يوميات الأيام

من دمشق .. إلى حمص..!
هكذا قضينا عمرنا في الوظيفة … وهكذا سوف ننتهي

لو كان الناس لا يسكنون إلا البلد الذي يعجبهم
لسكن الناس جميعاً دمشق ولأقـفرت الأرض
كلها من أهلها ..
” عبد المعين ”
وبعد سبعة أشهر أعود إليك يا بلدي الصغير حاملاً إليك ما أخذته منك :
منضدة صغيرة تكاد تسجد بما تراكم فوقها من كتب ودفاتر ، وثلاثة كراسي لم يوضع واحد منها أمام المنضدة لأن الغرفة تضيق بهما معاً في آن واحد ، فحقهما أن يلتصقا بالحائط ، وسريراً من حديد تضحك عليه الأرض كلما ادعت نوابضه المخلعة أنها على الأرض ، وأريكة ما تزال في عز شبابها تلمع وتفتخر لأن صاحبها لا يكاد يلقي بكل ثقله عليها من حرصه عليها ، وبساطاً زاهي الألوان صنعته من خرق ثيابها وثيابنا العتيقة عجوز دارنا ، وأعانتها عليه عجائز حارتنا ، ومذياعاً يذكر أيام اختراع المذياع ، أعجزه الركض وراء المحطات فأقسم ألا يسمعك إلا دمشق ، شريطة أن تقبض بإحدى يديك على شريطه الهوائي ، وإلا فقد ضاعت الأخبار .
وستقولين ، يا حمص : دعك من هذه المبالغات ، أ فليست لديك أشياء أخرى أكثر قيمة ؟ وأقول لك : بل عندي بيت يغص بما فيه من أثاث ولكن الزوجة الصالحة المقتصدة اختارت تلك الأشياء الخربة التي لا تخشى عليها أن يزيدها السفر خراباً ..
وأحمل إليك يا حمص مع هذا الأثاث قلباً أخضر ، لم تستطع الأيام ، رغم ما فيها من مصائب ومصاعب أن تطوح ورقة واحدة من أزهاره ، ولا أن تحرق نجمة واحدة من أعشابه .
بعد سبعة أشهر
وبعد سبعة اشهر يا دمشق أغادرك وأحمل منك ما أعطيتنيه : كتباً جديـدة ، هدايا الأصدقاء الأدباء ، وعلى كل حرف منها شيء من نور عيني ، يلمع في ثنايا الخطوط السود ، وينساب في سجل على الحواشي من ملاحظات .
وذكريات قديمة لأصدقاء قدماء سقيت غرس مودتهم مرة أخرى فأورق أيما إيراق .
ووجوهاً حلوة لأصدقاء جدد بذرت بذور حبهم الفتي في قلبي العتيق المجرب ، فكاد يعود إليه شبابه وترف عليه أغصانه .
وتجارب مكرورة في حياة الوظيفة وفي معاملة الناس ، أنا عليها غير حريص ، فما أبقت لنا تجاربنا الماضية شيئاً لا نعرفه فنحرص على معرفته ، ولا شيئاً نعرفه فنزهى بمعرفته .
وأحمل منك بعد هذا وذاك كميات كبرى من دخان المازوت يتغلغل في ثنايا رئتي وأحتاج إلى ألف جلسة على الميماس أعب فيها رياح حمص ، لتستطيع غسلها ، وضجة مخيفة تعشش في ثنايا رأسي وأحتاج إلى ألف جلسة هادئة على جنبات الوعر لتستطيع انتزاعها .
قال لي صديق : ونحن في المهاجرين نطل على ما بقي من الغوطة :
– ألم تعجبك دمشق فذهبت إلى حمص ..
قلت : بلى ، لقد أعجبتني ، ولكن لو كان الناس لا يسكنون إلا البلد الذي يعجبهم ، لسكن الناس جميعاً دمشق ولأقفرت الأرض كلها من أهلها ..
وقالت لي صديقة ، ونحن على شرفة منزلها في القصاع ، وقاسيون يتلألأ أمام عيوننا : ألم نعجبك
قلت : بلى ، لقد أعجبتني ، ولكن لو كان الناس لا يحبون إلا أحلى النساء ، لما قام على الأرض كلها إلاّ بيت واحد لأسرة واحدة ، أنت وحدك ربة هذا البيت .
كان الليل ساجياً ، والهواء لا يتحرك ، والحر يخنق الأنفاس ، والنجوم في السماء تكاد تحتــرق ، ثم لا يجد هواء يحمله إلي فيحمل أحلى شذى لأجمل شعر .
عمرنا في الوظيفة
وتذكرت أولئك الأصدقاء الذين ينتظرونني في حمص فكدت أغص ، إنني اليوم أودع أصدقاء سيظلون ينتظرونني في دمشق وكدت أغص .
نحن في هذه الحياة قدر من الطاقة قليل أو كثير ، ننفقه هنا وهناك ، قطرات من الدم نسفحها هنا وهناك ، نور عين ينطفئ هنا وهناك ، ثم نمضي فلا طاقة ، ولا دم ، ولا نور .. هكذا قدر علينا أن نوزع حياتنا ، طير جريح يطير وجراحه تنزف قطرة بعد قطرة ودرب من الدماء تخطه جراحه على الأرض لا ينتهي إلا حين يصبح الطير الجريح جسداً هامداً في التراب .
هكذا قضينا عمرنا في الوظيفة وهكذا سوف ننتهي .
في مثل هذا الشهر منذ سنتين غادرت سيارة سوداء دمشق في طريقها إلى حمص ، كان في هذه السيارة أخي الكبير أنيس أبو سعيد مسجى في تابوته ، بقي موظفاً في دمشق ثلاثين عاماً أو تزيد ولما أراد أن يستريح عاد ليجد قبره في حمص يفتح له ذراعيه مرحباً به .
وبعد ستة أشهر غادرت سيارة سوداء دمشق في طريقها إلى حمص ، كان في هذه السيارة ابن عمي رشيد أبو معاذ ، عاش في دمشق يعمل في الصحف الوطنية أربعين عاماً ، ولما أراد أن يستريح عاد ليجد قبره في حمص يفتح له ذراعيه مرحباً به .فما أحسن أن أعود إلى حمص وأنا أسير على أقدامـي ، وأنتم تقيمون لي حفلة وداع .. وسأجد هنالك أماً تفتح لي ذراعيها ، وبيتاً تصطفق أبوابه فرحاً بعودتي ، وسأجد هنالك أيضاً قبر امرأة كانت كل شيء في قلبي ، ذبلت عليه أزاهيره التي وضعتها يوم العيد ، فهو ينتظر عودتي لأضع عليه أزاهير غضة جديدة .
ألف ذكرى
يا أصدقائي :
أترك دمشق ، وفي قلبي ألف ذكرى طيبة عنكم ، لقد غمرتموني باللطف والعطف والمودة ، لقد اتسع قلب المدينة الكبيرة فآوى قلب هذا الإنسان المشرد حتى وهو بين أهله وولده ، وفي بلده ، فأنا أحمل لكم كل ما يحمله الأخ لأخيه من حب وشوق .
أترك دمشق ، وفي قلبي مثل ما في قلب آدم حين ترك الجنة التي كان فيها سعيداً وهبط إلى الأرض التي صار فيها يشقى ، الظاهر أننا نحن أبناء الحياة لا نزال نحمل في أعماقنا خطيئة أبينا وأمنا الأولى ، نحن لا نحب أن نجد السعادة في جنة لم نصنعها بأيدينا ، ونحب أن نحارب الشقاء في أرض نحن نصنعها بأيدينا .
أترك دمشق ، وقد أنفقت في شهورها السبعة الأخيرة كل ما أستطيع ، لم أدخر جهداً ولا ضننت بسعي .. لقد عملت كل ما يمكن ليستقطب المركز الحركة الفكرية والأدبية والثقافية في هذا البلد ، والحق أن قد اجتمع حول المركز يدعمه ويؤازره غير قليل من صفوة الأدباء والشعراء والمثقفين والمفكرين ، وكنت بهم سعيداً .
كنت آخذ بيد المبتدئ وأشجعه ، وأصادق الند وأسانده ، وأقتبس من الكبير وأنتفع به ، كنت دائماً مستعداً وفي تواضع حقيقي للاعتراف بكل ذي موهبة ، وتقدير كل صاحب أدب ، واحترام كل ذي تفكير وثقافة .
والعمل الثقافي يقتضي فيما يقتضي أن لا تكون ثقافتنا معرفة محضة ولا علماً صرفاً ، بل أن تكون كذلك سلوكاً أخلاقياً ، وأول السلوك الأخلاقي فيمن يتولى العمل الثقافي أن يحترم الناس ، ويفهم ما في ثقافة الناس من تنوع وتلوين واتجاهات .
إن تفتح الكفاءات والمواهب فرحة كبيرة تغمر نفوسنا ، وتجعل أملنا في مستقبل شعبنا أكثر نوراً .

واجبي أن أكرمكم
أيها الأخوان :
أعتقد أن إخواني من موظفي المركز الثقافي العربي بدمشق ، ومن أعضاء ندوة الفكر والفن ، ومن أصدقائي في جمعية الأدباء ، حين تفضلوا مشكورين فأقاموا لأخيهم حفلة الوداع هذه ، إنما نظروا إلى قول أبي الطيب حين قال :
أنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال
فلم أبلغ أنا مرتبة صنع المليح حتى أكرم ، وأرجو أن أكون قد بلغت مرتبة ترك القبيح ، وكان أولى بي أن أكرمهم : فقد تفضلوا علي في المركز فآزروني وساعدوني ، كان الموظفون يعملون في مركزهم ،كأنهم يبنون بيوتهم ، وكانت ندوة الفكر تمد إلى المركز يد الفن الأصيل والفكر النير ، فيتألق على مسرحه المتواضع ، وكانت جمعية الأدباء تنثر على جيد المركز أحلى عقودها يقدمها إليه أكبر أدبائها .
إذن فقد كان من واجبي أن أكرمكم جميعاً وأن أكرم معكم هؤلاء الأخوان والأخوات الذين كانوا يملؤون المركز فهماً ووعياً وذكاء ، والذين اعتمد المركز عليهم ، في كل ما قام به من نشاط . ولئن فاتني تكريمكم فلا أقل من أن أقوم بشكركم من أعماق قلبي .
أرجو بمعونتكم جميعاً أن يتابع المركز الثقافي في دمشق عمله ، وأن يرتفع مستواه ، وأرجو أن أستطيع في حمص أداء واجبي كما أديته في دمشق .
إننا نحن نأتي ونروح ، نعين وننقل ، ونحيا ونموت ، أما الوطن أما شرف العمل ، أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ويبقى ويعيش

2 thoughts on “يوميات الأيام

اترك رداً على مصطفى طليمات إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *