أجل ، لنا ثقافتنا العربية المميزة ..وكفى تشكيكاً بحضارتنا
عبد المعين الملوحي :
هولاكو لازال حياً في بعض الأقطار العربية
حجب جائزة نوبل
عن الأدب العربي دليل على تأثير السياسة في الأدب
الموقف العربي ـ لبنان ـ العدد 157 التاريخ 17/10/1983
المحاور : المجلة
ولد المفكر والشاعر السوري عبد المعين الملوحي بحمص سنة 1917 وحصل على ليسانس في الآداب من جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن ) عام 1945 ، وقد تتلمذ في القاهرة على أهم أساتذة الأدب العربي ، من أساتذته كان د. طه حسين ، ود. أحمد أمين .
عمل بالتدريس لفترة ، ثم تولى ، في بلاده سوريا ، عدة مسؤوليات ثقافية آخرها ، منصب مستشار ثقافي بالقصر الجمهوري .
وليس هناك ما يقدم به هذا الرائد الكبير ، لأكثر من مجال من مجالات الفكر العربي ، غير أبيات من آخر قصائده :
ولم يرني الإمساء أرقد خاليا
ولم يرني الإصباح أنهض صاحيا
ولم ينسني لهو الحياة مشاغلي
ولم ينسني جد الحياة الملاهيـــا
تولى شبابي مشرق الوجه زاهيا
وأقبل شيبي كالح الوجه زاهيــا
سقيت الصبايا ماء حبي وصبوتي
وجف ، فهل يقبلن ماء حنانيـــا
وقالوا سئمت العيش . قلت : أحبـه
ولو كنت في كوخ من القش ثاويا
أصوغ أحاسيسي وأشدو قصائدي
وأقرأ في ضوء النجوم كتابيـــا
وأرسل صوتي في الفلاة مدويـــا
و …..
آثرنا أن يودع صوته صفحات ” الموقف العربي ” فبدأ حديثه حول سمات ثقافتنا العربية ..
ـ أجل لنا ثقافتنا العربية المميزة ، وكفى تشكيكنا في حضارتنا ، لنا ثقافة تتسم بالتاريخية والقدم والتواصل رغم ما اعتورها ، على مر خمسة عشر قرناً ونكسات خرجت منها سليمة ظافرة منذ البداية تفتحت ثقافتنا على ثقافات شعوب العالم القديم ، كما تزداد ألقاً وسعة في اتصالها بالثقافات الحديثة شرقية وغربية ، دون أن تنسى أصالتها ، رغم المحاولات الشعوبية لفصلها عن ماضيها ، ولجرها إلى ثقافة أجنبية معينة .
وتتسم مصادر ثقافتنا العربية بالرسوخ وثبات الدعائم ، ومن أهم هذه المصادر : القرآن الكريم الذي قل أن تجد عربياً لا يحفظ منه شيئاً ، واللغة العربية التي يحار الفكر في جمالها وسعتها وعمقها وقدرتها على استيعاب تطور الحضارة الإنسانية ، ونماذج البطولة والشجاعة والكرم والحرية التي يحفل بها تاريخنا، والشعر العربي .. ديوان العرب ، الذي استوعب خطرات الفكر وخلجات الضمير ونوازع القلب والنفس ، ثم الأدب العربي الواسع في مختلف عصوره ، لا سيما في كتب الأدباء العظام كابن المقفع في ” كليلة ودمنة ” والجاحظ في ” البيان والتبيين ” و “الحيوان ” ، وابن العميد والهمذاني في مقاماته . لكل هذا ، فثقافتنا العربية قادرة على احتواء مختلف الإنجازات الحضارية في العصر الحديث دون أن تحتوى ، رغم اللحظة التاريخية الحرجة .
* مادام لثقافتنا العربية تلك الخصائص ، وذلك الرسوخ ، أليس لنا أن نسأل عن أثرها في تطور الحضارة الإنسانية في العصر الحديث ؟
ـ لاحظت أني ، في حديثي عن الثقافة العربية ، أتناول الناحية الفكرية والعقائدية والأدبية ، وأترك الحديث عن الوجه الآخر للثقافة ، وهو وجه الحضارة المادية ، وأنا في ذلك أفعل ما يفعل كثير من الباحثين في التمييز بين وجهين للحضارة ، هما وجهها الثقافي ووجهها المدني ، ولا سيما في الفلسفة الألمانية ، فإذا انتقلنا إلى الوجه الحضاري الآخر وجدنا هذا الوجه يكاد يكون واحداً متشابهاً في جميع أقطار الأرض ، على اختلاف في الدرجة ، فالحضارة الحديثة ، بمخترعاتها ومكتشفاتها وصناعتها وزراعتها وعلومها ، تزحم حياة الشعوب وتضغط عليها ضغطاً يكاد يكون متساوياً .
* يفهم من هذا أنّ لحضارتنا العربية الآن وجهاً واحداً ؟
ـ لذا فأنا أطالب بكل إصرار ، بالأخذ بأسباب الحضارة الحديثة بكل ما فيها من علم ورقي وتقدم ، فقد ارتقت حضارة الإنسان ، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ارتقاء بلغ أكثر من 90% من ارتقائها خلال عمر الإنسان الطويل على ظهر الأرض ، بل أنا أطالب بأكثر من هذا ، لا بالأخذ وحده ، والاقتباس وحده ، بل بالمشاركة الكاملة في إبداع الحضارة .
من البديهي أنّ المشاركة في إبداع الحضارة الحديثة سوف تخط دروبها ومسالكها في الثقافة العربية الحديثة ، كما أنّ الثقافة العربية ستؤثر بدورها في أنماط الحضارة المادية ، فليس في العالم كله شيء منفصل عن شيء ، والثقافة الفكرية والحضارة المادية يتبادلان التأثير ، فينتصر هذا الجانب مرة ويطفو على السطح ، وينفذ ذلك الجانب تارة أخرى ويحتل الساحة . أعتقد أنّ في هذا التبادل وذلك الامتزاج ، وفي هذه الحركة الجدلية بين وجهي الثقافة الخير كل الخير لأمتنا العربية وللإنسانية جمعاء .
* متى يمكن أن يحدث هذا ؟
ـ حين لا تقتصر الثقافة العربية ، في تطلعاتها للمستقبل ، على عناصرها القديمة ، ولا على عناصرها الجديدة ، حين تجمع العناصر كلها في وحدة متناسقة ، لكي تصبح ثقافة عالمية حقيقية تجمع أفضل ما في ماضيها المجيد ، وأحسن ما في حياتها الجديدة .
الاقتصار على العناصر الأولى يفصل ثقافتنا العربية عن الحياة ، والاقتصار على العناصر الأخيرة يجتثها من جذور أصالتها ، ويفرض عليها التبعية والسطحية.
* لكننا ، بالتأكيد نلاحظ عدم توحد الجهود ، من أجل تطوير حضارتنا العربية ، بين مختلف الدول العربية ، أيضاً ليس هناك منهج محدد على مستوى الدول العربية و ..
ـ هذا صحيح ، لكن ما دامت العناصر الأساسية في الثقافة العربية واحدة ، وما دامت الثقافات المختلفة الواردة إلى الوطن العربي عنصراً من هذه العناصر فلا بد أن تنصهر جميعاً في ثقافة عربية ، مع العلم أننا نرحب بكل الثقافات الواردة .
وتبقى مسألة زمن يتيح لنا أن نعي فيه أنفسنا وعياً كاملاً .
هولاكو لازال حياً !
* هل يمكن لأجهزة التوصيل الحديثة أن تلعب دوراً في اختصار هذا الزمن؟
ـ ما يزال الكتاب أداة التوصيل الثقافية الأولى ، رغم مزاحمة وسائل التوصيل الأخرى له ، ويجب أن يعطى لهذا الكتاب الحرية الكاملة في الوصول إلى الأقطار العربية كلها ، خاصة الكتاب الثقافي والتراثي واللغوي .
لكن الأوضاع الراهنة في البلاد العربية تمنع وصول الكتاب بمختلف أشكاله إلى كثير من هذه البلاد، بل إنّ بعض هذه البلاد تقيم محارق تتلف فيها كل كتاب عربي ورد من بلد عربي مخالف لها في سياسته ، فتذكرنا بأعمال هولاكو في بغداد ومحاكم التفتيش في الأندلس ، ولا يقتصر الحق على الكتب السياسية ، بل يشمل حتى الكتب الأدبية والتراثية والدوواين والمجلات الثقافية الخالصة . وبعض هذه البلاد يجعل من الكتب سلعة اقتصادية ، فلا يصدره إلاّ تحت شروط مادية قاسية .
يجب أن يعاد النظر في هذه التصرفات الخرقاء ، وأن يكون الكتاب حراً في تنقله بين الأقطار العربية حرية الهواء في التنقل في أجواء الفضاء .
* أليس هناك دور ما للإذاعة المسموعة ، والإذاعة المرئية ، في هذا الصدد؟
ـ يمكن أن تساهم في عملية توحد الثقافة بإذاعة برامج على النطاق العربي عن طريق الأقمار الاصطناعية والبث المشترك ، وليس ذلك عسيراً بعد المخترعات والاكتشافات الحديثة .
وهكذا يطلع الإنسان العربي في كل مكان على ما تنتجه المطابع وما تبدعه القرائح والعقول في كل قطر عربي ، فتتقارب العقول والقلوب .
* أعتقد أنّ تقدم وسائل الاتصال أدى ، رغم كل شيء ، إلى سهولة حركة الفكر العربي عبر مختلف أوطاننا العربية .
ـ أذكر أننا في الثلاثينات والأربعينات كنا نقرأ في بعض المجلات العربية التي تضم أدب أكثر الأقطار العربية كمجلة ” الرسالة ” في القاهرة ومجلة “الحديث ” في حلب ، أما الآن وبعد التشرذم ، في الدول العربية ، فقد أصبحنا غير قادرين حتى على الإطلاع على الفكر والأدب في الأقطار العربية المجاورة لنا .
إنّ هذا التشرذم وذلك التمزق ، لا يساعدان في توحيد الثقافة في الوطن العربي ، بل يساعدان في زيادة تمزقها وتبعثرها ، ونحن نتساءل الآن في جدية وعزم : إلى متى يستمر هذا التمزق ؟ أما آن لنا بعد كل هذه الكوارث والنكبات التي حلت بنا أن نميز بين الشعوب ومصالحها وبين الحكام ومصالحهم ؟
أذكر أنّ صاحب دار نشر في بلد عربي ، زارني في طلب مخطوطات للنشر ، ولما عرضت عليه مخطوطات تتناول آداب شرقي آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية أنكر اهتمامه بهذه الآداب ، وطالب بمخطوطات تتناول الأدب الفرنسي أو الإنكليزي أو الأميركي أو الألماني على أبعد تقدير .
لقد زال إلى حد بعيد كابوس الاستعمار السياسي المباشر عن كثير من البلاد العربية ، ولكن كابوس الاستعمار الفكري والثقافي ما يزال مستمراً ، بل هو يزداد عنفاً وحِدة في بعض هذه البلاد .
وأسارع إلى القول مستدركاً : إنّ هذه الاختلافات الموجودة شكلية بالدرجة الأولى وليست اختلافات حقيقية عميقة ـ كما يبدو لنا الآن ـ ذلك لأنّ المصادر الأساسية للثقافة العربية واحدة دائمة لا تتأثر بالاختلافات الظاهرية . كما لا يتأثر البحر بالأمواج المتلاطمة على سطحه .
* أين تقع آدابنا بين الآداب العالمية المعاصرة . هل يمكن مقارنتها بتلك الآداب وليدة نضال الشعوب كالأدب الصيني أو الفيتنامي ؟
ـ لكل شعوب العالم ثقافاتها وآدابها المتميزة ، تستوي في ذلك الشعوب الكبيرة والشعوب الصغيرة، الشعوب القوية والشعوب المستضعفة ، وهي في آدابها تعبر به عن حياتها وتطلعاتها وآمالها وآلامها .
في المحاضرة التي ألقيتها عن السياسي والمفكر والأديب والشاعر الفيتنامي ” نغوين تري ” قلت أنّه كما تنتصب الجبال شامخة ، وتجري الأنهار دافقة ، وتنبت الأشجار سامقة ، وتتفتح الأزهار يانعة ، في بقاع أرضنا الطيبة ، كذلك ينتصب الأبطال وينبت الفلاسفة والكتاب والشعراء في شعوب هذه الأرض .
لكل شعب أبطاله وفلاسفته وشعراؤه ، يتساوى في ذلك الشعب الكبير والشعب الصغير .
والأدب الذي تبدعه هذه الشعوب لا يتعلق ما فيه من إبداع وجمال بوفرة عددها وسعة أراضيها ، فكم رأينا من شعب كثير العدد أنتج أدباً متواضعاً ، وكم رأينا من شعب قليل العدد أنتج أدباً راقياً . وأدبنا العربي مثله مثل آداب الشعوب ، كان تعبيراً عن حياتنا وآلامنا إلى حد بعيد ، وهو يحتل مكانه المتميز بين آداب الشعوب .
لست أريد التبجح والمغالاة ، فأدبنا القديم أدب رفيع المستوى وشعرنا العربي لا يكاد يعادله شعر ، أما أدبنا الحديث فيشق طريقه قدماً ليحتل مكانته بين آداب الأمم ، وشعرنا الحديث ، رغم ما تنتابه من صراعات ، يكاد يبلغ المستوى اللائق في الشعر العالمي .
ولا شك أن لكل أدب ميزاته الخاصة ونكهته الذاتية ، و لا يجوز ، في أية حال ، أن نقيس آداب الأمم بمقياس واحد لأنّ لكل أمة ظروفها .
فالأدب الفيتنامي يتميز إلى حد بعيد بروح البطولة والنضال وطلب الحرية ، ولعل هذا ما دعاني إلى ترجمته في أربعة مجلدات تبلغ حوالي 3000 صفحة ليكون درساً لنا نحن أبناء الأمة العربية على العموم ، وأبناء فلسطين على الخصوص في نضالنا ضد الاستعمار والصهيونية ، ولست أغالي إن قلت : إني قلّ أن وجدت له نظيراً في سائر آداب العالم .
ويتميز الأدب الصيني ، وقد ترجمت قسماً غير قليل منه في مجلدين ، بروحه الإنسانية وشفافيته وعمقه في آن واحد ..
* وماذا عن أدبنا العربي الحديث ؟
ـ أيضاً يتميز أدبنا العربي الحديث بروحه النضالية وحبه للحرية ، ولا سيما بعد كارثة فلسطين ، وهو يجاهد للوصول إلى المستوى العالمي ، وليس بعيداً أن يصل إلى هذا المستوى في وقت قريب .
لكن وضع الأمة العربية المتخلف وتمزقها الذميم يحولان ، حتى الآن ، دون تبوء الأدب العربي مكانته اللائقة بين آداب الأمم .
إنّ الأدب ، شأنه شأن سائر وجوه الحياة ، يتأثر إلى حد بعيد بالسياسة ، ونفوذ الدول ، والهيمنة على شؤون العالم .
وحجب جائزة ” نوبل ” في الآداب عن الوطن العربي ، حتى الآن ، ظاهرة واضحة لتأثير السياسة في الأدب وفي منح جوائزه ، ومنح هذه الجائزة مناصفة بين ” أنور السادات ” الذي خان أمته العربية وشعبه المصري ، وبين “بيغن” جزار فلسطين ومجرم الحرب دليل آخر على تأثر العلم والأدب بالسياسة . وأعتقد أنّ الأمة العربية حين تتخلص من تخلفها وتمزقها وتبني كيانها القومي قادرة على أن تعطي أدبها دفعة رائعة ليصبح أدباً عالمياً .
* هل يمكن أن نقارن تطور لغة الأدب العربي ، في أواخر القرن التاسع عشر ، ثم طوال القرن العشرين ، والذي كانت وسائل التوصل الحديثة مثل الصحافة ، من أهم عوامله ، بتطور اللغة العربية في القرن الرابع وأوائل الخامس الهجري ؟
ـ اللغة كائن حي متطور مثل سائر الكائنات الحية ، لقد شهدت لغتنا العربية تطورها الأول عند بداية الرسالة المحمدية العظيمة ، واستمرت في التطور في العهد الأموي حين دونت الدواوين ، وفي العصر العباسي حين ترجمت الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية ، وفي القرن الرابع والخامس الهجريين، في هذا العصر العباسي نفسه حين هضمت تلك الفلسفات وشرعت تعطي عطاءها الذاتي ، وما تزال اللغة العربية تتطور بتطور الحياة متأثرة بوسائل التوصيل الحديثة .
ولا بد من ذكر ملاحظة في هذا المجال ، هي أنّ القرآن الكريم يضع ضوابط لهذا التطور ، حتى لا تضيع اللغة العربية ، كما ضاعت اللغتان اليونانية والرومانية . إنّه هو الذي حال دون تبددها وضياعها خلال الغزوات والنكبات المخيفة التي هزت العالم العربي طوال قرون . إنّه هو الذي يمسك بها ويحرسها . وأقرب مثال لنا في حراسته لها والإمساك بها ما حدث في الجزائر حين تكالبت على لغتنا كلاب الاستعمار.
أنا مع اللغة العربية أولاً ، ومع تطورها الدائب ثانياً ، شريطة أن تبقى لغة عربية ، وألا تمزق إلى لهجات عامية محلية ، كما يحاول الاستعمار وأعوانه أن يفعلوا .
صراع حضاري
* لك رأي خاص في الصراع العربي ـ ” الإسرائيلي ” يتلخص في أنّه صراع حضاري ، بأي مستوى يمكن الحكم على الصهاينة بأنّهم متحضرون بعد سلوكهم في لبنان .. خاصة بعد مذابح صبرا وشاتيلا ؟
ـ أرجو ان لا نقع في حلبة ” المزايدة ” في هذا الموضوع على حساب مستقبل أمتنا العربية .
أذكر أني قلت أنّ الصراع العربي ـ ” الإسرائيلي ” صراع حضاري عام 1943 أو حوله ، عندما كنت في زيارة رفاقي في مدينة من مدن فلسطين لا ضرورة لذكر اسمها ، هناك شهدت مظاهرة قامت احتجاجاً على رغبة الحكومة البريطانية آنذاك في إدخال الكهرباء إلى المدينة ، ورأيت عجوزاً يقف على الأنقاض، فسألته عن سبب المظاهرة ، فقص عليّ السبب ، فقلت له في دهشة : وما ضرر الكهرباء ؟ قال بالحرف الواحد : ” سيدخلون الكهرباء أولاً ، ثم يقيمون دوراً للسينما ثانياً ، ثم يدخل إليها الرجال ثم النساء ، ثم الرجال والنساء ، فماذا يحدث لدين محمد ؟ وشعرت ألاّ فائدة في الحديث مع هذا الرجل العجوز المتحجر . وفي اليوم الثاني ذهبت مع رفاقي إلى مستعمرة يهودية فوجدت الأبقار تحلب بالكهرباء . وعندما اجتمعت برفاقي ليلاً ، وكانوا أكثر من سبعين فلسطينياً عربياً ، قلت لهم بالحرف الواحد : إنّ نتيجة صراعكم مع اليهود معروفة . إنّ حضارة القرن الثاني لا تقاوم حضارة القرن العشرين بل الواحد والعشرين .
وقد نشرت تلك الواقعة في مقال في الخمسينات تحت عنوان ” أعداء ألداء للماء والكهرباء ” ولا من يسمع ولا من يتعظ .
أما فيما يتعلق بالحكم على الصهاينة بعد مذابح صبرا وشاتيلا فما يزال على ما كان . أغلب الدول المتحضرة تمارس الحرية والديموقراطية في بلادها إلى حد بعيد أو قريب وتمارس الوحشية والهمجية في مستعمراتها إلى حد بعيد لا يمكن تصوره . و ” إسرائيل ” في ممارساتها في لبنان وفلسطين اتبعت الأسلوب نفسه . وذنبها في الجرائم التي ارتكبتها في لبنان تتحمله الحكومات العربية معها ، فقد وقفت هذه الدول أو أكثرها موقف المتفرج من هذه المذابح وتركت الفدائيين الفلسطينيين وحدهم يذبحون ويقتلون ، ويقتلون ويذبحون . ليس الجزار وحده مجرماً ولكن المجرم أيضاً هو من يدفع الضحية إلى مد عنقها ليذبحها الجزار.
أعود فأقول : أرجو أن لا نقع في حلبة ” المزايدة ” في هذا الموضوع على حساب أمتنا العربية ومستقبلها .
* ما توقعك لنتيجة الصراع العربي ـ الصهيوني بناء على تقديرك لجملة العوامل الثقافية والحضارية السائدة بين طرفي الصراع ؟
ـ هذا سؤال خطير وخطر ، لا أدري إلى أين تصل نتائج الإجابة عليه بمجلة عربية قادرة على نشره وعلى تحمل نتائجه ؟ أما من جهتي فلن أكون محابياً ولا مدلساً . مهما كانت النتائج لقد بلغت من العمر عتيا .. بلغت ستاً وستين عاماً . وقمت سلفاً برثاء نفسي في قصيدتي ” عبد المعين الملوحي يرثي نفسه ” .
مقارنة خطيرة .. وظاهرتان صحيتان :
* بالتأكيد هناك ، بين المحيط والخليج ، صفحة بيضاء يمكن أن ننشر بها ما نعتقد .
ـ سيستمر التفوق الصهيوني على العرب ، أمداً لا أستطيع تحديده في الزمان ، وإن كنت أستطيع تحديده في الأسباب ، وسيستمر احتلال الصهاينة لأجزاء أخرى من الوطن العربي ، ما دامت أسباب هذا التفوق قائمة ، ما دامت الأمة العربية ممزقة متفرقة ، يحارب بعضها بعضاً حرباً حقيقية بالحديد والنار أو حرباً كلامية ونفسية بالإذاعات والخطابات .
ما دامت الجيوش العربية تهمها حراسة الأنظمة ، وحماية الحكام لا حماية الأمة العربية وتحرير فلسطين .
مادام بعض الحكام العرب يسلمون بلادهم لحماية “إسرائيل ” ويضعونها تحت تصرفها ، ويخرجونها من جبهة التحرير كما فعل السادات في إخراج مصر وجيشها ، مؤقتاً ، من ميدان النضال .
ما دام بعض العرب يقاتلون الأصدقاء ويتركون الأعداء ويخرجون جيشاً ثانياً باسلاً من المعركة .
ما دام بعض الحكام العرب ما يزالون يرون في الولايات المتحدة حامية لهم أولاً ، ومنقذة لهم من أنياب “إسرائيل” ثانياً .
مادامت الشعوب العربية لغواً لا تشترك في تقرير مصيرها ، متخلفة يفتك بها الجهل والمرض والجوع .
لنقم معاً بإحصائية بسيطة :
ـ ما عدد العرب الذين قتلهم العرب ؟
ـ ما عدد الفلسطينيين الذين قتلهم العرب ؟
ـ ما عدد الفلسطينيين الذين قتلهم الفلسطينيون ؟
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى :
ـ ما عدد العرب الذين قتلهم اليهود ؟
ـ ما عدد الفلسطينيين الذين قتلهم اليهود ؟
هاتات الإحصائيتان وحدهما تنطقان بنتيجة الصراع مادامت هذه الأسباب قائمة .
ولكني غير متشائم ..
تبدو في الوطن العربي علامات صحو مميزة تعيد إلينا ثقتنا بأنفسنا ، وفي مقدمة هذه العلامات ثورة الجزائر ، التي انتصرت على فرنسا بعد احتلال استمر أكثر من مئة وثلاثين سنة .
والعلامة الثانية الهامة هي ظهور حركة التحرير الفلسطينية كقوة عسكرية ضاربة ، رغم ما تعانيه الآن ، ويا للأسف ، من صراعات .
هاتان الظاهرتان الصحيتان سوف تتلوهما ظواهر صحية أخرى تعم الوطن العربي كله . لا شك أنّ المخاض .. مخاض الأمة العربية عسير وطويل ، ولكن الولادة آتية دون شك ، ونرجو أن تكون الولادة سليمة على قدر ما كان المخاض عسيراً ، وعندئذ ستحل ساعة حساب ” إسرائيل ” على كل ما ارتكبت من جرائم .
لن تبقى ” إسرائيل ” ورماً خطيراً في جسد الأمة العربية ، ولسوف تباد كما بادت جحافل التتار والصليبيين ذات يوم ، أرجو ألاّ يكون بعيداً .
لقيت في زيارتي للقاهرة عام 1970 سائق سيارة لم أجد مثله في ذكائه وتقديره للأمور . كانت ” إسرائيل ” قد أنزلت قواتها في مطار بيروت ونسفت بضع طائرات لبنانية وعادت قواتها إلى قواعدها سالمة .. لم تطلق عليها رصاصة واحدة، سألني السائق في جد :
ـ ما عدد سكان لبنان ؟
ـ ثلاثة ملايين.
ـ وما عدد سكان ” إسرائيل ” ؟
ـ ثلاثة ملايين .
قال وهو يتنهد :
ـ من المفروض أن يستطيع لبنان وحده الانتصار على ” إسرائيل ” وهو في مثل عددها ، بل من المفروض أن تنتصر كل دولة عربية على “إسرائيل” وحدها .
وسكت ولم أجد رداً .
والمتابع للأحداث اللبنانية خلال السنوات الأخيرة يعرف أنّ الضحايا في لبنان بلغ 60 ـ 70 ألف ضحية ، وما يزال الرقم في ازدياد ، ولو أنّ هذه الضحايا قدمت في حرب على ” إسرائيل” ولم تقدم في قتل العرب للعرب ، في حرب لبنان لانتهت أسطورة “إسرائيل “بكل ما فيها من كوابيس وكوارث ، ولكن بأسنا بيننا شديد، وبأسنا على أعدائنا لا يتعدى حدود التهديد والوعيد .
والمتابع للحرب العراقية ـ الإيرانية يلمس لمس اليد نتائج الحرب القذرة على إيران والعراق في وقت واحد ، ولو أنّ الجيش العراقي الباسل أبدى فنونه في الشجاعة والقتال الضاري ، في حرب “إسرائيل” ما أبداه في حربه لإيران لانتهت أسطورة “إسرائيل”
إنّ داء الأمة العربية معروف جداً ، وما علينا إلاّ أن نقدم الدواء الشافي .
إنّ الدعامة الأولى التي تبنى عليها “إسرائيل” سياستها العدوانية ـ كما صرح كبار قادتها ـ هي تمزق الأمة العربية والخلافات بين دولها ، فمتى تنهار هذه الدعامة بوحدة الأمة العربية واتفاق دولها ؟!
معرفة العدو شرط لقهره
* ألا يساعدنا تحليل ودراسة الأدب ومختلف الفنون الصهيونية على فهم تركيبة هذا الكيان المعادي؟
ـ بدأت في الآونة الأخيرة مرحلة الاهتمام بأدب “إسرائيل” وفنونها وتكوينها السياسي وأحزابها والتيارات الاجتماعية فيها .
وقد ظهرت دراسات جيدة موضوعية ، في “مركز الأبحاث الفلسطيني” التي سرقت “إسرائيل” كتبه ووثائقه . وكان الخطأ خطأنا لأننا لم ننقل هذه المصادر والوثائق قبل رحيل المحاربين بالبندقية ، لأننا بتلك الوثائق والمصادر كنا نحارب بالكلمة . قال لي أحد الأصدقاء أنّ ” إسرائيل” تحتفظ في خزائنها بإضبارة كاملة للكتاب والشعراء العرب ، ومن واجبنا أن نفعل نحن ذلك .
إنّ معرفة العدو تزيد من قدرتنا في التغلب عليه ، على شرط أن لا نكتفي بالمعرفة .
* إلى أي مرحلة ، في تصورك ، وصل الغزو الثقافي الصهيوني للعقل العربي . كيف نصد هذا الغزو على مستوى الدول ، وعلى مستوى الأمة العربية ؟
ـ لا غزو ولا تأثير للثقافة الصهيونية في العقل العربي ، إنّها ثقافة غريبة عنا ، وصدها ، إذا غزت بعض العقول ، في بعض الدول العربية ، هو في تعزيز ثقافتنا ورفع مستواها .
لا يستطيع الطحلب أن يعيش في الصحراء المحرقة .
* قد يسأل القارئ : ماذا قدمت للمكتبة العربية ؟ وهو محق لصعوبة انتقال الكتاب من دولة لأخرى في وطننا العربي ..
ـ قدمت حتى الآن خمسين كتاباً للمكتبة العربية ، تدور حول محاور كثيرة أهمها : التراث العربي ـ الأدب الذاتي ـ الشعر ( عشرون ديواناً ) ـ الترجمات ـ البحث والتأليف .
وعندي الآن في مكتبتي 200 كتاب آمل أن أراها ، رغم سني ، مطبوعة في حياتي . ما أزال أريد أن أعيش وأن أكتب وأن اقدم شيئاً من دم قلبي إلى أمتي .
أرأيت أن الشيوخ مايزالون يحبون الحياة والعمل ؟!