أنا إنسان رمى بسهمه فأخطأ وما زال يرمي
هنا دمشق ـ دمشق ـ التاريخ 1986
أجرى الحوار : صقر عليشي
ثمانون عاماً من الكتابة والجهد الفكري ومائتان وستون كتاباً ما بين ترجمات وشعر ودراسات وتحقيقات ، ذلك هو عبد المعين الملوحي ، كيف نستطيع بحوار الإحاطة بهذه الحياة الغنية الواسعة ؟ لذلك حاولت في حواري هذا أن القي الضوء على بعض الجوانب المهمة في شخصيته وأدبه ، ترى هل كنت موفقاً في ذلك ؟
* أكثر من ـ 200 ـ مخطوطة وحوالي ـ 60 ـ كتاباً مطبوعاً ، ولا يزال عبد المعين الملوحي في أوج نشاطه ، كيف استطعت المحافظة على روح المثابرة هذه حتى الآن؟
ـ تعودت منذ طفولتي أن أكون جدياً في كل أعمالي ، ما أزال أذكر :
أ ـ عندما كنت في المدرسة كنت ألتزم غرفتي ، ولا أكاد أشارك أهلي في لهوهم وسهراتهم . وكان أبي ـ رحمه الله ـ إذا حان وقت الغداء أو العشاء يصيح بي :
تعال يا عبد المعين فتغد معنا
تعال يا عبد المعين تعش معنا
ب ـ كنت أسهر حتى الصباح في قراءة الكتب ، وقلّ أن تركت كتاباً قبل أن أتم قراءته . كنت أجلس على الأرض ، على الحصيرة وأقرأ ، حتى تصبح ساقاي حصيرتين ، فإذا نهضت وقعت على الأرض ، وقد أصبت بشيء من الإغماء.
جـ ـ عندما تزوجت رجوت زوجتي أن تعفيني من شؤون البيت ومؤونته، وقد تبرعت مشكورة بذلك ، وما أزال حتى اليوم لا أشتري شيئاً ، ولا أعرف ماذا آكل ، ولا أطلب طعاماً معيناً .
د ـ كنت أعمل في فترات طويلة من الساعة الخامسة صباحاً إلى الساعة الحادية عشر ليلاً مع استراحة ساعة أو ساعة ونصف للغداء والقيلولة .
هـ ـ سبب لي هذا العناء نوعاً شديداً من الأمراض الخطيرة ، وأحمد الله على شفائي واستعادة نشاطي . أقول لك في صراحة إنّ العامل الأول في نشاطي هو أني أريد أن أقدم شيئاً ما ولو قليلاً ، لأمتي العربية . ليس هذا تبجحاً ، لأني اشعر أني لم أقدم شيئاً حتى الآن ، بل نحن جميعاً لم نعمل شيئاً مذكوراً لأمتنا العربية .
لقد سألتني منذ أيام مجلة (الحرية ) مثل هذا السؤال وكان جوابي أنقله بالحرف الواحد:
أبادر فأقول : إني لم أعمل شيئاً . بل نحن جميعاً في الوطن العربي لم نعمل شيئاً لأمتنا العربية ..
1 ـ إننا ما لم نحقق حرية الأمة العربية كأمة ، والإنسان العربي كفرد وما لم نحرر أراضينا المحتلة ولا سيما أرضنا في فلسطين الغالية فنحن لم نفعل شيئاً .
2 ـ إننا ما لم نحقق الوحدة العربية من أدنى أقطار الوطن العربي إلى أقصاها فيسير العربي من قطر كما يطير الطير في السماء الرحبة فنحن لم نفعل شيئاً .
3 ـ إننا ما لم نطبق الاشتراكية تطبيقاً فعلياً لا نظرياً ، وما لم نضمن لكل مواطن عربي حقه في العلم والعمل والحياة السعيدة والمسكن والغذاء الكافي فنحن لم نصنع شيئاً ذا بال .
وتقول لي ، أنت تتحدث في مهمات الأمة العربية ، وأنا سألتك عن الأدب وما قدمت لأمتك فيه ، فاسمح لي أن أضيف فقرة رابعة إلى الفقرات الثلاث السابقة.
4 ـ إننا ما لم نعد للأدب العربي ألقه وروعته ، وما لم نبدع أدباً جديداً رائعاً يقبل العالم كلّه على ترجمته والتمتع به ، كما أقبل وتمتع بأدب دوستيّفسكي وشكسبير، وغيرهما من قمم الأدب والشعر فنحن لم نصنع شيئاً .وأنا اسمع اعتراضك حين تقول :
ولكن أدبنا المعاصر أصبح يترجم إلى بعض اللغات الأجنبية .
وأقول لك : أرجوك لا تنكأ في قلبي جرحاً عميقاً ، فأنا أعرف لماذا وكيف تتم هذه الترجمات ؟ إنّها تسول وعلاقات فردية واستغلال لبعض أصحاب المناصب لمناصبهم لا لأنّهم أدباء ولكن لأنّهم يلبسون ثياباً فضفاضة ويجلسون في آرائك عريضة وهم طفيليون على الأدب والشعر والثقافة .
أرجوك أن تعفيني من إيراد الأمثلة ، فأنت تعرفها مثلي .
* هناك خلافات في وجهات النظر حول التراث وأهميته وكيفية الإفادة منه ، بحكم تجربتك ومعرفتك ، هل تعتقد أنّ العمل الإبداعي الأصيل لا يكون دون أن ينبع من التراث دون أن يستند إليه ؟
ـ لا أحب المبالغة ، ولا أعتقد أنّ الإبداع لا يكون ـ كما ورد في سؤالك ـ دون أن ينبع من التراث . ذلك أنّ للإبداع مصادر كثيرة ، ومن أهم هذه المصادر التراث ، لا التراث العربي وحده ، وإنما التراث الإنساني كله .
هناك قصص وأساطير ما تزال تلهم الشعراء والكتاب حتى الآن . منها رحلة (أوليس) إلى العالم السفلي ، ومنها حكاية ( أوديب الملك ) ومنها ( حي بن يقظان ) وأشباه هذا التراث الإنساني الخالد لا يجوز في هذا المجال أن نغفل ( رسالة الغفران ) للمعري و(جحيم) دانتي . إنّ في كل عنصر من عناصر الحياة الحديثة جزءاً قد يكون كثيراً أو قليلاً من عناصر الحياة القديمة ، بل إنّ الإنسان نفسه ما يزال في جسده وفي بعض تصرفاته يحمل إلى حد بعيد جسد جده إنسان الكهوف وتصرفاته ، ولكن هذا كله لا ينبغي أن يصرفنا عن مصادر الإبداع الأخرى وعلى رأسها العبقرية والنبوغ ، ولولا ذلك لظلّ الإنسان في الكهوف .
إذا كان الأدب مظهراً من مظاهر الحضارة والتقدم ، فإنّ هذه الحضارة في القرنين التاسع عشر والعشرين حتى الآن قد تقدمت بأكثر من 80% من تقدمها خلال القرون السابقة، منذ مشى آدم في الأرض أول مرة . وذلك بفضل الاكتشافات والمخترعات التي لا تعد ولا تحصى والتي يقول العلماء ، إنّها حققت خلال السنوات الأربعين الماضية تقدماً حضارياً ومدنياً لم تحققه طوال قرون . ربما كان التقدم الأدبي في العصور الأخيرة لم يبلغ النسبة التي بلغها التقدم الحضاري ولكن هذه النسبة تدعونا إلى البحث عن مصادر أخرى للإبداع ليست في التراث وحده ، على نمط ما حدث في التقدم العلمي ، أو إلى حد ما من هذا النمط .
لقد انطلقت طاقات الإنسان المبدعة ، وهي طاقات جبارة ولا ندري إلى أين يسير العالم إذا تحولت هذه الطاقات إلى أعمال .
ويسرني بهذه المناسبة أن أذكر هذه الأبيات الرائعة للشاعر محمد إقبال في ديوانه (رسالة المشرق) يخاطب فيها الإنسان ربه :
خلقت الظلام ، فصنعت السراج ،
خلقت الطين ، فصنعت الكؤوس .
خلقت الجبال والصحارى ، فخلقت الحدائق
والبساتين .
خلقت الأحجار فصنعت المرايا .
خلقت السم فصنعت الدواء .
أتريد أن أنقل لك خبراً يسرك ؟
لقد انتهيت اليوم من ترجمة ديوان ( محمد إقبال ) وعنوانه ( جناح جبريل ) وعثرت فيه على قصيدته ( لينين أمام الله ) كاملة بعد جهد استمر أكثر من عشرين سنة .
* كان اهتمامك واضحاً بالآداب الشرقية أكثر من غيرها ( الأدب الفيتنامي، الأدب الصيني .. الهندي .. ) ما وراء هذا الاهتمام ؟
ـ اهتمامي بالآداب الشرقية يرجع إلى سببين اثنين :
الأول أننا خلال القرنين الماضيين ، وأثناء احتلال أوروبا للعالم العربي كانت الآداب الغربية وحدها هي التي تدرس أولاً وتترجم ثانياً إلى اللغة العربية ، فلم نكن نعرف عن آداب الشعوب الشرقية ، وحتى عن آداب الشعوب الغربية غير الاستعمارية شيئاً وقد حان الآن رفع الوصاية والتحكم في المعرفة والثقافة .
والثاني : أنّ آداب الشرق تحمل في طياتها كثيراً من أذواقنا وتطلعاتنا وأفكارنا ، فهذه الآداب على العموم تحارب الاستعمار والرجعية والمظالم الاجتماعية، وتدعو إلى الحرية والعدالة والاشتراكية ، أي إنّها تنقل إلينا تجارب تلك الشعوب التي أنقذت نفسها .
وقد نشرت حتى الآن كتابين عن تاريخ الأدب الصيني ونشرت أربع مجلدات من تاريخ الأدب الفيتنامي ، كما نشرت كتاباً عن القصص الفيتنامية أثناء حرب التحرير ، وعندي كتب أخرى عن هذه الآداب وأرجو أن أستطيع نشرها عن قريب، فهذا الأدب دستور تحرير للشعوب على العموم وللشعب العربي في كل أقطاره وفي فلسطين على الخصوص .
لقد تفتحت آفاق الثقافة بعد زوال الاستعمار وأصبحنا نجد لشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية آداباً رفيعة ، وتجارب إنسانية عميقة تغني أفكارنا وقلوبنا ، وتنقلنا إلى عوالم كنا نجهلها تماماً من قبل .
وأنا حين أدعو إلى أدب الشعوب الشرقية والأفريقية واللاتينية ، لا أدعو إلى هجر الآداب الغربية على الإطلاق ففي الغرب ما يزال شعراء وكتاب أحرار يدافعون عن الشعوب وينكرون الاستعمار ويدعون إلى التقدم .
* كتبت في فترة مبكرة قصائد كانت متقدمة ومهمة في وقتها ، لماذا لم تستمر كشاعر، هل هو قناعة بعدم جدوى الشعر ؟
ـ نكأت في قلبي جرحاً قديماً ما زال يهزني منذ عام 1947 يوم فقدت زوجتي المرحومة ( بهيرة ) بعد عذاب سنة كاملة بالسرطان اللعين .
لقد هزني هذا الموت من أعماقي هزة عنيفة تحولت إلى قصيدة . أتريد أن تعرف كيف نظمت هذه القصيدة : يقول العرب القدماء أنّ لكل شاعر جنياً يملي عليه شعره ، وربما كان هذا القول صحيحاً إذا وسعنا معناه وأطلقنا على هذا الجني اسم الوحي في العصر الحديث. كنت في يبرود هارباً من تقاليد التعزية ، نمت على فراش في الأرض ووضعت دفتراً وقلماً إلى جانب الفراش ، وعندما استيقظت صباحاً بدأت بنظم القصيدة ولم تأت الساعة الثانية عشرة صباحاً حتى أنهيت القصيدة في أكثر من 250 بيتاً ، لا أدري كيف حدث ذلك حتى الآن . وعندما سألني بعض الأصدقاء عن هذه القصيدة ، قصيدة (بهيرة ) قلت له هذه البيات وكتبتها على علبة سجايره :
وصاحب قال لي ، والكأس مترعة وظل يقرأ كالنشوان أبياتــــــي
هذا هو الشعر هزتنا روائعـــه فقلت ـ والصدق عندي بعض عاداتي ـ
لا لست أحسن لا شعراً ولا خطبـاً إني أسجل ما تمليه مأساتــــــي
هذه القصيدة التي كانت نتيجة هزة عاطفية عنيفة تحتاج أمثالها إلى مثل هذه الهزات العنيفة ، فالشعر كما تعلم معاناة ، وقد حدثت هذه الهزة مرة أخرى عندما فقدت ابنتي الصبية ورود ، وهي في الثالثة عشرة من عمرها ، فنظمت قصيدة أخرى في رثائها لا تقل عن القصيدة الأولى في فنها وعاطفتها كما أعتقد ، وإن كانت تخالفها بل وتناقضها في الفكر وفي الموقف من الموت ، نظمت كثيراً ، وما أزال أنظم ، ولكني لست راضياً عن كثير مما نظمت. إنّ لي واحداً وعشرين ديواناً تمتد خلال ستين عاماً ، وقد نشرت منها ثلاثة دوواين ، وما يزال سائرها مخطوطاً يقبع إلى جانب مخطوطاتي التي تنتظر النور ، وما أدري إن كانت سترى النور ، في يوم من الأيام .
لم أهجر الشعر ولم أعتقد في يوم من الأيام أنّه ليس له جدوى ، فهو أداة نضال اجتماعي وفردي ، وهو الذي يحبب إلينا الحياة ويدفعنا إلى الدفاع عنها ، وإذا كنت في حياتي لم أنظم إلاّ قصيدة أو قصيدتين من مستوى أرضى عنه . فالشعر لا يقاس بعدد الأبيات والدواوين ، وإنما يقاس بجودته ومستوى عواطفه والمقدرة على التعبير . ولقد ذكرتني بكلمة قلتها لأحد الأصدقاء منذ سنين طويلة ونشرها في مجلة نسيت اسمها الآن :
لست كاتباً ولست شاعراً أنا إنسان أضاع نفسه ، رمى بسهمه فأخطأ الهدف، وما زال يرمي ويخطئ .
* هل وصلت شعور بالرضى الداخلي ، إلى الاطمئنان ؟ وإذا تكشفت لك حقائق جديدة هل سيقودك هذا إلى القلق من جديد ؟
ـ لم أصل إلى الشعور بالرضى ولن أصل إليه ، وما أزال أحترق في شيخوختي كما احترقت في شبابي . لقد ذكرت مشاعري هذه في مقالتي ” العراطة ” الذي نشرته في مجلة الثقافة عام 1983 ، فإذا شئت التفصيل فارجع إليه .
الشعور بالرضى هو الموت . والشعور بأنّك وصلت إلى الحقيقة جنون ، ولست ميتاً ولا مجنوناً حتى اليوم . هنالك أوهام أتوهم أنّها حقائق فأتمسك بها لأعيش ، كما يتمسك الغريق بحبال ( العرمط ) لينجو ، لا أكثر من ذلك ولا أقل .
القلق وارد في حالة تكشف حقائق جديدة أو في حالة البقاء على الحقائق أو ما أتصور أنّه حقائق في الوقت الحاضر . لذلك فأنا قلق على كل حال ، وإن كنت ـ ولا أكتمك ـ أحاول القناعة بما توصلت إليه لأني عجوز يدمره القلق ، ويريد أحياناً أن يستريح .
* على ماذا أنت نادم ؟
ـ لست نادماً على شيء .. لقد ملأت حياتي . شربت كأسي حتى الثمالة ، وأنا في طريقي الآن إلى لعق هذه الكأس الفارغة .
* بعد هذه التجربة الطويلة الخصبة ، ماذا لديك لتقوله إلى جيلنا الجديد ؟
ـ قلت في الجواب على مثل هذا السؤال ذات مرة أخاطب الشباب :
” لقد كنا جيل الهزيمة فكونوا أنتم جيل النصر “.
إنّ تجارب الجيل الجديد رغم شبابه ليست أقل من تجارب الجيل القديم رغم شيخوخته، ولذلك فنحن نتعلم منه وهو يتعلم منا .
وإذا كان لا بد لي أن أقول شيئاً للجيل الجديد فإليك بعض هذه الأقوال التي أرجو ألا تبقى حبراً على ورق :
ب ـ تمتعوا بالحياة واعملوا في الوقت نفسه لبناء الحياة .
جـ ـ كونوا طلائع الحضارة العربية الحديثة .
د ـ حافظوا على لغتكم العربية المجيدة كما تحافظون على نور عيونكم .
هـ ـ شاركوا في جعل العالم أكثر سعادة وفي جعل الإنسانية أكثر إنسانية.
حـ ـ لا تدفشونا نحن الشيوخ فسوف نترك لكم الدنيا كلها ونرغم على الرضا بحفرة مظلمة يأكلنا فيها الدود .
تلك هي بعض أقوالي ، ولا أقول نصائحي ، للشباب فلست في موقع أقدم فيه النصائح، وما أزال في حاجة إلى أن أتعلم ، فأنا جاهل مركب ، وإذا سمحت لي باستعارة ألفاظ الرياضيات ، قلت ( أس 3 ) .
كاتب جميل ورائع
شكرا لك
شكرا لكم