدث ذلك كذلك؟ كيف حدث أن بلغ من العمر هذا الحد؟ وأن هرم هذا الهرم؟ دون أن تحدث في حياته حادثة ودون أن تفاجئه أية مفاجأة تهزه مرة واحدة على الأقل هزا عنيفا، ولكن لم هذا السؤال؟ إن جوابه واضح أكيد: سر أيها الموظف المتقاعد العجوز في طريقك ودع مكانك للشباب، للشباب الموظفين.
ويمضي هذا الإنسان في طريقه وهو أكثر شقاء وألما، ويموت رأسا لانقطاع هذه العادة في المكتب انقطاعا مفاجئا ولزوال تلك الحركات نفسها في تلك الأزمنة نفسها وراء تلك المنضدة نفسها.
شاعر من جبل العرب
تغريدة الصباح
للشاعر: وديع ملحم العريضي
بقلم: عبد المعين الملوحي
إذا كان الهم الاجتماعي يشغل ديوان الشاعر “ثائر زين الدين” “ورد” فإن الهم القومي يشغل ديوان الشاعر “وديع ملحم العريضي” وفي اعتقادي أن الهم الاجتماعي والهم القومي يلتقيان في نقطة واحدة هي أنهما ينطلقان معا من الشعب، فأحدهما يهتم بعيشه والآخر يهتم بمصيره، ويبقى الهم الذاتي يختفي تحت مشكلات الشعب كما تتوارى النار تحت الرماد.
ويبدو الهم القومي واضحا في المقدمة الطيبة التي يفتتح بها الشاعر ديوانه، ويخاطب أمته:
“أرى بوضوح مستقبلك الآتي…
مشعلا للحرية… ينير ربى هذا الكون
كبيرة… كبيرة
…
فإليك يا أمتي
وأنت تثابرين في مسيرة شموخك، عبر مسالك الدروب الوعرة، وإلى جميع المناضلين الشرفاء، من أجل تحرر هذا الكوكب من الظلم..
والقهر.. والاستبداد…
أهدي كلماتي..
خصائص الشاعر:
1- مزج الحبيبة بالأرض، والأرض بالحبيبة يفاجئك أول ما يفاجئك في الديوان هذا المزج الموفق بين الأرض التي تحبنا والحبيبة التي نحبها، فلا تدري أيهما يصف وأيهما يخاطب،
“أنت حلوة
توأمان للجمال
ص 7 قصيدة أنت وأرضي
أنت حلوة
وهواك
فوق نسرين فؤادي
مثل أرضي
ص 9 من قصيدة أنت وأرضي
أرصد الوطن في بوابة صمتك
…
لن نحيا أبدا غرباء
الغربة فينا
اشتياق الذات
لعناق الذات
ص 34-39 من قصيدة لن نحيا أبدا غرباء.
2- حب الوطن:
ويهزك في الشاعر حبه العميق لوطنه، ويبدأ هذا الحب بحب قريته “بيصور” التي أكره على مغادرتها لاجئا إلى “قنوات” في محافظة السويداء ثم ينتقل إلى حب وطنه العربي الكبير، وربما وصل أحيانا إلى حب العالم.
وحبيبتي من تكون
بيصور في القلب أنت
بيصور أنت في العيون
وقد علمته “بيصور” أن يكون طفلا من صخر وأن يكون بطلا:
علمتني بيصور معنى
أن يكون الطفل صخرا
علمتني بيصور معنى
أن يكون الموت مجدا
من قصيدة تغريدة الصباح ص 40-47.
وينتقل من قريته بيصور ليعدد مفاتن وطنه تعدادا كاملا، جباله وأنهاره وأشجاره، في كل مكان، في الجنوب والشمال والشرق والغرب والجبل والوادي فترى صورة جميلة رائعة لوطنه الصغير المعذب “لبنان” وقصيدته:
“”عيناك وقد استيقظ الوطن” ص61-70
تجمع بين العاطفة الجياشة في قلبه والأماكن الرائعة في بلده الخالد الصامد:
“لأنك يا بلادي
الزاد والشلال والأقاحي
لأنك الخالدة الصامدة
من قصيدة لن نحيا أبدا غرباء ص 34-39
3- النضال الوطني والاستشهاد في سبيل تحريره:
ويدعو الشاعر إلى النضال والاستشهاد في سبيل تحرير الوطن المغتصب وتكاد هذه الدعوة تعم كل ديوانه ولا سيما في قصيدته” فداك بلادي” التي أهداها إلى عروس السويداء، الشهيدة زهر أبي عساف ويعرفها في هامش القصيدة هذا التعريف الموجز:
زهر أبو عساف: مواليد قرية سليم، محافظة السويداء، عام 1967
* آمنت بأن الدماء التي تجري في عروقها ليست ملكها بل هي وديعة الأمة فيها متى طلبتها وجدتها.
* لبت نداء الأمة.. وبذلت دمها فوق أرض الجنوب اللبناني في مواجهة العدو الصهيوني الغاصب بتاريخ 18 حزيران 1987 ويقول الشاعر على لسان الشهيدة:
يحيا وطني
وباسمه أهوى
عشقت الموت
لأجله أفنى
أفديه بعمري
وهو الأغلى
تحية تضحية يا وطني
كي تبقى
وستبقى الأعلى
قصيدة فداك بلادي ص23-27
ولا تقل قصيدته “صرخة شهيد” عن قصيدته تلك في الدعوة إلى النضال والاستشهاد.
4- التفاؤل بتحرير الأرض من الغاصبين:
وقصائد الشاعر في النضال حافلة بالتفاؤل بتحرير الوطن، ودحر الغاصبين، وهو تفاؤل يسوغه ما نراه في الجنوب اللبناني وفي فلسطين من أعمال بطولية خارقة تستهدف تحرير الأرض والإنسان:
لتقرع الطبول
ومدنا يثور
فليلنا نهار
وأمسنا نشور
في القلب يا حبيبتي
بذارنا كثير
سيقهر الدخيل
ويهتف الصغار
بشائر انتصار
صرخة الشهيد ص17-20
وحبك يا وطني
قسما
ستظل أرضك للغزاة
قبورا
(لن نحيا أبدا غرباء ص34-39)
5- ماذا يريد الشاعر من وطنه ولوطنه؟
والشاعر لا يرى في الوطن ترابا وأحجارا فحسب وإنما يراه أهدافا انسانية ومثلا عليا وفي قصيدته “بطاقة مناضل” يرسم هذه الأهداف والمثل:
أصابع يسراه
تتشبث بالتراب الممتزج بدمه
تعتصره
اعتصار شفة طفل جائع
لثدي أمه
طالبا من لبنها المزيد،
فماذا يريد هذا المناضل أن يعطي لوطنه وأن يعطيه وطنه:
أختصر الوطن بكلمة:
مقاومة
أشتهي حصاد بلادي بمنجل
اسمه التحرير
أنتسب لعائلة
أصلي منغرز في جذورها
كانغراز الجبل في باطن الوادي
عائلة اسمها
الأمة الواحدة
أعشق أنثى
تضاهي الملائكة
رقة .. حسنا.. سحرا.. وبهاء
إنها معبودتي المزمنة
أنثى تدعى
الحرية..
ويلح الشاعر في مطالبه على العدالة الاجتماعية.
7- شكوى
ولا بد لنا في نهاية هذا العرض الموجز لديوان “تغريدة الصباح” من أن نعرج قليلا على شكوى الشاعر في قصيدته (كبرياء العاطفة ص87-94)، من أولئك الذين يعرقلون مسيرة الحياة وتقدم الحضارة وتحرير الوطن عندما يؤثرون أنفسهم على إخوانهم وانتماءاتهم على أوطانهم فيضيفون إلى طعنات العدو الغادر مسامير تخدش أقدام الذين ينيرون لهم دربهم:
ألم
لا يؤلمني جرح يصيب مني القلب
من طعنة عدو لي
بمقدار ما يؤلمني
خدش مسمار تتعرض له قدمي
وضعه في دربي
من أقدم له جسدي مشعلا
لكي أنير له الدرب…
تحية للشاعر المناضل ورجاؤنا أن يعود إلى قريته الجميلة “بيصور” وإلى وطنه المحرر”لبنان” وماذا نملك غير التحية وغير الرجاء..
الثقافة الأسبوعية ـ العدد 46 ـ السنة 32 ـ التاريخ 2/12/1989
قصائد رثاء الأولاد
ذاع في أدبنا العربي القديم قصائد رثاء الأولاد من الذكور،فما تزال قصيدة أبو ذؤيب الهزلي نهز القلوب، وتستدعي المواجع!حتى جعلها بعضهم سلوى لأحزانه؛تروي كتب الأدب أن أبا جعفر المنصور قال لمن حوله،وهم يعزونه في مصاب:أفيكم من يحفظ قصيدة أبي ذؤيب؟فسكتوا،فتألم وجعل مصيبته فيهم ألا يكون أحد يحفظ هذه القصيدة أشد عليه من مصيبته!!
أمِنَ المنون وريبها تتوجعُ
والدهر ليس بمعتب مَنْ يجزعُ
أودى بَنيِّ وأعقبوني غصةً
بعد الرقاد،وعَبْرةً لا تُقلــع
سبقوا هَوِيَّ،وأعنقوا لهواهمُ
فتُخرموا،ولكل جَنْبٍ مَصرعُ
فغبرت بعدهم بعيش ناصب
وإخـال أني لاحقٌ مُسـْتَتْبِعُ
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيتَ كل تميمـةٍ لا تنفـع
كما يصور ابن الرومي عاطفة الأب المفجوع تصويراً يحرك الأسى في القلوب،إذ يقول:
توَخى حِمامُ الموت أوسط صبيتي
فللهِ كيف اختار واسطةَ العِقْــدِ
وأولادُنا مثل الجوارح،أيُّهــا
فقدناه كان الفاجع البَيَّنَ الفَقْــد
ثكلت سروري كلَّه إذ ثكلتُه
وأصبحت في لذات عيشي أخا زهدِ
إلا أننا لا نكاد نقع في أدبنا القديم على قصائد في رثاء البنات كما هو الحال في رثاء الذكور -وهي-إن وجدت لا تبلغ درجة رثاء الذكور!ولا تعدو أن تكون أمنيات بموتها،حتى لا تلاقي الهوان بعد أبيها.أما في أدبنا الحديث فإن أوتاراً كثيرة شدت إلى قيثارة الحزن،فسمعنا قصائد تبدت منها العاطفة الأبوية في قوافٍ دامعة،وكلمات خاشعة،فها هو ذا الشاعر (عبد المعين الملوحي) يصور لوعة الأم،وجزع الأب..يحاول أن يتجلد أمام زوجته وأن يخفف عنها بعد فقد ابنتهما (ورود) وبه من الأسى ما به.
الليلُ أقبلَ،والزقاق يغط في نوم عميقْ
وسهرتُ أرقب أمك الثكلى على حذرٍ وضيقْ
وتلوبُ في الحجرات تهتف:يا ورود.ولا جوابْ
وتُفَتَّح الأبواب تسألها،عسى يُخفيك بابْ
وأظل أخدعها،فإن نامت قتيلَ أسىً وسُهْدِ
أقبلتُ استرقُ الخطى،وأهيم في الحجرات وحدي
وجعلتُ أبحث مثلما بحثَتْ،وأفعل فعلَ أُمَّكْ
فلعلها نَسِيَتْ-وقد ينسى العجولُ-مكان نومِكْ
ويقدم الشاعر (خالد محمد الخنين) لموت ابنته فينثر كلماته دموعاً: “إن موت الأبناء مثل موت النجوم،وموت البجع الأبيض،وموت الأسماك يخلع النفس،ويطفئ قرص الشمس: وما دام الموت يجرفنا هذا الجرف الجماعي،ويقذفنا إلى الضفة الثانية دون أن يكون لدينا وقت للرفض أو الاحتجاج..فليس أمامنا سوى الإيمان بمن وهب الحياة وقدَّر الموت،ذلك هو الله سبحانه وتعالى”.
وتأتي قصيدة الشاعر بعد موت ابنته المفاجئ لتعبر عن جرح عميق في نفسه،وتكون الأبيات بعضاً من التعبير عن مدى الأسى والألم:
أهديت للترب أحلى العمر أجمعه
فمن يعيد لي العمر الذي ذهبا
ما كنت أحسب أنَّ الدهر يفجعني
حتى رأيت عليك القبر منتصبا
وماذا حال الأهل والدار والصديقات بعدها؟
الدار بعدك لَفَّ الحزنُ ساحتَها
والعامُ عامٌ من الأحزان قد كُتِبـا
تقول أختك،والأحزانُ تَعصِفُها
ألن نراها؟!فكيف الشملُ قد ثُلبا؟
تبكي عليك صبايا الحَيِّ مِنْ وَلَهٍ
دوامعاً مِنْ عيون خِلْتُها سُــحُبا
أين التي يُسعِدُ الأطفالَ بَسْمَتُها
أين التي ما علا صوتٌ لها لجبــا
ويدرك الشاعر (محمود مفلح) أن الموت ليس نهاية الأحياء،ويدرك أن هذا الفقد له أجر كبير!فإن الخلاّق العليم الذي فطر قلوب الآباء على حب الأبناء يعلم أية رحمة أودع في القلوب وأية لوعة تكوي هذه القلوب عندما تذوي رياحينها؟!روى الطبراني بإسناد جيد عن حبيبة أنها كانت عند عائشة-رضي الله عنها-فجاء النبي-صلى الله عليه وسلم-حتى دخل عليها،فقال: ما من مُسْلِمَيْنِ يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث (سن البلوغ) إلا جيء بهم يوم القيامة حتى يوقفوا على باب الجنة فيقال لهم:ادخلوا الجنة،فيقولون: حتى يدخل آباؤنا،فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم.
والموت –كما أسلفنا- عند الشاعر المؤمن ليس نهاية الأحياء يقول محمود مفلح في قصيدته “نفحة من الخلود” وقد أهداها إلى روح طفلته (أمامة):
لا تقولي: ماتت. فإن فتاتي
في جَناب الرحمن،في الغرفاتِ
أنا لمّا وسَّـدْتُها بيمينـي
فاح عكرُ الخلود في راحـاتي
فانعمي (يا أُمامُ) عند مليكٍ
وأتِمـي تلاوةَ الآيـاتِ
تلك بوابةُ النعيــم،وهذا
مَوْرِدُ الخُلدِ فاشربي يا قطاتي..
ولا يغيب عن الشاعر وهو في غمرة الحزن،ثواب الله تعالى الذي أعده للصابرين:
فغداً نلتقي فهاهي تسقيني
فُراتــاً في غمرة الغمـرات
يوم يدنو من الرؤوس لهيبٌ
ويَضـجُّ الأنامُ بالدعــوات
ويود الإنسان لو يفتدي النفس بزوجٍ وصاحب وفتاة
يوم تجري إليَّ تحمل كأساً
كوثرياً فيا لكأس نجاتــي!!
هاك:بابا:أحضن الوجه والكأسَ،وأغفو في ظلها ساعاتِ
ولنقف لحظات مع مشهد وفاة إحدى بنات النبي-صلى الله عليه وسلم- وحزنه عليها.فإن ذلك يجعلنا أكثر تساؤلاً: لماذا خلا الأدب العربي القديم أو كاد من رثاء البنات؟ والنبي-صلى الله عليه وسلم- ضرب المثل الأعلى للرأفة بالبنت والرحمة بها. وقد صورت الدكتورة بنت الشاطئ،هذا المشهد،إذ قالت:
“وجاء الأب الثاكل،فدنا من ابنته الراقدة يودعها بادي الحزن والأسى،ثم انثنى في رفق نحو ابنته (فاطمة) التي أكبت على مضجع أختها تبكي. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح دموعها بطرف ثوبه”.
يقول أنس بن مالك-رضي الله عنه-شهدنا دفن بنت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ورسول الله جالس على القبر،ورأيت عينيه تدمعان.
اختلطت في دمي دماء مرضعات كثيرات
عبد المعين الملوحي لـ ” تشرين ”
اختلطت في دمي دماء مرضعات كثيرات
تعرفت على دستويفسكي عند بائع السكاكر
تشرين ـ دمشق ـ العدد 4274 ـ التاريخ 18/6/1988
أجرى الحوار : حكم البابا
هذه رحلة مع عبد المعين الملوحي الكاتب والإنسان ، ذكريات ننبشها من الماضي ، من الذاكرة المتعبة والجسد المنهك ، والروح التي لا تزال تشتعل وتتقد ، فيها من التوثيق وفيها من الحب وفيها من دواعي التقدير للملوحي وجهده ما يجعل نشرها ضرورياً ، وفي هذا الجزء يلملم ذكريات حوادث ما بين 1917 – 1936 عشرون عاماً من الطفولة التي كونت الكاتب والتي وضع فيها الركائز لـ 267 كتاباً في الشعر والقصة والنقد والتحقيق والترجمة ..
في واحدة من زياراتي له فاجأته بالحوار ، قلت : هل نبدأ حوارنا الآن ؟ ضحك وسألني ما إذا كنت جاداً وغيرت عادة وعودي المطاطية وأنا أعترف بأنّ مطالبتي له بالحوار تعود إلى سنتين مضتا ..
لا أريد أن أعرِّف بعبد المعين الملوحي ، بل سأترك له الكلام ليقول كل ما يريده .
اكتفيت فيما يلي بالطفولة وستأتي بعدها مرحلة الكتابة ومرحلة الوعي ، ثم يأتي أخيراً حوار حول أدبه وآرائه الحالية ، ثمانون سنة لا يمكن اختصارها بهذه الصفحات ، وإن كنت سأحاول .
ثمة ملاحظة أخيرة حول التداخل بين الحوادث والانتقال بين أعوام كثيرة قد تكون بعيدة فرضها تداعي الأفكار ، والحادثة التي قد تذكر بحادثة مستقبلية أو ماضية والحكمة التي خرج بها الملوحي من هذه التجارب .
حوادث … ذكريات
* لو تستجمع ما بقي في ذاكرتك من حوادث الطفولة ، وتقص عليّ بعضها إذا كان ذلك لا يرهقك ، حتى أستطيع أن أتخيل الجو الذي عشت فيه والبيت الذي ولدت فيه ..
ـ ولدت عام 1917 في بيت في باب هود في حمص أصبح بعد ذلك مدرسة وعندما صرت مفتشاً دخلت المدرسة ونظرت إلى المكان الذي ولدت فيه ، كنت في طفولتي ضعيف الجسم مريضاً ، وذات يوم انقطعت أنفاسي فظن أهلي أني مت ، فجاؤوا بطاولة البصل والقوني عليها وسخنوا الماء ، فلما أصابني الماء ارتعشت وعشت وأظن أنني ما أزال حتى الآن أعيش ، وكان لبن أمي قليلاً جداً فكانت تقف في الباب وتنادي كل امرأة مرضع لترضعني ، وكانت تمر أنواع شتى من النساء ، النوريات والأرمنيات .. وهكذا اختلطت في دمي كل الدماء ، وما أزال أشعر بآثار هذه الدماء المختلطة في دمي وسلوكي .
قلت له مقاطعاً :
* هل يرجع سبب معايشتك لكل الثقافات والآراء التي تبدو أحياناً متناقضة للعابر إلى حليب هذه النساء ؟..
ـ أعتقد ذلك ، لقد قلت لك أنّ دمي تختلط به دماء العالم ، ولذلك فلا عجب أن أنتقل من أدب إلى أدب كما تنقلت في الرضاعة من امرأة إلى امرأة ، و لا سيما من تلك المرأة التي جاءت من مشتى الحلو وسكنت في حمص وعملت في معمل الحرير هناك ، وكانت تأتي كل يوم لترضعني مع ولدها عيسى .
وعاد إلى ذكرياته من جديد .
وحادثة أخرى ذات دلالة ، أنت تعرف أنّ الأمهات يخفن على أولادهن أن يتشردوا في الطرقات وكان أهلي مثل سائر الناس يخوفّونني من الضياع ويقولون لي أن الغولة تأكلني إذا ضعت ، وأن الضبعة تمتص دمي ولكني ضعت ذات يوم ، ومضيت في الطرقات إلى حي خالد بن الوليد ، فالتقطتني امرأة وسألتني عن أهلي ثم أطعمتني ووضعتني في سرير لا أزال أذكر أن له ( ناموسية ) وكلن السرير نظيفاً جداً ونمت نوماً عميقاً وهادئاً واستيقظت بعد العصر فأخذتني المرأة إلى بيت أهلي وأمسكت بي بيدها ، ومنذ ذلك الحين عرفت أنّ الناس أخوان وأنهم ليسوا غيلاناً ولا ضباعاً ، ونبذت منذ ذلك الحين كثيراً من الخرافات والأباطيل وما يخوفني به الناس من الناس ، وأظن أني منذ ذلك الحين آمنت بالإنسانية وضرورة وحدة الشعوب .
* ولكن يا جدي ـ اسمح لي أن أناديك هكذا ـ ألم يغير ضياعك في العالم بعد ضياعك في حارات حمص رأيك في الناس ، أيمكنك أن تساوي بين الشر والخير في العالم ؟..
أعتقد أن زياراتي للعالم عمقت رأيي في طيبة الناس وفي السعي إلى وحدة الشعوب ، لقد كنت أرى في كل مكان حللته أصدقاء وأخواناً يبادلونني حباً بحب وتقديراً بتقدير ولا سيما حين زرت الصين ومنحتني لقب أستاذ شرف في جامعة بكين أعتز به طوال حياتي .
حادثة رابعة ذات دلالة ، زرت خالتي وكانت تقطن في حي بني السباعي وكانت في الحي خربة لبناء قديم من حجر أسود ، وكنت أتجنب النظر إليها ، وذات يوم مررت بها ونظرت وخيل لي أن الله يقطن في تلك الخربة فخفت وأسرعت راكضاً ، وظل منظر الخربة يعيش في خيالي حتى الآن ، ولكني أضفت إلى خوفي من الله إيماني برحمته ، وربما كان أثر الخوف يمتد إلى مرحلة شكي . ولكن تركت هذه المرحلة وعدت إلى الإيمان بعدل الله ورحمته .
حادثة أخرى أيضاً أثرت في حياتي وما تزال تؤثر ، كنت في الصف الرابع في المدرسة الابتدائية ، وهي الميتم الإسلامي وكان معنا في الصف صبي جميل غني دخل الصف ذات مرة وقال أنه قرأ في المرحاض وهو ـ كما تعلم ـ دفتر الشياطين ،كلمة تسيء إليه واتهمني بكتابتها ، وكانت في يده كأس ماء فقال : سأرمي هذه الكأس فمن يسقط عليه الماء فهو الذي كتبها ، وأدار الكأس بشكل سقط فيه الماء علي ، فبكيت وشكوت إلى المدير فلم ينصفني ن وكان في المدرسة أستاذ تقدمي إلى حد ما ، قال لي هذه الكلمة : يا عبد المعين أنت صغير لا تعرف الحياة ولكنك ستكبر وتجرب وتعرف صراع الطبقات . والحق أني جربت بعد ذلك وتعلمت وأضيفت إلى هذه الحادثة حادثة أخرى ، كنا في الصف الخامس الابتدائي في المدرسة نفسها وكنا تلاميذ هذا الصف ندرس في بيت واحد منا كل أسبوع ، وعندما جاء دور زميل لنا أرستقراطي ذهبنا إلى بيته فخرج إلينا أبوه وطردنا من الباب ، فليس يليق بنا نحن الفقراء أن ندخل وندنس بيت هذا الغني وخرجنا خاسئين لنقضي يومنا كله في اللعب في بيت مهجور كان يقع إلى جانب ذلك القصر ، وشهدت في حياتي حوادث كثيرة أخرى عززت إيماني بالشعب وضرورة العمل على رفع مستواه وعلى تجنيبه الفقر والجوع ، قامت الحرب العالمية الثانية وانتشرت البرداء (الملاريا) انتشاراً مرعباً في حمص ، وكان أقصى ما فعلته الحكومة أن وضعت إعلانات في وسط المستنقعات تقول : ( البعوض ينقل الملاريا ) واستطعنا نحن الشباب أن نجمع بعض التبرعات وأن نشتري بعض حبوب الكينا وتوزعنا في الأحياء الشعبية ودخلناها بيتاً بيتاً ، وكانت مناظر هذه البيوت مرعبة ، قاسية ، كانت الأسرة بكاملها تنام على أكياس مثقوبة من الكتان ويرتعد أهلها ويرتجفون لا غذاء ولا كساء ولا فراش ولا طعام وشعرت أني مجرم إن لم أغير هذه الأوضاع الأليمة التي يعاني منها شعبي وفقراء هذا الشعب على الخصوص .
أسرتي
* لو ندخل قليلاً في خصوصيات عائلتك ، وعلاقتك بأسرتك ..؟
ـ كان أبي المرحوم الشيخ سعيد الملوحي شيخ حمص وإمام المسجد النوري الكبير ، وكان يوقظنا عند الصباح لصلاة الفجر ، فكان أخواني يتململون ولا يستيقظون ، أما أنا فكنت أستيقظ ، وما أزال أحتفظ حتى اليوم بيقظتي قبل طلوع الشمس صيفاً وشتاء ، ثم تعب الشيخ من إيقاظنا عند الصباح فتركنا ننام ، أما أمي فكانت تعرف القراءة والكتابة وكنا نقرأ أنا وأقراني سراً كتاب ” رجوع الشيخ إلى صباه ” وهو كتاب جنسي فاضح ، وشعرت أمي أننا نطيل قراءة هذا الكتاب وقرأت عنوانه فغضبت وألقته في المرحاض ، وجئنا بعد ذلك بألف ليلة وليلة في طبعتها الشعبية ، وكان مصير هذا الكتاب مثل مصير صاحبه السابق .
كنت مدللاً عند أبي وأمي لأني كنت مجتهداً ، ولم أترك المدرسة يوماً من الأيام ، ولكن أخي أغراني ذات يوم فهربنا من المدرسة وذهبنا مشياً على الأقدام إلى قرية على ضفاف العاصي تدعى ” الغنطو ” وكان أخي الكبير أنيس معلماً فيها فأعادنا إلى الدار ولم يضربني أبي ولم يعاقبني ولكنه ربط أخي عبد الحفيظ بالحبال في شباك الغرفة الحديدي ، وظل طوال الليل هناك .
وقد تعلمت من أبي سعة القلب وحرية الرأي . كان هو الذي يتولى زواج النساء والرجال ويتولى الطلاق قبل إنشاء المحاكم الشرعية ، وثارت ضجة في البلد مفادها أنّ الشيخ سعيد لا يطلق امرأة من زوجها بل يعيدها إليه لقاء خمس ليرات سورية ، وسمعت الضجة وتجرأت ذات يوم فسألت أبي : لماذا لا تطلق النساء ؟ قال: يا بني إنني أتبع مذهب الإمام زيد . فسألته ، وما هو مذهب الإمام زيد ؟ قال إنه يعتبر الزواج شركة بين الرجل والمرأة لا يحق لأحد الشريكين أن يلغي الشركة إلاّ برضى الفريق الثاني ، والمرأة حين يطلقها زوجها وحده ، ولا تقر هذا الطلاق تجعل الشركة قائمة إلاّ إذا رضيت طلاقها هي من زوجها وأعتقد أنّ هذا المذهب ـ إذا صح ما ذكره أبي عنه ـ يصلح لكل المجتمعات الإسلامية ويقضي على هذا الوباء الذي يفتك بالأسر والأطفال ويحول الأولاد أيتاماً مشردين .
* وهل كانت علاقة والديك مجرد شراكة أم أنها كانت علاقة حميمة تضفي على الجو حناناً ؟..
ـ كانت العلاقة بين ابي وأمي علاقة حميمة ودية وأتمنى أن تكون حياة الناس على شكلها فهو لم يتزوج غيرها . ولم يفكر يوماً في طلاقها ، وذات مرة كانت في دمشق فغابت طويلاً ، وعندما عادت إلى حمص طردها من البيت وخفنا أن يكون قد طلقها ، وعندما راجعناه ضحك وقال ، اذهبوا إليها وعودوا بها ، وقولوا لها :
وراحت إلى العطار تصلح شأنها
وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
أبي
* هل كانت علاقتك بأمك أكثر قوة أم علاقتك بأبيك ؟..
ـ كنت أحب أبي وأحترمه أكثر مما أحب أمي ، فقد كانت أمي قاسية بعض القسوة علي ، أما أبي فكان يفهمني فهماً مطلقاً ، وأذكر أنني كنت أقرأ في مكتبته وهي مكتبة دينية تضم كثيراً من كتب التفسير ومن الأحاديث ومن كتب الفقه ، وذات مرة قرأت في أحد تفاسير القرآن هذه الجملة المرعبة : ” فصل في أنّ من يقول إن المطر ينزل من السحاب كافر من أحد عشر وجهاً ” ثم يعدد التفسير هذه الوجوه ، فأنكرت هذا الكلام ، وعندما نقلت لأبي إنكاري قال لي بالحرف الواحد : يا بني كل ما لا يتفق مع العلم فليس من الدين ، فلا تأخذ بأقوال كثير من المفسرين والفقهاء .
تعرفت على القراءة
* أتعجب كيف قرأت كل هذه الكتب ؟ كيف بدأت القراءة ؟.. ماذا قرأت ، ما هي الكتب التي شعرت نحوها بالحب ؟ هل تذكر مما حفظته في تلك الأيام البعيدة ؟ هذه الأسئلة تراودني باستمرار كلما زرتك ؟..
ـ كنت أقرأ كل ما يقع بين يدي من كتب ، الكتب الدينية والأدبية ودواوين الشعر والمجلات وأذكر على الخصوص مجلة أثرت بي كثيراً وكان أخي مشتركاً فيها ، وهي مجلة ” الحديث ” التي كان يصدرها في حلب الستاذ المرحوم سامي الكيالي ، وقد كانت مستودع ثقافة غربية وشرقية على حد سواء ، وكان يشترك في تحريرها كبار الشعراء والأدباء في كل الأقطار العربية ولا سيما في مصر وسوريا، ومن غرائب المصادفة أنّ أستاذي في المدرسة الابتدائية ، لأني كنت مجتهداً في دروسه .. أهداني مجلة ” المقتطف ” ولا أزال أذكر أنّ صورة الغلاف كانت صورة حية تبتلع بيضة كبيرة وكانت أول مكتبة أسستها هي مكتبة النملية (1)
التي استغنى عنها أهلي فأدخلتها غرفتي ووضعت لها زجاجاً وجمعت فيها كتبي .
* ماذا كنت تقرأ ؟ وما هي الكتب في مكتبتك ذلك الوقت ؟..
ـ كنت أقرأ بشكل وحشي ، أجلس على الحصيرة حتى تصبح ساقي حصيرة أخرى فإذا انتهيت ووقفت أصبت بالدوار فوقعت على الأرض ، وفي الليل كنت أضع على منضدة صغيرة كازاّ ( نمرة 1 )(2) واقرأ كثيراً حتى ينبلج الفجر ، وكان بدء اطلاعي على الأدب الروسي غريباً جداً فقد مررت ببقالية تبيع القضامة والسكاكر فطلبت من صاحب الدكان أن يعطيني ” قضامة ” بخمسة قروش فجاء بكتاب وهم بتمزيقه ليضع ” القضامة ” في إحدى صفحاته ، فقلت له لا تمزق الكتاب فأعطاني إياه فإذا هو كتاب ( مذلون مهانون ) للكاتب الروسي الكبير دوستيفسكي باللغة الفرنسية ، فأعطيته سعره ، فقال لي : هل تريد غيره ؟..
قلت نعم فأراني كومة كبيرة من الكتب باعها مستشار فرنسي كان في ” الرستن ” وكان من أنصار بيتان فلما دخل ديغول إلى سوريا هرب إلى فرنسا وباع مكتبته بالجملة ، أذكر أني اشتريت أكثر الكومة من الكتب بخمس ليرات سورية هي كل ما أملك وما تزال هذه المكتبة نواة مكتبتي باللغة الأجنبية ، واذكر أني حملت كتاب دوستيفسكي وسرت به في شارع حمص الكبير فرأيت المرحوم الدكتور سامي الدروبي فاستعاره مني وكان هذا آخر عهدي بالكتاب كما هي العادة بين المعير والمستعير .
وأذكر لك حادثة تتعلق بقراءتي للكتب ، كنت في القاهرة في السنة الرابعة في الجامعة وكان أستاذنا الدكتور شوقي ضيف فسأل الطلاب قائلاً من قرأ كتاب الأغاني ؟ وأطلب من عبد المعين ألا يجيب ، فلم يجب أحد ، فاستطرد قائلاً : أنت قرأت الأغاني طبعاً يا عبد المعين ؟ قلت له : قرأته قبل أن آخذ البكالوريا الأولى ، فقال لي في تواضع العلماء وجرأة المفكرين أتعرف أني لم اقرأ الأغاني إلا بعد أن نلت شهادة الدكتوراه ..
وفي دار المعلمين الابتدائية والعليا لم أترك كتاباً إلاّ وقرأته ، وكانت لي عادة رائعة هي أن ألخص الكتاب وأن اسجل بعض أفكاره وموضوعاته ، وعندي الآن ، وأشار إلى أحد رفوف المكتبة ، أكثر من عشرة دفاتر كبيرة فيها تسجيل لهذه المطالعات ولكني ويا للأسف كففت عن هذه العادة الجميلة واكتفيت بتسجيل ملاحظاتي في أواخر الكتب التي أطالعها وفي هوامشها وليتني حافظت على تلك العادة إذن لكانت لي منها مجلدات ومجلدات .
بين معترضتين
تذكر عبد المعين الملوحي أثناء الحديث قصة ” وردة ” فأحب أن يذكرها حتى لا ينساها وهذه هي : كانت وردة مرضعتي وهي عاملة في مصنع الحرير في حمص وكانت تحمل ولدها عيسى من باب السباع وهو الحي الذي يقوم فيه المصنع إلى جورة الشياح ، وهو حينا ،وبينهما أربعة كيلومترات على الأقل ، كانت تحمل ولدها وتمضي سيراً على الأقدام لترضعني وكنت اشعر في حضنها باطمئنان عجيب وحنان غريب ، وسافرت وردة إلى قريتها في ” مشتى الحلو ” وانقطعت أخبارها ، وعندما توليت التفتيش في محافظة حمص وحماه واللاذقية بحثت عنها طويلاً فعلمت أنّها ماتت ـ يرحمها الله ـ وبحثت عن أخي في الرضاعة عيسى فقيل لي أنه سافر من قريته طلباً للرزق ، وما أزال أبحث عن هذا الأخ الضائع ، وعسى أن القاه ذات يوم ، أو عسى أن يقرأ هذه السطور فيتصل بي .
أخيراً
* هل كان للجو العام تأثير على حياتك ، أم أنك كنت منشغلاً بالأسرة فقط ؟..
ـ أذكر في عام 1924 تزوج أخي الكبير ـ وكان قومياً عربياً ـ فاستدعى الدهان لطلاء البيت ورسم مخططاً للعلم العربي وطلب من الدهان طلاءه بألوانه الأربعة . وعندما قامت الثورة السورية الكبرى سجن أخي الكبير فخاف الشيخ والدي على أولاده الآخرين وخافت أمي فجاء بكلس وصعد الشيخ على السلم وأمسكته أمي وجعل يدهن العلم العربي بالكلس ويبكي ونحن الأطفال واجمون لا ندري لهذا سبباً ..
وما تزال آثار العلم العربي بارزة في صدر إيوان البيت منذ ذلك الحين ، كل هذه الحوادث تركت في نفسي انطباعات قوية دامغة وكانت أفكاري ونفسيتي وعقليتي نتيجة مباشرة لكل هذه الآثار والانطباعات التي أحياها في أعماقي حتى اليوم .
***
انتهت جلستنا اليوم مع عبد المعين الملوحي وأنا شعرت بالإنهاك الذي أصابه ، تهدج صوته ، وبدت ملامحه متعبة ، وعندما انتهت ذكريات الطفولة ودعته وخرجت .
ــــــــــ
(1) النملية : خزانة خشبية كانت تستخدم لحفظ الطعام .
(2) نوع من المصابيح التي كانت تستخدم للإنارة وتستهلك مادة الكاز (الكيروسين )
أضاحي العيد
قصيدة نظمتها في 27 آب 1955 ونشرتها في مجلة “حمص” العدد 193 . عندما خرجت من بيتي في عيد الأضحى ورأيت الناس يتسابقون لشراء الأضاحي وذبحها ، ورأيت المتسولين والفقراء يملؤون الشوارع في طلب القوت ، وتصورت الشعوب وهي عرضة للقتل والنهب .
خرج الناس يشترون أضاحي العيد، سرهم أن تسيل منها دماها، حسبكم حسبكم أضاحيَ شاء انظروا تبصروا بكل سبيل عاش في أرضه سليباً وأبقى انظروا تبصروا العروبة في المغرب تتَّقي الطائرات ، والموت فيها َقسماً لن يروا هنالك إلا انظروا تبصروا فلسطين أهلها شردوا على كل أرض غصبوهم أرض الجدود فعاشوا انظروا تبصروا العراق وقد وبنوه الأحرار في القيد ، انظروا تبصروا بنجد ولاة فطموا دنسوا الخافقين سكراً وعهراً انظروا تبصروا بمصر أموراً حكمت بالحديد شنقاً وسجناً ، انظروا تبصروا الشآم وحسبي انظروا تبصروا جماهير شعبي ألفت كوخها الحقير ، |
والعيد مأتم الأغنــــام كالأفاعي تنسلُّ بين الرجــــام وانظروا تبصروا ضحايا الأنــام دم شعب يباع كالأنعـــــــام ماجناه لحفنة من طغام ترعى بمجرم ذي آثـام بحسام يا طيبه من حســام ما رأوه في الشام من أعـــــوام داستها بغاث الرجال بالأقــــدام وأبيدوا بالجوع أو بالسقــام في رمال الصحراء بين الخيـام أصبح مأوى اللصوص والأصنـام والقيد عسير على نفوس الكـــرام بالفساد قبل الفطــــــام وادعوا أنهم حمى الإســــلام شاب من هولهن رأس الغــلام شاه في العالمين وجه اللئــــام أن مهدي وحفرتي في الشــآم تتلوى من جوعها في الظــلام وفي الشام قصور من مرمر ورخـــام
|
||
انظروا تبصروا بحوران قوماً طلبوا الماء ـ لم يريدوا سواه ـ كيف يرجو الينبوع شعب بريء انظروا تبصروا جماهير شعبي حرموا رحمة الطبيب فراحوا التجار العظام أضحوا أطباء صنعة أحدثت ، بضَاعتها الموت انظروا تبصروا ألوف الصبايا عاش نخّاسها سعيداً وعاشت انظروا تبصروا اليتامى عبيداً سرقوا قوتهم ، فقيل لصوص ، انظروا تبصروا جماهير شعبي ، سبقتنا الشعوب دهراً الضحايا ملء الدروب من اللجام اللعين يكسر شـــدقي |
* * * * * * |
ظمئوا فارتووا بمضغ الرغــام فنصحناهم بشرب المـــدام دمه الطهر في يدي حجـــام ؟ بين أيدي الأوجاع و الأسقــام يطلبون الشفاء بالأوهـــــام فويلي على التجار العظـــــام بسل أو قرحة أو جــــذام باعت العرض وانثنت بالحطـام تقضم العار بعد قضم العظـــام يأكلون الهوان مثل الطعـــام فاشتروا سبحة بمال حـــرام تتسلى بالسحر و الأحـــلام ونرجو بالتعاويذ وقفة الأيـــــام الناس فخلوا أضاحي الأغنــــام والمنايا وراء كسر اللجام
|
|
– 1955-
يوميات الايام
أرادوا أن يحرموني صحبة العاصي في بلدي(1)
جئت حمص في 26 – 3 – 1984، وكان من أحلى أمنياتي أن أقف على نهر العاصي فأناجيه ، ولكن الجو كان عاصفاً ، فقلت : لابأس نجلس في مطعم ونتغدى ونراه من وراء الزجاج . وذهبت مع صديق لي ، قلنا نجلس في – الميراندا – التي تمردت على تعريب الأسماء ..
كانت كل المناضد على ضفة العاصي فارغة إلاّ منضدة واحدة ، وأشار لنا النادل إلى منضدة في وسط القاعة ، وقلت له راجياً :
– أريد أن أرى النهر ، ولم يرحم النادل حبي ولا سني ، فقال لا مكان على النهر اجلس هنا في القاعة .
قلت ، وما أزال التمس الرحمة :
– ولكني جئت من دمشق لأرى العاصي ، والمكان فارغ ، والمناضد شاغرة .
وأصر النادل على أن نجلس في القاعة ، وقلت لصديقي :
– لي صديق قديم شغلني منذ خمسين سنة واسمه ـ ديك الجن ـ أصدرت ديوانه ، فتعال نذهب إليه ، لعل الأصدقاء القدماء أكثر اشفاقاً على أصدقائهم . وقد قال المثل : الصديق العتيق كالذهب العتيق ، ومضينا إلى ديك الجن فاستقبلنا خير استقبال ، وأجلسنا على ضفة النهر وجعلنا نناجيه ويناجينا ، وذكرنا أيامنا وليالينا ، وقلت له أردد أبياتي السابقة في قصيدتي – عبد المعين الملوحي يرثي نفسه –
ويا وادي العاصي وقد كنت دوحة
أناغي بها الأحباب حييت واديـــا
سأدفن في أحجارك السود أعظمي
فلا يك – مثل الناس – صخرك قاسيا
وكانت بقايا طاحون العاصي تحدثنا أخبارها – معركة في طاحون – وقد سجلها الأخ الأديب – مراد السباعي – ومقتل – عمر المجرص – وقد سجلتها في قصتي – يوم من أيام فرنسا – إنّ هذه الأحجار الذكية ، لم تنس شيئاً فهي ما تزال تحمل آثار الدماء الزكية التي سالت دفاعاً عن الحرية .
قلت لصديقي : أحمد الله أنا وجدنا من يسلينا في – ديك الجن – بعد خيبتنا المرة في – الميراندا – .
وتذكرت ، وسوء التصرف يذكر سوء التصرف ، يوماً ذهبت فيه إلى – عين الخضرا – في دمشق ، كانت المناضد كلها شاغرة فجلست وحيداً على منضدة وجاء النادل ، قال : إلى متى ستبقى ؟
وأدركت ما يريد ، فهو يخشى أن أبقى إلى المساء ، حين يكثر الزائرون ، قلت : أتغدى وأمضي .
وذهب النادل ليعود بعد قليل ، قال :
أنت تجلس على منضدة فيها أربعة كراسي . وعليك أن تدفع أجرة الكراسي الأربعة .
وغضبت وتركت المقهى إلى مقهى آخر .
قال صديقي :
ـ أ رأيت إننا نخترع طرائق في اللصوصية تعجز بلاد العالم كلها عن اكتشاف أمثالها في ميدان العلوم والاختراعات . وعدت أتطلع إلى العاصي ، وأسأله :
ـ كم مرة سأراك أيها الصديق القديم العزيز ؟
وظل العاصي يتدفق بالماء ولا يجيب ، لأنّ المسئول ليس أكثر علماً من السائل .
ــــ
(1) -العروبة – العدد / 3874 – تاريخ 31 / 3 / 1984
الأدب ضرورة لفهم الواقع وتغييره
الشـــعر العربــي القديــم
شهد العصر الحديث دعوة جريئة عارمة إلى إنقاذ الشعر العربي من أعتاب الحكام متسولاً ومادحاً ودجالاً، وإلى أن يكون الشاعر صوت الحياة،والمدافع عن الشعب والداعي إلى الحرية،حرية الإنسان وحرية الأمم،وإلى أن تكون حياته هي موضوع شعره،وحياته هذه ليست حياة فردية خالصة،ولكنها حياة اجتماعية،تلخص مآسي الإنسان وأفراحه،وسلبيات المجتمع وإيجابياته،ومخاطر الحضارة الحديثة وأهدافها،وغوامض الوجود وتساؤلاته.
وقد استطاع الشعر العربي إلى حد غير قليل أن يتخطى موضوعات الشعر القديم وأن يشق طريقه في كثير من آلام الولادة إلى الحياة الحديثة ومشكلاتها،وإلى الإنسان في أعماقه الواسعة وتطلعاته إلى عالم السلام والعدل والإخاء،وإلى شعبه ونضاله العنيد في سبيل الحياة الحرة والعيش الكريم،وما يزال هذا الشعر العربي الحديث يواصل زحفه المقدس ليحتل مكانه بين الآداب التقدمية المتحررة.
ولقد اتهم المتهمون الشعر العربي القديم بأنه كان شعر الملوك والحكام يعيش على أعتابهم،ويأكل من فتات موائدهم ويمدحهم ويفضي عن مساوئهم،يمدح كرمهم وهم بخلاء،وشجاعتهم،وهم جبناء،وعدلهم وهم يسفكون الدماء،ودينهم وهم يأكلون قوت الأيتام والأرامل،والحق أن الشعر العربي في مجمله كان كذلك.لا يشك في هذا كل من قرأ الشعر العربي واطلع عل أكابر شعرائه.
وقال فريق آخر من المتهمين للشعر العربي:
أننا حتى حين نغض النظر عن ارتباط الشعراء-أكثر الشعراء- بالطبقات الحاكمة ومدحهم لها وتقربهم منها.وترك هذا الشعر جانباً،نجد أن ما بقي منه ليس إلا شعراً ذاتياً يتعلق بالحب وآلامه ولذاته:الحب الروحي الضعيف كحب بني عذرة والمجانين،والحب المادي العنيف كحب أبي نواس،ديك الجن،أو يتعلق بالحياة الشخصية من فقد لحبيب أو رثاء ولد أو الوقفة على قبر صديق،أو الاغتراب عن بلد،أو الحنين إلى وطن.
ولسنا نريد أن ننزع عن شعرنا العربي القديم مزاياه الذاتية،بل أننا نستطيع أن ندعي هذه الذاتية هي الصفة الغالبة على الشعر العربي قبل شعر المديح،ذلك أن قصائد المديح حتى لشعراء المدح الكبار ليست كلها مديحاً وإنما هي إلى جانب ذلك قصائد ذاتية بل نجد بعض الشعراء لا يخصصون للمديح أكثر من أبيات معدودة يجعلها بين مطامع العقيدة وهي في الوصف أو الغزل،وبين خاتمة القصيدة وهي في وصف حاله وحياته.
فإذا عرفنا أن أكثر الشعر العربي القديم ذاتي،ثم عرفنا أن كثيراُ منه مرتبط بالحكام،فماذا يبقى للمجتمع وللشعب وللفئات المحرومة والطبقات الكادحة؟
هنا يطرح هذا السؤال نفسه:
هل كان الشعر العربي كله كذلك؟
هذا سؤال يشغل بال التقدميين والثوار من أبناء الأمة العربية،ومن حقهم أن يسألوه،لأنه يتعلق بتراث أمتهم،ومن واجبنا أن نجيب لأننا-إلى حد ما- قد اطلعنا على شيء من تراث عظيم لأمة عظيمة.
الجواب الصحيح المعتمد على الوقائع الموضوعية:كلا لم يكن كله كذلك،بل كان ذلك جزءاً كبيراُ منه.
إن من يقرأ الشعر العربي في دواوين شعرائه الكبار ويكتفي بهذه القراءة يكاد تأخذه الحيرة.كيف يمكن أن يكون الشعر العربي وهو تراث الأمة العربية المجيدة،وثورته الكبرى خالياً أو يوشك أن يكون خالياً من صرخات الشعوب،من آلام الجائعين من نداءا الثائرين،من هتافات الناقمين على الطبقات من وثوب المحرومين على الظالمين؟
ولكن دراسة مستأنية عريضة وعميقة للشعر العربي القديم قادرة في يسر وفي سهولة،وفي غير عناء ولا أحكام مسبقة على أن تعطي صورة ثانية لهذا الشعر،وهو أنه أيضاً يحوي صرخات غير خافتة للبؤساء والمحرومين والمظلومين.
لا يمكن أن ندعي أن الصورة الأولى تنمحي أمام الصورة الثانية،فهذا أداء باطل،ولكننا يمكن أن ندعي صادقين أن هنالك صورة ثانية تقف إلى جانب الصورة الأولى في اعتزاز وفخر لترفع مستوى الشعر العربي فتجعله شعر كفاح ونضال وثورة،كما كان-ويا للأسف- شعر مدح وتزلف وتكسب.هاتان الصورتان المختلفتان كان حظهما من الدراسة متفاوتاً تفاوتاً كبيراً.
اهتم أكثر الدراسين والباحثين بالصورة الأولى وأبرزوها في كل كتاب وأعلنوها في كل بحث حتى كادت الصورة الثانية أن تختفي وراء البهارج والزخارف،وحتى كاد المؤمنون بأدبهم وشعرهم يكفرون بهما لأنهم يريدون لذلك الأدب وهذا الشعر أن يكونا أدب ثورة وشعر كفاح،لا أدب خضوع وشعر خنوع،وهم على حق في طلبهم هذا،ومن أجل ذلك أردت أن أدل على مواضع من شعر الثورة والنضال في هذا البحث القاصر،ولعلي أن أستطيع الدلالة على مواضع من أدب الثورة والنضال في بحث قاصر آخر،ثم لعلي أن أستطيع كتابة بحث كامل واسع يحاول أن يغير ما في أذهان كثير من الناس عن أدبنا وشعرنا.
فأين مواضع الثورة والتمرد؟أين مواضع الصلة بين الشاعر والمجتمع؟بين الشاعر والشعب في شعرنا العربي القديم؟
يخيل إلي أننا نجد هذه العلاقة في المواضيع الآتية:
1-كثير من الشعر الجاهلي كان تعبيراً عن علاقة الشاعر بأهله وقبيلته،بل لعله كان صوتها في الدفاع عن كرامتها والهجوم على أعدائها.لقد كانت بداية الشعر العربي اجتماعية ولم نكن كذلك نهايته.
2-شعر الشعراء الصعاليك في الجاهلية والشعراء اللصوص في الدولة الأموية وحتى في أوائل الدولة العباسية،وعلى رأس أولئك وهؤلاء الشنفري وتأبط شراً وعروة بن الورد ومالك بن الريب وعبيد الله بن الحر وأبي النشناس كان وما يزال صرخة الطبقة المحرومة الجائعة في وجه الطبقة المتخومة الظالمة،وأغرب ما في هذا الشعر أن أصحابه لم يكتفوا بشعرهم في الدفاع عن حقهم وعن حق أطفالهم في العيش بل حملوا سيوفهم وقاموا بالثورة في سبل الحياة واللقمة.
3-في شعر الفتوحات الإسلامية تمرد غير قليل،والواقع أن هذا الشعر مهمل إهمالاً يكاد يكون تاماً.إن كثيراً ن شعراء القبائل ثاروا على توزيع الفيء،وطالبوا قريشاً بالعدل والإنصاف في توزيع الأموال هذا واحد منهم يقول:
إذا قتلنا ولا يرثي لنا أحد
قالت قريش:ألا تلك المقادير
نعطي السوية في طعن له نشب
ولا سوية إذ تعطى الدنانير
وهذا شاعر آخر ينكر أن تعيش قريش عيشة ناعمة ثم تقذف بالعرب في جبال خراسان وفجاجها:
تولت قريش لذة العيش واتقت
بنا كل فج من خراسان أغبرا .
4-في شعر شعراء الأحزاب السياسية والدينية كالخوارج والشيعة عدد غير قليل من القصائد تنعي على الحكام الأثرة في الحكم والميل عن أحكام الدين،والسير على الهوى،وأكل حقوق الناس،وهنالك قصائد سميت”المكتمات” أي القصائد التي قالها أصحابها لأنفسهم ولعدد قليل ممن حولهم ثم كتموها ولم يذيعوها خوفاً من الحكام فذهب أكثرها بذهاب شعرائها وبقي قليل منها.ولعل هذه”المكتمات”إذا ظهرت كانت فتحاً جديداً في تاريخ الشعر العربي ودراسته وتبديلاً واضحاً في معاييره .
5-في شعر الشعراء الكبار من بشار وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي ملامح غير ناضجة ولكنها توحي بالثورة على الحياة وتوزع الخطوط بين الناس،ولئن كانت الثورة فردية لا يصل فيها الشاعر إلى اعتبار نفسه فرداً من طبقة وعضواً في مجتمع،وواحداً من شعب فأنها تبقى ثورة رغم ما فيها من نقص.
وقصيدة ابن الرومي في الحمال الأعمى نموذجاً جيد لوصف آلام الإنسان الذي فصل أن يحتمل رغم عماه حمل الأثقال على أن يحتمل كلمات الأوغاد ورد الأغنياء.
إنها نموذج صالح للأدب الواقعي.
6-شعر أبي العلاء المعري أمة واحدة في إنكار الظلم الفساد والدعوة إلى الصلاح والرشاد بل أن دعوته إلى فناء النسل والقضاء على الحياة كانت رد فعل غير صحيح ولا سليم ولا إيجابي،بل كان سلبياً انهزامياً،على يأسه من صلاح الحكام واستقامة الناس،ويبقى مع ذلك دليل فكر إن لم يكن دليل عمل.
7-في القرون الأخيرة من العصر العباسي وفي عصر الدول المتتابعة ظهر شعر الهجائيين المفحشين من أمثال ابن الحجاج وابن بنكك،من شعراء اليتيمة وغيرهما كثيرون ممن غطوا ثورتهم بالفحش والشتائم والسباب،فكان شعرهم ثورة لفظية سخيفة،لا تنير سبيل مجتمع ولا تغير نظام حكم،ولا تعبر عن طموح شعب،ولكنها تكتفي لفضح الحكام في حياتهم الخاصة وحتى في علاقاتهم الجنسية بين أسرهم وعبيدهم.
إنها ثورة متفسخة على حكم متفسخ لا أكثر من ذلك ولا أقل ومن أجل ذلك كانت طريقتها في التمرد لا تحمل غير السخرية منها والهزء بها.والسخرية في كثير من الأحيان سلاح المستضعفين .
تلك هي-على ما أظن-أكثر النماذج الشعرية التي تغطي الصورة الثانية من الشعر العربي،صورة الشعر المرتبط بالأرض والمجتمع وبالشعب.ولا شك أن هذه الصورة تبقى في كثير من جوانبها مهزوزة لا تعطي ملامح الثورة الحقيقية والاتصال المصيري بالشعب والجماهير،ولكنها على كل حال تبدي لنا الجانب الآخر من الشعر العربي الذي كان إلى حد بعيد شعر مناسبات وسادة وحكام وأفراد.
وفي مقال لاحق سأعرض نماذج من هذا الشعر الاجتماعي المرتبط بالمجتمع أو الثائر عليه لكل فئة من هؤلاء الشعراء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثورة-العدد/2987/-التاريخ 16/2/1972
انا انسان رمى بسهمه واخطأ
أنا إنسان رمى بسهمه فأخطأ وما زال يرمي
هنا دمشق ـ دمشق ـ التاريخ 1986
أجرى الحوار : صقر عليشي
ثمانون عاماً من الكتابة والجهد الفكري ومائتان وستون كتاباً ما بين ترجمات وشعر ودراسات وتحقيقات ، ذلك هو عبد المعين الملوحي ، كيف نستطيع بحوار الإحاطة بهذه الحياة الغنية الواسعة ؟ لذلك حاولت في حواري هذا أن القي الضوء على بعض الجوانب المهمة في شخصيته وأدبه ، ترى هل كنت موفقاً في ذلك ؟
* أكثر من ـ 200 ـ مخطوطة وحوالي ـ 60 ـ كتاباً مطبوعاً ، ولا يزال عبد المعين الملوحي في أوج نشاطه ، كيف استطعت المحافظة على روح المثابرة هذه حتى الآن؟
ـ تعودت منذ طفولتي أن أكون جدياً في كل أعمالي ، ما أزال أذكر :
أ ـ عندما كنت في المدرسة كنت ألتزم غرفتي ، ولا أكاد أشارك أهلي في لهوهم وسهراتهم . وكان أبي ـ رحمه الله ـ إذا حان وقت الغداء أو العشاء يصيح بي :
تعال يا عبد المعين فتغد معنا
تعال يا عبد المعين تعش معنا
ب ـ كنت أسهر حتى الصباح في قراءة الكتب ، وقلّ أن تركت كتاباً قبل أن أتم قراءته . كنت أجلس على الأرض ، على الحصيرة وأقرأ ، حتى تصبح ساقاي حصيرتين ، فإذا نهضت وقعت على الأرض ، وقد أصبت بشيء من الإغماء.
جـ ـ عندما تزوجت رجوت زوجتي أن تعفيني من شؤون البيت ومؤونته، وقد تبرعت مشكورة بذلك ، وما أزال حتى اليوم لا أشتري شيئاً ، ولا أعرف ماذا آكل ، ولا أطلب طعاماً معيناً .
د ـ كنت أعمل في فترات طويلة من الساعة الخامسة صباحاً إلى الساعة الحادية عشر ليلاً مع استراحة ساعة أو ساعة ونصف للغداء والقيلولة .
هـ ـ سبب لي هذا العناء نوعاً شديداً من الأمراض الخطيرة ، وأحمد الله على شفائي واستعادة نشاطي . أقول لك في صراحة إنّ العامل الأول في نشاطي هو أني أريد أن أقدم شيئاً ما ولو قليلاً ، لأمتي العربية . ليس هذا تبجحاً ، لأني اشعر أني لم أقدم شيئاً حتى الآن ، بل نحن جميعاً لم نعمل شيئاً مذكوراً لأمتنا العربية .
لقد سألتني منذ أيام مجلة (الحرية ) مثل هذا السؤال وكان جوابي أنقله بالحرف الواحد:
أبادر فأقول : إني لم أعمل شيئاً . بل نحن جميعاً في الوطن العربي لم نعمل شيئاً لأمتنا العربية ..
1 ـ إننا ما لم نحقق حرية الأمة العربية كأمة ، والإنسان العربي كفرد وما لم نحرر أراضينا المحتلة ولا سيما أرضنا في فلسطين الغالية فنحن لم نفعل شيئاً .
2 ـ إننا ما لم نحقق الوحدة العربية من أدنى أقطار الوطن العربي إلى أقصاها فيسير العربي من قطر كما يطير الطير في السماء الرحبة فنحن لم نفعل شيئاً .
3 ـ إننا ما لم نطبق الاشتراكية تطبيقاً فعلياً لا نظرياً ، وما لم نضمن لكل مواطن عربي حقه في العلم والعمل والحياة السعيدة والمسكن والغذاء الكافي فنحن لم نصنع شيئاً ذا بال .
وتقول لي ، أنت تتحدث في مهمات الأمة العربية ، وأنا سألتك عن الأدب وما قدمت لأمتك فيه ، فاسمح لي أن أضيف فقرة رابعة إلى الفقرات الثلاث السابقة.
4 ـ إننا ما لم نعد للأدب العربي ألقه وروعته ، وما لم نبدع أدباً جديداً رائعاً يقبل العالم كلّه على ترجمته والتمتع به ، كما أقبل وتمتع بأدب دوستيّفسكي وشكسبير، وغيرهما من قمم الأدب والشعر فنحن لم نصنع شيئاً .وأنا اسمع اعتراضك حين تقول :
ولكن أدبنا المعاصر أصبح يترجم إلى بعض اللغات الأجنبية .
وأقول لك : أرجوك لا تنكأ في قلبي جرحاً عميقاً ، فأنا أعرف لماذا وكيف تتم هذه الترجمات ؟ إنّها تسول وعلاقات فردية واستغلال لبعض أصحاب المناصب لمناصبهم لا لأنّهم أدباء ولكن لأنّهم يلبسون ثياباً فضفاضة ويجلسون في آرائك عريضة وهم طفيليون على الأدب والشعر والثقافة .
أرجوك أن تعفيني من إيراد الأمثلة ، فأنت تعرفها مثلي .
* هناك خلافات في وجهات النظر حول التراث وأهميته وكيفية الإفادة منه ، بحكم تجربتك ومعرفتك ، هل تعتقد أنّ العمل الإبداعي الأصيل لا يكون دون أن ينبع من التراث دون أن يستند إليه ؟
ـ لا أحب المبالغة ، ولا أعتقد أنّ الإبداع لا يكون ـ كما ورد في سؤالك ـ دون أن ينبع من التراث . ذلك أنّ للإبداع مصادر كثيرة ، ومن أهم هذه المصادر التراث ، لا التراث العربي وحده ، وإنما التراث الإنساني كله .
هناك قصص وأساطير ما تزال تلهم الشعراء والكتاب حتى الآن . منها رحلة (أوليس) إلى العالم السفلي ، ومنها حكاية ( أوديب الملك ) ومنها ( حي بن يقظان ) وأشباه هذا التراث الإنساني الخالد لا يجوز في هذا المجال أن نغفل ( رسالة الغفران ) للمعري و(جحيم) دانتي . إنّ في كل عنصر من عناصر الحياة الحديثة جزءاً قد يكون كثيراً أو قليلاً من عناصر الحياة القديمة ، بل إنّ الإنسان نفسه ما يزال في جسده وفي بعض تصرفاته يحمل إلى حد بعيد جسد جده إنسان الكهوف وتصرفاته ، ولكن هذا كله لا ينبغي أن يصرفنا عن مصادر الإبداع الأخرى وعلى رأسها العبقرية والنبوغ ، ولولا ذلك لظلّ الإنسان في الكهوف .
إذا كان الأدب مظهراً من مظاهر الحضارة والتقدم ، فإنّ هذه الحضارة في القرنين التاسع عشر والعشرين حتى الآن قد تقدمت بأكثر من 80% من تقدمها خلال القرون السابقة، منذ مشى آدم في الأرض أول مرة . وذلك بفضل الاكتشافات والمخترعات التي لا تعد ولا تحصى والتي يقول العلماء ، إنّها حققت خلال السنوات الأربعين الماضية تقدماً حضارياً ومدنياً لم تحققه طوال قرون . ربما كان التقدم الأدبي في العصور الأخيرة لم يبلغ النسبة التي بلغها التقدم الحضاري ولكن هذه النسبة تدعونا إلى البحث عن مصادر أخرى للإبداع ليست في التراث وحده ، على نمط ما حدث في التقدم العلمي ، أو إلى حد ما من هذا النمط .
لقد انطلقت طاقات الإنسان المبدعة ، وهي طاقات جبارة ولا ندري إلى أين يسير العالم إذا تحولت هذه الطاقات إلى أعمال .
ويسرني بهذه المناسبة أن أذكر هذه الأبيات الرائعة للشاعر محمد إقبال في ديوانه (رسالة المشرق) يخاطب فيها الإنسان ربه :
خلقت الظلام ، فصنعت السراج ،
خلقت الطين ، فصنعت الكؤوس .
خلقت الجبال والصحارى ، فخلقت الحدائق
والبساتين .
خلقت الأحجار فصنعت المرايا .
خلقت السم فصنعت الدواء .
أتريد أن أنقل لك خبراً يسرك ؟
لقد انتهيت اليوم من ترجمة ديوان ( محمد إقبال ) وعنوانه ( جناح جبريل ) وعثرت فيه على قصيدته ( لينين أمام الله ) كاملة بعد جهد استمر أكثر من عشرين سنة .
* كان اهتمامك واضحاً بالآداب الشرقية أكثر من غيرها ( الأدب الفيتنامي، الأدب الصيني .. الهندي .. ) ما وراء هذا الاهتمام ؟
ـ اهتمامي بالآداب الشرقية يرجع إلى سببين اثنين :
الأول أننا خلال القرنين الماضيين ، وأثناء احتلال أوروبا للعالم العربي كانت الآداب الغربية وحدها هي التي تدرس أولاً وتترجم ثانياً إلى اللغة العربية ، فلم نكن نعرف عن آداب الشعوب الشرقية ، وحتى عن آداب الشعوب الغربية غير الاستعمارية شيئاً وقد حان الآن رفع الوصاية والتحكم في المعرفة والثقافة .
والثاني : أنّ آداب الشرق تحمل في طياتها كثيراً من أذواقنا وتطلعاتنا وأفكارنا ، فهذه الآداب على العموم تحارب الاستعمار والرجعية والمظالم الاجتماعية، وتدعو إلى الحرية والعدالة والاشتراكية ، أي إنّها تنقل إلينا تجارب تلك الشعوب التي أنقذت نفسها .
وقد نشرت حتى الآن كتابين عن تاريخ الأدب الصيني ونشرت أربع مجلدات من تاريخ الأدب الفيتنامي ، كما نشرت كتاباً عن القصص الفيتنامية أثناء حرب التحرير ، وعندي كتب أخرى عن هذه الآداب وأرجو أن أستطيع نشرها عن قريب، فهذا الأدب دستور تحرير للشعوب على العموم وللشعب العربي في كل أقطاره وفي فلسطين على الخصوص .
لقد تفتحت آفاق الثقافة بعد زوال الاستعمار وأصبحنا نجد لشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية آداباً رفيعة ، وتجارب إنسانية عميقة تغني أفكارنا وقلوبنا ، وتنقلنا إلى عوالم كنا نجهلها تماماً من قبل .
وأنا حين أدعو إلى أدب الشعوب الشرقية والأفريقية واللاتينية ، لا أدعو إلى هجر الآداب الغربية على الإطلاق ففي الغرب ما يزال شعراء وكتاب أحرار يدافعون عن الشعوب وينكرون الاستعمار ويدعون إلى التقدم .
* كتبت في فترة مبكرة قصائد كانت متقدمة ومهمة في وقتها ، لماذا لم تستمر كشاعر، هل هو قناعة بعدم جدوى الشعر ؟
ـ نكأت في قلبي جرحاً قديماً ما زال يهزني منذ عام 1947 يوم فقدت زوجتي المرحومة ( بهيرة ) بعد عذاب سنة كاملة بالسرطان اللعين .
لقد هزني هذا الموت من أعماقي هزة عنيفة تحولت إلى قصيدة . أتريد أن تعرف كيف نظمت هذه القصيدة : يقول العرب القدماء أنّ لكل شاعر جنياً يملي عليه شعره ، وربما كان هذا القول صحيحاً إذا وسعنا معناه وأطلقنا على هذا الجني اسم الوحي في العصر الحديث. كنت في يبرود هارباً من تقاليد التعزية ، نمت على فراش في الأرض ووضعت دفتراً وقلماً إلى جانب الفراش ، وعندما استيقظت صباحاً بدأت بنظم القصيدة ولم تأت الساعة الثانية عشرة صباحاً حتى أنهيت القصيدة في أكثر من 250 بيتاً ، لا أدري كيف حدث ذلك حتى الآن . وعندما سألني بعض الأصدقاء عن هذه القصيدة ، قصيدة (بهيرة ) قلت له هذه البيات وكتبتها على علبة سجايره :
وصاحب قال لي ، والكأس مترعة وظل يقرأ كالنشوان أبياتــــــي
هذا هو الشعر هزتنا روائعـــه فقلت ـ والصدق عندي بعض عاداتي ـ
لا لست أحسن لا شعراً ولا خطبـاً إني أسجل ما تمليه مأساتــــــي
هذه القصيدة التي كانت نتيجة هزة عاطفية عنيفة تحتاج أمثالها إلى مثل هذه الهزات العنيفة ، فالشعر كما تعلم معاناة ، وقد حدثت هذه الهزة مرة أخرى عندما فقدت ابنتي الصبية ورود ، وهي في الثالثة عشرة من عمرها ، فنظمت قصيدة أخرى في رثائها لا تقل عن القصيدة الأولى في فنها وعاطفتها كما أعتقد ، وإن كانت تخالفها بل وتناقضها في الفكر وفي الموقف من الموت ، نظمت كثيراً ، وما أزال أنظم ، ولكني لست راضياً عن كثير مما نظمت. إنّ لي واحداً وعشرين ديواناً تمتد خلال ستين عاماً ، وقد نشرت منها ثلاثة دوواين ، وما يزال سائرها مخطوطاً يقبع إلى جانب مخطوطاتي التي تنتظر النور ، وما أدري إن كانت سترى النور ، في يوم من الأيام .
لم أهجر الشعر ولم أعتقد في يوم من الأيام أنّه ليس له جدوى ، فهو أداة نضال اجتماعي وفردي ، وهو الذي يحبب إلينا الحياة ويدفعنا إلى الدفاع عنها ، وإذا كنت في حياتي لم أنظم إلاّ قصيدة أو قصيدتين من مستوى أرضى عنه . فالشعر لا يقاس بعدد الأبيات والدواوين ، وإنما يقاس بجودته ومستوى عواطفه والمقدرة على التعبير . ولقد ذكرتني بكلمة قلتها لأحد الأصدقاء منذ سنين طويلة ونشرها في مجلة نسيت اسمها الآن :
لست كاتباً ولست شاعراً أنا إنسان أضاع نفسه ، رمى بسهمه فأخطأ الهدف، وما زال يرمي ويخطئ .
* هل وصلت شعور بالرضى الداخلي ، إلى الاطمئنان ؟ وإذا تكشفت لك حقائق جديدة هل سيقودك هذا إلى القلق من جديد ؟
ـ لم أصل إلى الشعور بالرضى ولن أصل إليه ، وما أزال أحترق في شيخوختي كما احترقت في شبابي . لقد ذكرت مشاعري هذه في مقالتي ” العراطة ” الذي نشرته في مجلة الثقافة عام 1983 ، فإذا شئت التفصيل فارجع إليه .
الشعور بالرضى هو الموت . والشعور بأنّك وصلت إلى الحقيقة جنون ، ولست ميتاً ولا مجنوناً حتى اليوم . هنالك أوهام أتوهم أنّها حقائق فأتمسك بها لأعيش ، كما يتمسك الغريق بحبال ( العرمط ) لينجو ، لا أكثر من ذلك ولا أقل .
القلق وارد في حالة تكشف حقائق جديدة أو في حالة البقاء على الحقائق أو ما أتصور أنّه حقائق في الوقت الحاضر . لذلك فأنا قلق على كل حال ، وإن كنت ـ ولا أكتمك ـ أحاول القناعة بما توصلت إليه لأني عجوز يدمره القلق ، ويريد أحياناً أن يستريح .
* على ماذا أنت نادم ؟
ـ لست نادماً على شيء .. لقد ملأت حياتي . شربت كأسي حتى الثمالة ، وأنا في طريقي الآن إلى لعق هذه الكأس الفارغة .
* بعد هذه التجربة الطويلة الخصبة ، ماذا لديك لتقوله إلى جيلنا الجديد ؟
ـ قلت في الجواب على مثل هذا السؤال ذات مرة أخاطب الشباب :
” لقد كنا جيل الهزيمة فكونوا أنتم جيل النصر “.
إنّ تجارب الجيل الجديد رغم شبابه ليست أقل من تجارب الجيل القديم رغم شيخوخته، ولذلك فنحن نتعلم منه وهو يتعلم منا .
وإذا كان لا بد لي أن أقول شيئاً للجيل الجديد فإليك بعض هذه الأقوال التي أرجو ألا تبقى حبراً على ورق :
ب ـ تمتعوا بالحياة واعملوا في الوقت نفسه لبناء الحياة .
جـ ـ كونوا طلائع الحضارة العربية الحديثة .
د ـ حافظوا على لغتكم العربية المجيدة كما تحافظون على نور عيونكم .
هـ ـ شاركوا في جعل العالم أكثر سعادة وفي جعل الإنسانية أكثر إنسانية.
حـ ـ لا تدفشونا نحن الشيوخ فسوف نترك لكم الدنيا كلها ونرغم على الرضا بحفرة مظلمة يأكلنا فيها الدود .
تلك هي بعض أقوالي ، ولا أقول نصائحي ، للشباب فلست في موقع أقدم فيه النصائح، وما أزال في حاجة إلى أن أتعلم ، فأنا جاهل مركب ، وإذا سمحت لي باستعارة ألفاظ الرياضيات ، قلت ( أس 3 ) .
المؤلف : مطالعات في الأدب
جريدة حمص – العدد 204 – التاريخ 12/1/1955
المحاور : المجلة
” سئل الأستاذ عبد المعين الملوحي مرة ، من هو الأديب الذي أثرّ بنفسك ، فأجاب … وكانت إجابته هي هذا المقال الممتع ” :
لا أعتقد أني سأجد واحداً يوافقني على ما أقول …
ومع ذلك فسأقول ما أعتقد ، وما لا يعتقده الناس .
في حياتي كتاب كثيرون أثروا في نفسي جميعاً ، وأسلمني واحد منهم إلى أخيه ، حتى أصبحت الآن وليس يستطيع أن يستولي عليَّ أحد .
قرأت كثيراً وكنت حين أقرأ أستسلم ، وكنت أتأثر ، وكنت أقلد ، وتلقيت كل ما كنت أقرأ في إيمان ، وآمنت بكل ما قرأت ، وكنت في كل مرحلة من مراحل الإيمان المتناقض أشعر بآلام لا تطاق ، ألام تجهض قبل أن يتم المولود ، وآلام الإجهاض أشد وأقسى من آلام الولادة .
وتأثرت في قراءاتي تأثيرات مختلفة متناقضة … بالدين والمتدينين من الزمخشري والطبري إلى ابن قيم الجوزيه وابن تيميه .. وتأثرت بالفلسفة والمتفلسفين .. من أفلاطون إلى كانت إلى ماركس إلى لينين .
وتأثرت بالأدباء من ابن المقفع والجاحظ والحريري إلى طه حسين والعقاد والمنفلوطي من العرب ، ومن دانتي وميكيل أنجلو وفولتير وروسو ومونتسكيو وفيكتور هيجو إلى غوته وفلوبير ودوستيفسكي وتوماس هاردي وتولستوي وغوركي واهرنبورغ من الغرب .
ومن الشعراء الفرزدق وكثير عزة وأبي العلاء من العرب إلى الخيام والفردوسي من الفرس وهوميروس وألفرد دوفيني وآراغون من الغرب .
كل هؤلاء قرأتهم وكل هؤلاء تأثرت بهم وكل هؤلاء ملكوا عليّ عقلي وشغلوا كل نفسي في إحدى مراحل حياتي ، وفي وقت من أوقات هذا العمر الذي هو مهما قصر طويل إذا عرفنا كيف نملؤه .
كنت إذا قرأت أرسلت نفسي في جو من أقرأ حتى ولو كان لي عدواً ، أقرأ لأفهم ، ولا أقرأ لأنتقد ، فإذا انتهيت من قراءتي : شعرت أنّ كلّ هؤلاء قالوا شيئاً قيماً ، وقالوا أشياء كثيرة ولكنهم لم يقولوا كل شيء ، لم يستطيعوا أن يشعروا قلبي أنّه قد وجد فيهم ما يجد في الحب من عواطف ، ولم يستطيعوا أن يشعروا عقلي أنّه قد وجد فيهم ما يجد في الحياة من أفكار ، والصحيح كانوا يشعرونهما دائماً بأنّه ما تزال في القلوب عواطف كثيرة لم تر النور أبداً ، وعواطف كثيرة أخرى لم تر النور إلاّ قليلا ، وأنّ في الحياة أفكاراً كثيرة لم تنفذ إليها العقول أبداً ، وأفكاراً كثيرة أخرى لم تر العقول منها إلاّ جوانب قليلة محدودة .
هذا ما كنت أشعر به حين أقرأ ، ولقد كنت أقلد كثيراً منهم ، قلدت في كتاباتي عدداً من هؤلاء ، حاولت أن أحلل النفوس كما حللها بعضهم وحاولت أن أصنع الأسلوب الذي صنعه بعضهم ، ولكن لم يستطع واحد منهمأن يستمر في تأثيره في نفسي أكثر من الزمن الذي قضيته في قراءته أو نصف هذا الزمن إذا أردت ألاّ أكون مغالياً .؟؟
كنت أحس بما مرّ به عقلي من تناقضات فكرية عنيفة ، ترددت بين الإيمان العميق والإلحاد العميق ، بين روحية هيجل ، وعقلية كانت ، ومادية ماركس . وكنت أحس أيضاً بما مرَّ به قلبي من تناقضات عاطفية عنيفة ترددت بين الأنانية والغيرية ، بين أنانية أبي فراس وغيرية أبي العلاء ، كنت أحس بما مررت به أنا نفسي في هذه الحياة من خيانات سود يبيع فيها الأخ سراويل أخته الميتة في المزاد العلني في باب السوق ، ومن تضحيات يبيع فيها العامل حياته ليضيء بها وطنه ، ومن رجولات يقدم فيها الفدائي على الموت كأنما هو أشعب يدعى إلى وليمة ، ومن نضال قديم قدم الإنسانية جاهد فيه الإنسان للخلاص من الوحش ، وحش الغابة ووحش النفس ليحقق إنسانيته الكاملة ، ومن حركات وطنية خاضتها هذه البلاد للخلاص من الاستعباد والظلم والطغيان ومن أشكال منوعة نراها في الحياة أو نسمعها أو نعيشها أو تنقل إلينا الصحف والكتب شذوراً عنها ، وكل أولئك أمور تستحق أن تكتب وتريد أن تكتب ، وقد كتب عنها هؤلاء الكتاب جميعاً وأرادوا أن يصوروها ، وكنت إذا قرأتهم أكبرتهم وأعجبت بهم وملكوا عليّ بتصويرها مشاعري ، ولكني مع ذلك كنت أشعر وأنا في غمرة القراءة ، وفي أعقد عقد القصة ، وفي أوفر مراحل التحليل النفسي أنّ شيئاً كثيراً قد غاب ، بل ربما شعرت أن ليس هذا هو الذي يريدون أن يعبروا عنه ، وأنّهم يحومون حول موضوعهم ولكنهم لا يستطيعون الورود ، إنّهم في حاجة إلى من يقول لهم ، انظروا هنا يجب أن تفصلوا ، وإلى هنا يجب أن تبلغوا ، ومن هنا يجب أن تبدؤوا .
وهكذا كنت أشعر ، بل لقد كان هذا بعض شعوري . كنت أشعر أنّ في نفسي عوالم كثيرة يجب أن أسجلها ، فإذا جلست لتسجيلها عاقتني عنها مشاغل الحياة وسخف الناس ، ومشكلات الأسرة ، وأشياء كثيرة أخرى ربما كان أولها وأكثرها خطورة وقيمة هذا الكسل عن العمل ، الكسل الذي يطغى عليّ ، الكسل الذي يخرجني من غمرة العمل ليحبب إليّ الفراغ : الفراغ النفسي والعقلي والفكري والعاطفي ، الفراغ الذي ألجأ إليه بعد عمل المدرسة الشاق ، وبعد تصحيح الوظائف المرهق ، بعد تحضير الدروس المزعج ، وبعد قضاء ساعة أو ساعتين أستجم فيهما من هذا العناء كلّه ، لأشعر بعد ذلك بأنّ طاقة النفس قد جفّت وأنّها في حاجة إلى نوم ثقيل كالرصاص ، طويل كالأبد عميق عمق المحيط .
لم أقلد أحداً ، أمداً طويلاً ولا أريد أن أقلد الآن أحداً . ربما تأثرت بهذا الكاتب أو بذاك ما دمت له قارئاً ، فإذا تركته سرت في طريقي أبحث عن نفسي وعن أسلوبي وعن أفكاري ، ولكن حين أكتب ثم أعاود قراءة ما كتبت أشعر أنّ هذا الذي كتبته كان جزءاً من حياتي ، كان أنفاسي التي ضاعت في هذا الجو ، وإذا أنا أستعيدها ، وإذا أنا أتنفس مرتين ، مرة أنفاسي وأنا أقرأ ، ومرة أخرى أنفاسي عندما كنت أكتب ، وإذا أنا يخفق قلبي مرتين ، خفقانه حين أقرأ وخفقانه حين أكتب ، وأؤكد أني لم أحاول مرة سرقة بيت أو قصة أو صورة أو منظر ، لم أحاول ذلك أبداً لا لأني لا يعجبني ذلك كلّه ، ولا لأنّي لا أرى شيئاً يستحق أن يكون لي ، ولكن ذلك لأني أشعر بنقصه وبأنّه غير تام وبأنّه ليس أنا ، وليس إنتاجي ولا منظري ولا شعري ولا كتابي ولا أسلوبي ، بل لعلي قد تعبت لكثرة ما قرأت ، أو لعلي مصاب في الأصل بنسيان ما أقرأ ، بعد قليل من قراءته ، فأنا لا أتذكر مثلاً آلام فرتر تذكراً جيداً حتى في بعض النقاط الأساسية من القصة رغم أني قرأتها أكثر من أربع مرات .
وهذا النسيان هو الذي يبعدني عن التقليد ويدفعني إلى طريق خاصة بي ، لاصقة بنفسي معتمدة على ما أحمل من أفكار وعواصف واتجاهات .
لم يؤثر في نفسي واحد بعينه ، كلُّ الكتاب كانوا عندي سواسية ، مهما كانوا متناقضين أقرؤهم في إعجاب ثم أتأملهم في هدوء ثم أنساهم لأعاشر غيرهم .
وما يجب أن يتوفر في الإنتاج الأدبي في نظري أمران : الفن في الدرجة الأولى ، والفكرة في الدرجة الثانية .
وكنت أرى الفكرة إذا تجردت من الفن هيكلاً عظمياً ، وكنت أرى الفن إذا تجرد من الفكرة كومة مائعة من اللحم مزقّها القطار ـ وهو منظر أتذكره في حمص منذ عشرين عاماً ـ وألقى بي على جانب الخط الحديدي .
سيقول بعض النّاس : هذا غلو وادعاء فارغ ، وأقول لهم : إنّ هذا هو الذي كان وعليّ أن أسجله ، وليس عليّ أن يفهموه .
وسيقول بعض المنصفين ، صدقناك ، فمتى يكون لك أسلوبك وموضوعك وتفكيرك ؟ وأقول لهؤلاء لا أدري وسأحاول ، ولعلّ ذلك لن يتم لي إلاّ حين أستغني عن النّاس : بيت ومكتبة وراتب شهري لا يتجاوز مائة وخمسين ليرة ، فإن استطعت فذاك ، وإلاّ فليس شأني غير شأن ذلك الموسيقي المخفق الذي تحدث عنه دوستيفسكي في إحدى رواياته الخالدة (نيتوشكا) والذي كان يسمع بتهوفن ويرى أنّ في استطاعته أن يكون خيراً منه ، والذي انتهى به الجنون إلى الموت في شوارع لينيغراد في ليلة شتاء عاصفة ، وبين نواح الريح مات وهو يلهث من التعب ، والغضب ، وابنته من ورائه تبكي وتصرخ وترد على عوائها الكلاب المتشردة .
دار الإرشاد ومعجم “الإرشاد”
دار الإرشاد لصاحبها الأستاذ عبد الجبار الجندلي دار عريقة في النشر خدمت الثقافة العربية على مدى ثلاثين عاماً أو تزيد تعود معرفتي لدار الإرشاد إلى عام/1980/حين أصدرت كتاب”إعراب القرآن الكريم”لأستاذي أولاً وصديقي ثانياً المرحوم محي الدين الدرويش في /30/جزءاً في عشر مجلدات.
وازدادت علاقتي بالدار حين لمست اهتمامها الجاد بنشر الثقافة واضعة نصب عينيها ما يحتاجه القراء على مختلف مستوياتهم.وهذا بعض ما نشرته:
أ-في الأدب:
1- الأدب الجاهلي:قضاياه وأغراضه وأعلامه وفنونه من تأليف د.غازي طليمات وعدنان الأشقر.
2- شرح المعلقات السبع للزوزني.
3- شرح معلقات الأعشى والنابغة وعبيد بن الأبرص.
4- شعراؤنا:دراسة لشعر بشار بن برد والخطيئة وعبيد بن الأبرص.
5- التعبير الفني:محمد غازي التدمري.
6- التعبير المبسط:الدار.
ب-في النحو واللغة:
1- قواعد النحو المبسطة تأليف:خليل توفيق موسى.
2- القواعد الشاملة في اللغة العربية:تأليف:خليل توفيق موسى.
3- المنصف في الإملاء تأليف:عبد الجليل زكريا.
4- مختار الصحاح:الرازي.
ج-في اللغات الأجنبية:
1- الإنكليزية المبسطة:خالد حداد.
2- الإنكليزية الشاملة:خالد حداد.
3- المحادثة الإنكليزية:خالد حداد.
4- سلسلة تبسيط قواعد اللغة الإنكليزية:خالد حداد
5- الفرنسية المبسطة:ابتسام نصر الصالح.
د-في المعاجم:
1- معاجم اللغة الإنكليزية والعربية.
2- صفحات في اللغة العربية والفرنسية.
هـ-في أدب الأطفال:
اهتمت الدار بأدب الأطفال فأصدرت لهم كتباً عدة تناسب مستوياتهم وتمدهم بالعواطف والأفكار وتوسع خيالهم.
و-وتوجت الدار نشاطها الثقافي بإصدار معجم”الإرشاد”عربي-عربي،وقد قام بإعداده الأستاذ خليل توفيق موسى.
وهو أستاذ اللغة العربية في حمص وفي العين،ومن لاجئي فلسطين في حمص،وبذل في إعداد هذا المعجم تسع سنوات من عمره،وقام بمراجعته من علماء العربية المختصين،وقد أكب في عمله على مراجعة عدد كبير من المعاجم والمؤلفات اللغوية وكتب الأدب.وقد بلغت /52/معجماً ومصدراً في اللغة العربية وسبعة معاجم في اللغة الإنكليزية.وقد أدت الدار والمؤلف خدمة جليلة للأدباء والمعلمين والطلاب على السواء.
بلغت صفحات المعجم /695/صفحة موزعة على أحرف الهجاء.لقد رأيت بعيني مراراً صديقي الأستاذ خليل وهو يتابع عمله بجد ونشاط حتى استطاع إنهاء هذا المعجم الراقي وأعتقد أن الأدباء وطلاب الجامعات والمدارس الثانوية سيجدون فيه ما يشفي غليلهم ويفي بحاجتهم في البحث اللغوي.
تلك هي دار الإرشاد وها هو الأديب الفلسطيني الذي يعمل فيها وتلك هي جهودهما المشكورة في الأدب واللغة وأدب الأطفال وختاماً أرجو للدار التقدم والازدهار وللصديق خليل الصحة لمتابعة عمله في خدمة الثقافة في وطننا الحبيب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العدد 895(1969)-التاريخ 9-15/6/2002