إعلان مجاني

لم أعش طويلا حتى أدرك كيف عشت؟ ولماذا أموت؟

أنا في الخامسة والعشرين من عمري، ولم افهم حتى الآن معنى الحياة، فكيف أفهم معنى الموت؟ الأمور تجري في وضوح عجيب: كأني أحدق في بقعة من حائط تضيئها شمس الظهيرة… ليس في عروقي دم… كل ما تعطيه الزجاجة من دم أرده فوراً أو أرد أكثر منه… فأغرق في دمي… كان أعضاء متناثرة… كان ذكراً… رأيته ولمسته… أخرجوه من غرفتي…. ألقوه في القمامة، أو في مرحاض المستشفى… وهانذا أسير وراءه… دمي يفر مني فراراً إنه يتقاطر حزناً عليه. الممرضات يكتمن عني أخباري، والطبيب يضحك علي: غداً أو بعد غد تغادرين المستشفى… وأنا أعي كل شيء… عبثاً تقول للميت أنه سوف يعيش، فهو أكثر إحساساً منك بأنه سوف يموت…الكأس تفرغ من الماء والجسد يفرغ من الدم… لعل الطبيب أديب، يقول لي غدا أو بعد غد سأغادر المستشفى… لقد تعلمت ذات يوم أن في مثل هذا الكلام نوعاً من البديع يسمى (التورية) سأغادر المستشفى، ذلك صحيح، ولكنه لم يقل إلى أين؟… لقد ترك المقبرة أو البيت وراء حجاب… بل لعل ذلك ما يسمى (أسلوب الحكيم) أرجو ألا يغضب أستاذ العربية من جهلي… رآني منذ أيام: كنت حبلى… وعرف أني حبلى…. استقرت عيناه قليلاً على بطني… ثم التفت مذعوراً… ولم يقل لي شيئاً…. ومد إلي يده كما يمدها إلى قديس… كما كان يمدها لي حين كنت طفلة في المدرسة:

–             أنت هنا منذ سنة ولم تزرنا في البيت أنا مشتاقة إليك…

–             … حافظي على صحتك..سأزورك عما قريب…

كانت أني مريضة… واضطررت إلى (الشغل) كثيراً

لم يفهم…. بل فهم…. وقال:

–             الشغل لا ينتهي… صحتك الزم…. مع السلامة.

ومر كأنه لا يعلم… ما أحلى أيام المدرسة يوم كنت تلميذته النجيبة… إني مشتاقة إليه… أريد أن يضم يدي الباردتين مثل صقيع الشتاء بين يديه الدافئتين مثل الرغيف الذي كانت تخرجه أمي من التنور.

كانت لنا ضيعة… وكنا سعداء… وكنا فلاحين… بعنا كل ما نملك ونزلنا إلى مدينة كبيرة… ثم غادرنا المدينة الكبيرة إلى مدينة أكبر… إلى العاصمة… ونحن هنا منذ خمس سنين….

بحثت أولا عن عمل فوجدت عملا يكاد يسد رمق الأسرة… وزاد المصروف، وتصاعد مستوى المعيشة…. ومرضت العجوز وظلت تحن إلى قريتها… وبدأت الغربان تنعق في بيتي، والذؤبان تزور غرفتي…. وسقطت…. لست نادمة على شيء…وأنا أموت في خدر عميق…. كأني أنام….

لقد أجهضت مرات… ثمرات غير ناضجات تساقطت واحدة بعد واحدة… ماذا تصنع الفتاة الصبية القروية في المدينة الكبيرة… لقد بهرت عينيها أنوار (النيون) بدل نور الشمس واستعاضت عن غذاء الروح بغذاء الجسد، واستبدلت بامتلاء القلب امتلاء البطن… النوم يسرع إلى… من أين تأتي والدتي بأكفاني ونفقات دفني…؟ ما أظن أن واحدا ممن كانوا يشترونني، وأنا صبية جميلة حية، يشتريني، وأنا دمية جميلة ميتة، بقرش واحد.

بعد أيام نشرت إحدى الصحف الإعلان الآتي ضمن إطار:

(ماتت مأسوفا على شبابها الريان الآنسة غادة….

فلأهلها الصبر ولها الرحمة)

ولا ندري حتى الآن من هو صاحب هذا الإعلان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *