أرادوا أن يحرموني صحبة العاصي في بلدي(1)
جئت حمص في 26 – 3 – 1984، وكان من أحلى أمنياتي أن أقف على نهر العاصي فأناجيه ، ولكن الجو كان عاصفاً ، فقلت : لابأس نجلس في مطعم ونتغدى ونراه من وراء الزجاج . وذهبت مع صديق لي ، قلنا نجلس في – الميراندا – التي تمردت على تعريب الأسماء ..
كانت كل المناضد على ضفة العاصي فارغة إلاّ منضدة واحدة ، وأشار لنا النادل إلى منضدة في وسط القاعة ، وقلت له راجياً :
– أريد أن أرى النهر ، ولم يرحم النادل حبي ولا سني ، فقال لا مكان على النهر اجلس هنا في القاعة .
قلت ، وما أزال التمس الرحمة :
– ولكني جئت من دمشق لأرى العاصي ، والمكان فارغ ، والمناضد شاغرة .
وأصر النادل على أن نجلس في القاعة ، وقلت لصديقي :
– لي صديق قديم شغلني منذ خمسين سنة واسمه ـ ديك الجن ـ أصدرت ديوانه ، فتعال نذهب إليه ، لعل الأصدقاء القدماء أكثر اشفاقاً على أصدقائهم . وقد قال المثل : الصديق العتيق كالذهب العتيق ، ومضينا إلى ديك الجن فاستقبلنا خير استقبال ، وأجلسنا على ضفة النهر وجعلنا نناجيه ويناجينا ، وذكرنا أيامنا وليالينا ، وقلت له أردد أبياتي السابقة في قصيدتي – عبد المعين الملوحي يرثي نفسه –
ويا وادي العاصي وقد كنت دوحة
أناغي بها الأحباب حييت واديـــا
سأدفن في أحجارك السود أعظمي
فلا يك – مثل الناس – صخرك قاسيا
وكانت بقايا طاحون العاصي تحدثنا أخبارها – معركة في طاحون – وقد سجلها الأخ الأديب – مراد السباعي – ومقتل – عمر المجرص – وقد سجلتها في قصتي – يوم من أيام فرنسا – إنّ هذه الأحجار الذكية ، لم تنس شيئاً فهي ما تزال تحمل آثار الدماء الزكية التي سالت دفاعاً عن الحرية .
قلت لصديقي : أحمد الله أنا وجدنا من يسلينا في – ديك الجن – بعد خيبتنا المرة في – الميراندا – .
وتذكرت ، وسوء التصرف يذكر سوء التصرف ، يوماً ذهبت فيه إلى – عين الخضرا – في دمشق ، كانت المناضد كلها شاغرة فجلست وحيداً على منضدة وجاء النادل ، قال : إلى متى ستبقى ؟
وأدركت ما يريد ، فهو يخشى أن أبقى إلى المساء ، حين يكثر الزائرون ، قلت : أتغدى وأمضي .
وذهب النادل ليعود بعد قليل ، قال :
أنت تجلس على منضدة فيها أربعة كراسي . وعليك أن تدفع أجرة الكراسي الأربعة .
وغضبت وتركت المقهى إلى مقهى آخر .
قال صديقي :
ـ أ رأيت إننا نخترع طرائق في اللصوصية تعجز بلاد العالم كلها عن اكتشاف أمثالها في ميدان العلوم والاختراعات . وعدت أتطلع إلى العاصي ، وأسأله :
ـ كم مرة سأراك أيها الصديق القديم العزيز ؟
وظل العاصي يتدفق بالماء ولا يجيب ، لأنّ المسئول ليس أكثر علماً من السائل .
ــــ
(1) -العروبة – العدد / 3874 – تاريخ 31 / 3 / 1984