مبادئ للثوار

عاش برناردشو حياة فقيرة وبائسة أيام شبابه وعندما أصبح غنياً لم يكن بحاجة لتلك الجائزة التي تُمنح أحياناً لمن لا يستحقها.. ولأن حياته كانت في بدايتها نضالاً ضد الفقر، فقد جعل من مكافحة الفقر هدفاً رئيسياً لكل ما يكتب وكان يرى أن الفقر مصدر لكل الآثام والشرور كالسرقة والإدمان والانحراف، وأن الفقر معناه الضّعف والجهل والمرض والقمع والنفاق.

للتحميل والقراءة انقر هنا 

احياء كتاب حدائق الرند

ترجمة: (ترجيع بند) للشاعر التركي رضا باشا

عربها شعراً أثر العبد الفقير محمد بشير الحلبي المعروف بالغزي

نشرتها: المطبعة الحلبية في حلب دون ذكر التاريخ

 

هذا ديوان شعر نفيس عثرت عليه في مكتبة والدي ـ رحمه الله ـ فوجدته ديوان شعر ممتاز، وها أنذا أقدمه للقارىء العربي.

لم تذكر المطبعة التي طبعت الديوان تاريخ طباعته، ولكني أعتقد أنه من مطبوعات أوائل القرن العشرين.

أما مترجمه إلى اللغة العربية شعراً فهو الشاعر محمد بشير الغزي، فمن هو؟

 

محمد بشير الغزي:

جاء في الأعلام 6: 278 مايلي:

الشيخ محمد بشير الغزي (1274-1339هـ، 1857-1921م)، محمد بشير بن محمد هلال بن محمد الألاجاني ـ المعروف بالغزي: قاض، من أعيان حلب، مولده ووفاته فيها، كان نائباً عنها في مجلس النواب العثماني أيام الترك. ثم قاضياً لها بعد خروجهم من بلاد الشام، وكان آية في الحفظ. من محفوظاته أمالي القالي والكامل للمبرد، ابتدأ حياته بالتدريس في مساجد حلب، ولم يكن من (آل الغزي) وإنما رباه أخوه لأمه الشيخ كامل الغزي فنسب إليهم. له رسالة «في التجويد ـ ط» و«نظم الشمسية ـ ط» في لمنطق و«تفسير ـ خ» مختصر قال من رآه يمكن طبعه على هامش المصحف، و«حدائق الرند في ترجمة ترجيع بند ـ ط» منظومة في الحكم والأمثال، ترجمها عن التركية.

وفي الهامش: له ترجمة في أعلام النبلاء 7: 623 وأدباء حلب 50.

وهذه ترجمة أكثر تفصيلاً لمترجم الديوان:

الشيخ بشير الغزي([2]) (1857-1921م)

 

 

 

علم من أعلام اللغة والأدب:

ليست ثقافته الأدبية واللغوية دون ثقافة الشنقيطي أو المرصفي أو غيرهما من أعلام اللغة الذين استفاضت شهرتهم في القرن التاسع عشر…

وعلى صدره أسرار العربية فكان حجة يرجع إليه في علومها، فإذا أخذ في تفسير آية من آيات الكتاب الحكيم، أو قصيدة لشاعر جاهلي أو غيره من فحول شعراء العربية رأيته بحراً زاخراً في الشرح والاستطراد والتفسير.

يصفه أخوه الشيخ كامل الغزي صاحب «نهر الذهب في تاريخ حلب» بقوله: عرف منذ صغره بالذكاء وسرعة البديهة، وقد حفظ ألفية ابن مالك، وهو في الثالثة عشرة من عمره، في عشرين يوماً، كما حفظ في بدء نشأته جملة وافرة في أشعار العرب ونبذاً كثيرة من مختارات الأدب…

وكان محصوله من العلوم: التفسير والحديث، علمي الفرائض والعروض والمنطق وأدب البحث والمناظرة ومصطلح الحديث، وهي العلوم التي كانت تدرس في المدارس الدينية، وقد ألم إلماماً واسعاً بالعلوم الحديثة، فدرس الفلسفة والطبيعيات وعلم الهيئة والفلك.

وبعد أن أكمل ثقافته الدينية والأدبية، انصرف انصرافاً كلياً إلى اللغة وكتب الأدب، ووصل به تعمقه إلى حفظ أكثر من كتاب واحد ـ حفظ أكثر النصوص، فكان يملي من حفظه كتاب «الأغاني» وشرح ديوان الحماسة وآمالي القالي، وكامل المبرد، ومختارات الشعراء الثلاثة: الطائي والبحتري والمتنبي وشعر أبي العلاء في سقط الزند واللزوميات..

وكان المعري من الشعراء المفضلين عنده. ولفرط حبه له آمن بمذهبه فلم يتزوج، وكلما عرض عليه أخوه وأصدقاؤه فكرة الزواج، كان ينشد قوله:

وما الدهر أهل أن يؤمل عنده                                    حياة.. وأن يشتاق فيه إلى النسل

ثم يتبع هذا البيت بأبيات كثيرة في هذا المعنى من اللزوميات.

وقد انقطع إلى الدرس فظل حتى الخمسين من عمره مجاوراً في المدرسة الرضائية لا يشغل نفسه إلا بطلب العلم والتبحر في فنونه، فلما ذاع فضله واشتهر، توجهت الأنظار إليه للإفادة من فضله وعلمه فانتخب نائباً عن حلب في مجلس المبعوثين ـ مجلس النواب ـ وشغل عدة وظائف في القضاء المدني والشرعي إلى أن عين في أخريات أيامه قاضي قضاة حلب…

ورائعته الشهيرة أرجوزة «حدائق الرند».

فقد ترجم عن التركية قصيدة المرحوم ضيا باشا الفيلسوف التركي الشهير الموسومة بـ «ترجيح بند»، وقد أجاد في ترجمتها وأبدع حتى جاءت كأنها عربية الأصل. وقد لا تقل في سبكها عن مقصورة ابن دريد، وحين ذاعت منع تداولها في عهد السلطان عبد الحميد لأنها تضمنت البيتين الآتين:

ظلم القوي للضعيف جار
كأنه لم يكفنا الأهوال
في الأرض والهواء والبحار
حتى تولى حكمنا الجهال

وصفه قسطاكي الحمصي بقوله:

«طود علم ووقار، وقطب أهل العلم في هذه الأقطار، كان متبحراً في علمي اللغة والأدب، يحفظ ويروي من نوادرهما ما يورث العجب، وكان إماماً في علوم الفقه والحديث والمنطق، فصيح العبارة بليغها، رخيم الصوت، يرتل القرآن ترتفع له حجب الأسماع»([3]).

الشاعر التركي ضيا باشا([4])

أما الشاعر التركي ضيا باشا، صاحب قصيدة «ترجيع بند» التي ترجمها الشيخ بشير الغزي الحلبي باسم «حدائق الرند» فنجد سيرته في دائرة المعارف الإسلامية وجاء فيها في اختصار:

ضيا كوك آلب (محمد ضيا بك):

مؤلف وشاعر وعالم اجتماعي وزعيم قومي تركي، ولد في ديار بكر سنة (1875) من أسرة من موظفي الحكومة العثمانية، والتحق بمدرسة الطب البيطري في الآستانة، على أنه تورط بسبب علاقته باللجنة الثورية على مغادرة قصبة البلاد والعودة إلى ولايته، ثم ظهر بعد ثورة 1908 بين أعضاء لجنة الاتحاد والترقي واشترك في مؤتمر سالونيك (1909) وشرع ينشر مبادئه الاجتماعية.. وقد شغل منذ سنة 1912 كرسي علم الاجتماع في جامع الآستانة وكان من مؤيدي أنور باشا خلال الحرب الأوربية ونفي إلى مالطة أثناء احتلال الحلفاء للأستانة.

وعاد في ربيع سنة 1921 إلى الأناضول.. ثم عين رئيساً للجنة «الترجمة والتأليف» في أنقرة، وكان من دعاة حزب الشعب وأنصاره الذي ألفه مصطفى كمال باشا.

واستأنف التدريس في جامعة الاستانة، وفي الآستانة توفي وهو لا يزال في مقتبل العمر في الخامس والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1924.

 

وصف الديوان:

يقع الديون في اثنتي عشرة صفحة مقسمة إلى اثني عشر مقطعاً مختلفة عدد الأبيات، ويختتم الشاعر كل مقطع ببيت يلتزمه الشاعران في آخر كل مقطع، وهو:

سبحان من قد حير العقولا                                       بصنعه وأعجز الفحولا

وفي الديوان العربي، أبيات أخرى مكسورة فتركتها كما وردت حرصاً على الأصل.

وقدم للديوان محمد خير عقيل، وهذه مقاطع من المقدمة ص 2:

«وبعد فلما كانت المنظومة المسماة (ترجيع بند) والتي عبر عنها مترجمها الأستاذ العلامة الشيخ بشير أفندي المعروف بالغزي (بحدائق الرند) أي جنات الزهور قد نفدت بعد الطبع ولم يبق منها إلا النزر اليسير، وكان الأصل فيها إلى الشاعر التركي (ضيا باشا) وحولها نظماً المرحوم الأستاذ المشار إليه من التركية والفارسية إلى العربية نظماً بديلاً فائقاً مع تمام المطابقة والمحافظة على الأصلية التي جمعت كافة ضروب البلاغة والأمثال الحكمية».

إذن فالنسخة التي بيد أيدينا ليست من الطبعة الأولى وإنما هي من الطبعة الثانية، وما ندري كذلك تاريخ الطبعة الأولى كما لا ندري تاريخ الطبعة الثانية، وعسى أن نجد من يحدد أو ما يحدد تاريخ الطبعتين. ولكنهما حتماً في أوائل القرن العشرين.

أما تاريخ ترجمة الديوان فواضح في الصفحة الأولى منه وقد ورد فيها: «قد تم تعريبها غرة ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة([5]). في عصر مليكنا أمير المؤمنين.. السلطان الغازي عبد الحميد خان..

 

موضوع الديوان:

موضوع الديوان ديني اجتماعي، فهو يدعو للتفكير في صنع الله، في السماء والنجوم والأرض، وفي مخلوقاته من إنسان وحيوان، وفي الحياة والمجتمع وما فيهما من تناقضات ثم يثير تساؤلات لا جواب لها إلا السكوت عنها.

 

أسلوب الديوان:

الواقع أن الشاعر الغزي قد استطاع في ترجمته الشعرية لديوان الشاعر (ضيا) التركي (ترجيع بند) وهو باللغة التركية والفارسية الوصول إلى أمرين:

  • 1- أولهما: نقل أفكار الشاعر وفلسفته وحيرته في وفاء أمانة.
  • 2- وثانيهما: أن هذا النقل تم في أسلوب عربي رصين، دون زيادة مملة، ولا اختصار مخل، وتكاد تظن أن هذا الديوان من الشعر العربي الأصيل وأنه غير مترجم عن التركية لشاعر تركي، وهذه المرحلة هي أقصى ما يستطيع بلوغه المترجم الناجح الممتاز.

وأظن أن هذا الأسلوب المتين يدعونا إلى إعادة النظر في أسلوب الشعراء في أوائل القرن العشرين.

الألفاظ:

كل الألفاظ في الديوان مفهومة معروفة، ولكن الشاعر العربي اضطر إلى اللجوء إلى ألفاظ من القاموس لتتمشى مع ألفاظ الشاعر التركي في دلالتها ولا سيما في المقطع الرابع الذي يعدد فيه سلسلة عدوان الأقوياء على الضعفاء فاضطر إلى استعمال ألفاظ البغاث والرهام والأجدل والقرلى وثعالة.. ذلك أن الشاعر التركي جاء بها أو بنظائرها في التركية.

 

الإعراب:

تقيد الشاعر في الديوان بإعرابه تقيداً تاماً وزاد على ذلك فقام بشكل الكلمات شكلاً صحيحاً إلى حد بعيد.

 

الأوزان:

لزم الشاعر بحراً واحداً، وقد اختل هذا البحر في بعض الأحيان، كما لزم الأبيات المزدوجة التي يتفق صدرها وعجزها في قافيتهما وقد ساعده ذلك الازدواج على حسن التصرف في القافية الواحدة، كما ساعده على أداء المعاني دون زيادة ولا نقصان.

 

الخلاصة:

الحق أننا أمام ديوان ممتاز فكراً وأسلوباً وحق ديوان «حدائق الرند» رغم عدم شهرته أن يحتل مكانة بارزة في مقدمة دواوين الشعر المترجم.

رحم الله الشاعرين التركي والعربي.

دمشق في

15/06/2001

عبد المعين الملوحي

لتحميل الملف انقر هنا

حب الوطن

حب الوطن

الشاعر الفرنسي: شارل مارس

ترجمة: عبد المعين الملوحي

تمهيـد

(شارل دوبزانسكي) هو الاسم المستعار لـ (شارل مارس) شاعر فرنسي معاصر، كان من شعراء المجلة الفرنسية اليسارية «الأخبار الأدبية»، أُعجب (آراغون) بشعره وكتب عنه مقالاً طويلاً في المجلة نفسها عنوانه: «إخوتنا الصغار».

وهو في القصيدة يعبر تعبيراً صادقاً وواقعياً وعميقاً عن حبه لوطنه فرنسا، ويتذكر في الوقت نفسه ما حل بهذا الوطن خلال احتلال الجيوش الغازية له. وكتب القصيدة عام 1952 ونشرتها دار نشر سيجوس ـ باريس عام 1953.

ومع العلم أن هذه القصيدة الرائعة تنشر لأول مرة باللغة العربية.

دمشق 06/06/1999

عبد المعين الملوحي

نص الرسالة التي بعثها

آراغون للشاعر شارل مارس

لم أنقل خطاً واحداً من قصيدة «حب الوطن» التي ظهرت للشاعر في مجلة «أوربا» إنها حسب التعبير الشامل من روائعه، لقد قرأتها في شكلها الأول، وقرأتها في شكلها الأخير فسحرني ما فيها من عمل وجهد، إن شارل مارس يعرف كيف يعمل، ويعلم ما جائزة من لا يرضى بالقليل ولا يقنع.

لقد وجدت في عملك فجر أخلاقك، فتحيتي إليك يا أخي الصغير.

آراغون

 

حب الوطن

إلى لويس آراغون

آه! نشيدي يتفتح على رنات جديدة

تدنو فتجثم فيه ذكريات مظلمة بعيدة

كأنها شهب زرقاء سقطت في تجاويف الكلمات

أصواتاً متكلسة لموتى ألقوا بهم في مفترق الطرقات.

أصواتاً فقيرة لجداول وحقائق ثائرة

يغترف منها وطني من حوض القوافي

ليت نشيدي يتفتح حيث تبدأ أرضي

ليته يزرع لغتي ويلونها

ليت غضبه يكون أكثر عناصري إشراقاً

* * *

آه! كنت أتمتم في رفق كلمات الحب والهذيان

وأنا أقطف ارتعاشات نشيدي وأنتشي بجسده

يا وطني، يا أرضي المتفتحة في دمي كما يتفتح كتاب

يا وطني الغاطس في الأرض، المجبول باللحم

لحم كل أولئك الذين يريدون أن تكون حراً

كل أولئك الذي يهبون لسمائك عيونهم

لتكون أكثر زرقه.

كل أولئك الذين يكسون جذوعهم العارية بالمستقبل

لكي يتنفس وطنهم من رئتيه

لكي يتنفس كما يتنفس إنسان سليم يغمره الفجر والسعادة

يا وطني فرنسا: أنت لست في بساطة ذلك العنقود

الذي نقضمه ونحس أن الشمس تنبجس منه،

عناقيد أمل وأثمار لشمس زاهية

لست أعناباً سوداً أبدعتها فطوراً رغباتنا

لست في بساطة ذلك الفجر الطبيعي

فجر الحب والرغبة في الصراخ كما تصرخ نخله

هذه الروعة روعة العيش في جنون

هذه الحمية في أن نسير على خطى الرياح.

على هملجة الكروم التي يهدهدها قطرات نداك

على هوى ربوعه المبحرة في مواسم القطاف

وفي العمل الإنساني، في كل مكان، هذا العمل

الذي يسيل مثل معدن أنت بوتقته

وينسكب انسكاباً لا ينقطع

* * *

يا وطني، وأنت كل هذا، خليط من أصوات عديدة

أصوات الأنهار والرجال الذين تكمن في أنفسهم

عواطف العواصف، وأمواج الأحلام التي لا تهدأ.

أنت تصنع لنفسك مبادلة واسعة في الجذور

بين ساكن الأرض والأرض

ولكن كيف يتم التواصل

بين الكائن الحي ووطنه العميق!

أيمكن أن تكون هنالك طريقة واعية من طرق الأوعية المستطرقة

تعبّر بها كيمياء حبك عن نفسها

لأنك تشعر تماماً أن هنالك خيطاً لا تراه

يصل  ماضيك كله بأغصان الأيام الجديدة

وأن كل ما في وطنك من تراب يستقر فيك

وتختلط فيه غابات طفولتك الكثيرة

كما تختلط فيه أعداد كبيرة من القرى التي اجتزتها والدروب التي عَبْرتها

وتشعر كذلك أن فرنسا تورق ي حياتك كأنها نبتة

* * *

يا لها من نشوة أن تشعر أن أنفاسها تفوح

بعطر الحقول المفلوحة، وترتعش في خيام الضباب

يا لها من نشوة أن تتدحرج في زَبَد الربيع ورغوته

أن تنام في قلب السرخس الأشقر

أن تشعر أن وطنك يفتح ويزدهر في مسام جسدك،

كأنه زهرة عملاقة، كأنه قلب يغزو جسداً،

أن تختلط كل العطور والروائح والأزهار

التي تلملمها العاصفة وهي تنفجر قوس قزح

وأن تقطف أزهار البهمشية

التي تترامى كأنها حيوانات الشبهم

أن تقوم بخياط ثوب معطر بأريج الصنوبر لكل شجرة

يا لها من نشوة أن نجري منبهري النفاس تحت وابل المطر

ويَدٌ له في يدي يا حبيبتي،

وعندئذ لا تكون رفة السماء ونعومتها أقل من نعومة يدك.

عندئذ تتألق تحت أقدامنا أيام غدنا

كما تتألق الحباحب، كما تتألق بقايا السنابل بعد الحصاد

ثم لا تلبث أن تصبح طواحين ضياء

* * *

آه! انظر إلى أرض وطنك، وقد طرزت بذور لا عداد لها

سماتها الرائعة على حفافي أثلام الحقول الرمادية،

حتى ظلالها تصلح للزراعة، حتى غاباتها تنتقل في بهجة.

حتى الحشرات فيها تَصِرُّ صريراً يزداد حدة وامتداداً

استمع إلى رئات غبار الطلع، وهي تخفق

انظر إليها وهي تكسو السهول وتنسج بساط الحقول،

ها هي ذي سنابل القمح تحمل في جدائلها بقايا الليل.

ها هو ذا القمر المبلول يلمع على الحقول كأنه مشط أو نَوْرج

ها هي ذي صراصير الحديد في مناشر الخشب تتصاعد منها أصوات واخزة.

ها هي ذي صخرة ظمأى هناك تمد منقارها في الظل

ها هي

* * *

انظر إلى وطنك يحمل الأنقاض على ظهره

إلى وطنك الذي تمزقه أشواك العوسج والصرخات

إلى وطنك الذي

اكتسحه أعداؤه وخانوه وساموه ألوان العذاب.

أليس هو الذي سلبوه ثرواته وكنوزه؟

أليست سماؤك هي التي قتلوها، أليست أرضك هي التي مزقوها.

أليس هذا الأسير الذي يغني هو وطنك؟

إنه يزأر، وهو مصفد، بكلمات الحرية

يأمرك أن تكون سيد مصيرك، وفارس قدرك

وأن تعطي كل جدرانه بالشعارات اللاهبة

وأن تحوِل الأصباح نفسها إلى براكين

الوطن المُضطهد نار لا تخمد، نار تحت الرماد

لأن شعبه لا يلبث أن ينبثق أكثر قوة وأشد إشراقاً

ينبثق متألفاً من ليالي اسجون، من رماد الجرائم

* * *

يا فرنسا

يا ترابي اللاهث يا ذاكرتي الشائكة

دعيني أتأمل أرضك

أرضك المأهولة بكثير من العصافير المهاجرة وبكثير من الموتي الأسطوريين،

المأهولة بكثير من الحنان حتى في القصبات الهزيلة.

بالأساطير التي تقلب صفحات جدرانك

بالفكر والذكاء اللذين ولدتهما العصور وتمتمة العشاق

وهدير الأنهار في الليالي

وخطى الأبطال إذا حارت بها الأحجار

بدأت الحكاية في الرابع عشر من تموز

كل جيل يشهد انهيار قلعة جديدة

من قلاع الملكيات الوسخة والإقطاعيات المستترة

نحن لم ننته من إلغاء ضريبة الملح،

والحقوق الإلهية وصكوك الغفران

يا فرنسا، أنت لم تكوني قط حلوة أكثر من يوم كنت ثائرة

تقضين على البؤس بسواعد فلاحيك

بعمالك البنائين، بعمالك ذوي النظرات المديدة.

بأطفالك الذين ينتشون بالرايات والقرنفل

إنهم هم الذين زرعوا بذرة المجتمعات الخصبة.

إنهم هم الذين دغدغوا بأصابعهم ذوات العقد

حرير السعادة الوهاج.

إنهم هم الذين فرضوا الحَجْر على الأفكار المتفسخة

إنهم هم الذين عجنوا كل فصول الربيع وكل النداءات.

إن دمهم هو الذي كان وقود العالم،

أطلقوا محرك الزلازل العميقة

التي أنضجت أخلاق ماركس المشرقة

ثورة (الكومون) هي التي أضفت الجلال والعظمة على الجمهورية

وسمت بالإنسان الجديد إلى مستوى المستقبل

وأصبحت كلمة (رفيق) زوبعة مدوية.

* * *

أنت يا فرنسا كل هذا ـ ضَعف وقوة ـ

مُدربةٌ على المواسم والمآسي

يا طيب عمري، يا كنزي الخالد

في سوق مال القلوب، أسمع تحت قشرة حاضرك

صوت الحقل العنيف العذب

يغمر قدميه العاريتين كالطفل في الينابيع.

ويضحك من حَنجَرته ضحك زرجونة الدالية

أسمع صوت الأملاح يمد الزروع الوفيرة بالغذاء

سغب الجذامير الأعمى

سلالة الصخور والأنهار

مناجم حبي التائه في ليل يبصق اللهب.

يا بلدي، أنت مثل نفط يتلظى

تنبثق من هياكل قبضاتنا الهائلة

نحن القمح الذي أنت خميرته

بئر القلب الارتوازية، الصَدَفة التي تضم كل معرفة

* * *

آه! أنا أصغي إلى صرير العجلات يتصاعد في حقولك الواسعة

وهي تنقل خيرات الطبيعة عند الصباح،

وصفائح اللبن المجمد والمحروقات

التي تنتشر روائحها كأنها مخدر

أرى سكك الحديد الزرقاء ومحطات الفرز

وقد تبدت فوانيسها عند المساء كأنها طيور كبيرة شاحبة اللون

أرى القطارات ذات العيون الثاقبة

والقاعات تقذف إلى الشوارع ألواناً من الحياة.

تجاراً وصاهري حديد، زرافات زرافات.

في المدن التي تعيش على الأحلام اللاهية

يعدون أراضيك البور، ويصنعون أدواتك،

من المادة الأولية… التي استخرجتها يا بلدي

من طمي العصور فكانت أكثر المرايا نفعاً لك.

كل هذا أنت صنعت منه صورتك

صنعت منه مفتاح موسيقاك، ضمانة كل الحريات.

هذا الذوبان الحميم في مناظرك الطبيعية

ذوبان الجمال في جهد الإنسان.

الإنسان الذي يعرف مدى طاقته ووزن سعادته

* * *

ثمار الشعب ، كنوز شبابه الحية

الاقتصاد، محرك يفتح أبواب المستقبل

ذلك هو اسمك يا وطني فرنسا، تلك هي وعودك

آه، ها هي ذي شراييني تجوس خلال الدوب

التي تشبه العظايا اللامعات في حقل أخضر من الفصة

وها هي ذي كريات دمي تتطهر وتصفو

في أعماق رحمك

وها هي ذي حياتي تفيض حباً لك،

وها هو ذا وجودي يرن رنيناً وهو يمتلىء بشعبي

* * *

حب الوطن أعمق من البحر

حب الوطن مركبي الذي ابتلعه البحر

حسبنا أنك ضعت منا في غياهب ليل أبدي

في زمن تجمدت فيه فرنسا بلدي وتحولت إلى حجر متشقق

عندئذ لبسنا صدرة غواص الليل

لنهبط إلى جحيم الماء.

ولكننا وجدناك نائمة تحت الطحالب

تضمين بين ذراعيك راياتك الممزقة

وجدناك أكثر عظمة وأصلب إيماناً

وجدناك حسناء المياه النائمة فأيقظناك،

سرت على الأمواج، وسلاحك في يديك

ومنذئذ كان حبنا رايتك الوحيدة.

* * *

مثل ذكريات في منقل من رماد

برزت من الجمرات يا أرضي الموقدة

فكيف استحالت جراجك إلى سنابل؟

وكيف ارتعشت ذاكرتك على دوي الملاحم؟

* * *

سمعت دمك يفر واللبلاب يتسلق

على مدى نظراتك في جبهة نورك.

سمعت دوى قفير من النحل يجري في الطرقات وبين الأحجار

رأيت الوردة الخطمية تتزوج أسلاك البرق

رأيت العشب يخضر تحت الثلج العابر

هنا كل ما نملك من أمل، هنا نداعب زغب الحياة.

هنا الربيع الذي نعلق براعمه فوق قلوبنا

هنا أفق البقر الذي يروي ظمأه في بركة الأسل

* * *

رجال هبوا في كل مكان يرتعش فيه الفجر

وانغمس الوجود كله في دمائهم

رجال هبوا، هذا يسوق جزاره

وذاك يحرك رابويه، وثالث يدير عنفته

الأرض تنبت نباتاً والصخرة تتزلزل زلزالاً، وكل الأشياء تتوحد

المعادن تفتح صدورها وتحفر الأثلام

والقلب يجري يوم الأحد كأنه دراجة

هنا يستعد الناس لإحراق العشب لإخصاب الأرض.

إنها الحياة التي تتسلق، والدواليب التي تدور

وشريط التقدم الذي يتكبكب

المعمل ينفث دخانه والمركب يبحر

حتى الظل أصبح بيت نمل واسعاً

حتى الإنسان صار يعلك المادة لكي يتحرر

ويكشتف في الظلام كل ما تحجب من أسرار

بل إن الإنسان ألغى الليل ليزيد معرفته لنفسه

وسيطر على الطاقة التناسلية في الأشياء،

وعلى لذاته وسع دائرة وعيه ووجدانه

إنه يعلم أنه سيد كل التحولات

وأن العالم يمكن أن يكون له طعم آخر

* * *

في وطني تتلاقى الحياة مع الحياة في حلقات

تتشابك المخلوقات وسكك الحديد شبكات

إنها معادلة جبرية بين الحلم والعمل

أنت يا وطني نشيدنا ولحمنا واسمنا

اللهجة السرية التي نفهمها نحن وحدنا

يا لها من معجزة دائمة، من تراسل هائل

بين السماء وعيوننا، بين الحياة والرياح

كأننا عاشقان في حديقة في الضاحية

كذلك كان وطني ـ السعادة شاملة

آبدة ليلية، شجرة عابرون

أغنية عاطفية في المدن المتألقة

الشوارع وتيارات الأعلام والصناعة

التي تحول الندى إلى كهرباء

عاصمة وطني تفتح أبواب التاريخ

باريس تجعل كل حياةٍ نجمةً بين النجوم

يا لها من مدينة رحبة، يا لها من أفق جمال عنيف

* * *

أوه! يا فرنسا أتكون لعبة قديمة أن أسمي نفسي

ابنك؟ أن أقبل شفتي حريقك

أن أضم حتى الموت بلدي إلى صدري

أن أجعل منه راية فردوس سعيد

أأكون ساذجاً إذا أحببت الأرض التي علمتني لفظة الحب؟

ودوافع الحب الصحيحة والتوازن العجيب

بين العقل الذي يعرف كيف يجد ينابيعه وبين الانحياز

هذا شعبي يحطم سجون باستيله الجديدة

فكيف لا نوحده وحدته الكريمة

وحدة الحقول والفكر، الوحدة الفرنسية

التي تستأنفها الطبقة العاملة وتبعثها.

* * *

يا فرنسا، هنالك كلمات لا نستطيع النطق بها

أمامك، وأولئك الذين يريدون أن يضعوك أمام منحدر

شلالات الشقاء

أولئك الذين تحرقهم كلمة الوطن وتزعجهم

كأنها غلطة فجائية في قلب حساباتهم

أولئك هم الذين يجدون في اسم الوطن أثر جرح قديم

يبدو لهم في حاضرهم ولا يمحوه شيء إلى الأبد

* * *

أنا أتغنى بك، وأنت عاصمة الناس

عاصمة التاريخ، أنت صدفة واسعة

تسمع فيها أحياناً ضجة الزمن القادم

أنت رحم الشمس التي تختلط فيها عناصر الأمم

والتي يخطب فيها الواقع الحلم

أنت تعدين على أصابعك الخفيفة الرشيقة

عقائدك وقضاياك ومفاخرك

وذكرياتك، وأنت تكشفين كل الأسرار

أتغنى بك يا بلدي فرنسا في غمرة الشلالات

ماضية في شرايين المستقبل

عربة للقلوب، زوبعة متنقلة

تجر الحياة على دواليب من سيول

يا بلدي فرنسا، أنت جميلة جمال سمائك

جميلة إلى حد يبلغ أننا لا نريد أن نعيش إلى بين ذراعيك.

يا مرعى الجمال، يا ناراً تسوغ وجودي

بلدي فرنسا قلب على كف الأرض

بلدي فرنسا أرض ينبت فيها أمل الإنسان

* * *

أريد أن أتغنى بك، لا بأرضك وحدها

ولا بأنهارك وأشجارك وحدها، بل أريد أن أتغنى بشعبك كله

يا له من شمس في كفة ميزان النجاوي

يا له من ماض شحذته شفرات المتاريس

أريد أن أتغنى بك متطورة متبدلة منبعثة

تبعثين النار في مشعلك الوحيد، مشعل الحرية.

تمشين في مقدمة الجبهة الجماهيرية المتآخية

وغداً عندما تنضج ثمرة الآمال الجماعية

غداً عندما تتفجرين رعداً إنسانياً، سفر تكوين

اجتماعي جديد، عندئذ يكون اليوم الذي ينبثق من جمراتك

هو اليوم الخالد في حصاد السلام.

* * *

شارل مارس ـ حزيران 1952

الطليعة ـ العدد الثاني 1999