جريدة حمص – العدد 204 – التاريخ 12/1/1955
المحاور : المجلة
” سئل الأستاذ عبد المعين الملوحي مرة ، من هو الأديب الذي أثرّ بنفسك ، فأجاب … وكانت إجابته هي هذا المقال الممتع ” :
لا أعتقد أني سأجد واحداً يوافقني على ما أقول …
ومع ذلك فسأقول ما أعتقد ، وما لا يعتقده الناس .
في حياتي كتاب كثيرون أثروا في نفسي جميعاً ، وأسلمني واحد منهم إلى أخيه ، حتى أصبحت الآن وليس يستطيع أن يستولي عليَّ أحد .
قرأت كثيراً وكنت حين أقرأ أستسلم ، وكنت أتأثر ، وكنت أقلد ، وتلقيت كل ما كنت أقرأ في إيمان ، وآمنت بكل ما قرأت ، وكنت في كل مرحلة من مراحل الإيمان المتناقض أشعر بآلام لا تطاق ، ألام تجهض قبل أن يتم المولود ، وآلام الإجهاض أشد وأقسى من آلام الولادة .
وتأثرت في قراءاتي تأثيرات مختلفة متناقضة … بالدين والمتدينين من الزمخشري والطبري إلى ابن قيم الجوزيه وابن تيميه .. وتأثرت بالفلسفة والمتفلسفين .. من أفلاطون إلى كانت إلى ماركس إلى لينين .
وتأثرت بالأدباء من ابن المقفع والجاحظ والحريري إلى طه حسين والعقاد والمنفلوطي من العرب ، ومن دانتي وميكيل أنجلو وفولتير وروسو ومونتسكيو وفيكتور هيجو إلى غوته وفلوبير ودوستيفسكي وتوماس هاردي وتولستوي وغوركي واهرنبورغ من الغرب .
ومن الشعراء الفرزدق وكثير عزة وأبي العلاء من العرب إلى الخيام والفردوسي من الفرس وهوميروس وألفرد دوفيني وآراغون من الغرب .
كل هؤلاء قرأتهم وكل هؤلاء تأثرت بهم وكل هؤلاء ملكوا عليّ عقلي وشغلوا كل نفسي في إحدى مراحل حياتي ، وفي وقت من أوقات هذا العمر الذي هو مهما قصر طويل إذا عرفنا كيف نملؤه .
كنت إذا قرأت أرسلت نفسي في جو من أقرأ حتى ولو كان لي عدواً ، أقرأ لأفهم ، ولا أقرأ لأنتقد ، فإذا انتهيت من قراءتي : شعرت أنّ كلّ هؤلاء قالوا شيئاً قيماً ، وقالوا أشياء كثيرة ولكنهم لم يقولوا كل شيء ، لم يستطيعوا أن يشعروا قلبي أنّه قد وجد فيهم ما يجد في الحب من عواطف ، ولم يستطيعوا أن يشعروا عقلي أنّه قد وجد فيهم ما يجد في الحياة من أفكار ، والصحيح كانوا يشعرونهما دائماً بأنّه ما تزال في القلوب عواطف كثيرة لم تر النور أبداً ، وعواطف كثيرة أخرى لم تر النور إلاّ قليلا ، وأنّ في الحياة أفكاراً كثيرة لم تنفذ إليها العقول أبداً ، وأفكاراً كثيرة أخرى لم تر العقول منها إلاّ جوانب قليلة محدودة .
هذا ما كنت أشعر به حين أقرأ ، ولقد كنت أقلد كثيراً منهم ، قلدت في كتاباتي عدداً من هؤلاء ، حاولت أن أحلل النفوس كما حللها بعضهم وحاولت أن أصنع الأسلوب الذي صنعه بعضهم ، ولكن لم يستطع واحد منهمأن يستمر في تأثيره في نفسي أكثر من الزمن الذي قضيته في قراءته أو نصف هذا الزمن إذا أردت ألاّ أكون مغالياً .؟؟
كنت أحس بما مرّ به عقلي من تناقضات فكرية عنيفة ، ترددت بين الإيمان العميق والإلحاد العميق ، بين روحية هيجل ، وعقلية كانت ، ومادية ماركس . وكنت أحس أيضاً بما مرَّ به قلبي من تناقضات عاطفية عنيفة ترددت بين الأنانية والغيرية ، بين أنانية أبي فراس وغيرية أبي العلاء ، كنت أحس بما مررت به أنا نفسي في هذه الحياة من خيانات سود يبيع فيها الأخ سراويل أخته الميتة في المزاد العلني في باب السوق ، ومن تضحيات يبيع فيها العامل حياته ليضيء بها وطنه ، ومن رجولات يقدم فيها الفدائي على الموت كأنما هو أشعب يدعى إلى وليمة ، ومن نضال قديم قدم الإنسانية جاهد فيه الإنسان للخلاص من الوحش ، وحش الغابة ووحش النفس ليحقق إنسانيته الكاملة ، ومن حركات وطنية خاضتها هذه البلاد للخلاص من الاستعباد والظلم والطغيان ومن أشكال منوعة نراها في الحياة أو نسمعها أو نعيشها أو تنقل إلينا الصحف والكتب شذوراً عنها ، وكل أولئك أمور تستحق أن تكتب وتريد أن تكتب ، وقد كتب عنها هؤلاء الكتاب جميعاً وأرادوا أن يصوروها ، وكنت إذا قرأتهم أكبرتهم وأعجبت بهم وملكوا عليّ بتصويرها مشاعري ، ولكني مع ذلك كنت أشعر وأنا في غمرة القراءة ، وفي أعقد عقد القصة ، وفي أوفر مراحل التحليل النفسي أنّ شيئاً كثيراً قد غاب ، بل ربما شعرت أن ليس هذا هو الذي يريدون أن يعبروا عنه ، وأنّهم يحومون حول موضوعهم ولكنهم لا يستطيعون الورود ، إنّهم في حاجة إلى من يقول لهم ، انظروا هنا يجب أن تفصلوا ، وإلى هنا يجب أن تبلغوا ، ومن هنا يجب أن تبدؤوا .
وهكذا كنت أشعر ، بل لقد كان هذا بعض شعوري . كنت أشعر أنّ في نفسي عوالم كثيرة يجب أن أسجلها ، فإذا جلست لتسجيلها عاقتني عنها مشاغل الحياة وسخف الناس ، ومشكلات الأسرة ، وأشياء كثيرة أخرى ربما كان أولها وأكثرها خطورة وقيمة هذا الكسل عن العمل ، الكسل الذي يطغى عليّ ، الكسل الذي يخرجني من غمرة العمل ليحبب إليّ الفراغ : الفراغ النفسي والعقلي والفكري والعاطفي ، الفراغ الذي ألجأ إليه بعد عمل المدرسة الشاق ، وبعد تصحيح الوظائف المرهق ، بعد تحضير الدروس المزعج ، وبعد قضاء ساعة أو ساعتين أستجم فيهما من هذا العناء كلّه ، لأشعر بعد ذلك بأنّ طاقة النفس قد جفّت وأنّها في حاجة إلى نوم ثقيل كالرصاص ، طويل كالأبد عميق عمق المحيط .
لم أقلد أحداً ، أمداً طويلاً ولا أريد أن أقلد الآن أحداً . ربما تأثرت بهذا الكاتب أو بذاك ما دمت له قارئاً ، فإذا تركته سرت في طريقي أبحث عن نفسي وعن أسلوبي وعن أفكاري ، ولكن حين أكتب ثم أعاود قراءة ما كتبت أشعر أنّ هذا الذي كتبته كان جزءاً من حياتي ، كان أنفاسي التي ضاعت في هذا الجو ، وإذا أنا أستعيدها ، وإذا أنا أتنفس مرتين ، مرة أنفاسي وأنا أقرأ ، ومرة أخرى أنفاسي عندما كنت أكتب ، وإذا أنا يخفق قلبي مرتين ، خفقانه حين أقرأ وخفقانه حين أكتب ، وأؤكد أني لم أحاول مرة سرقة بيت أو قصة أو صورة أو منظر ، لم أحاول ذلك أبداً لا لأني لا يعجبني ذلك كلّه ، ولا لأنّي لا أرى شيئاً يستحق أن يكون لي ، ولكن ذلك لأني أشعر بنقصه وبأنّه غير تام وبأنّه ليس أنا ، وليس إنتاجي ولا منظري ولا شعري ولا كتابي ولا أسلوبي ، بل لعلي قد تعبت لكثرة ما قرأت ، أو لعلي مصاب في الأصل بنسيان ما أقرأ ، بعد قليل من قراءته ، فأنا لا أتذكر مثلاً آلام فرتر تذكراً جيداً حتى في بعض النقاط الأساسية من القصة رغم أني قرأتها أكثر من أربع مرات .
وهذا النسيان هو الذي يبعدني عن التقليد ويدفعني إلى طريق خاصة بي ، لاصقة بنفسي معتمدة على ما أحمل من أفكار وعواصف واتجاهات .
لم يؤثر في نفسي واحد بعينه ، كلُّ الكتاب كانوا عندي سواسية ، مهما كانوا متناقضين أقرؤهم في إعجاب ثم أتأملهم في هدوء ثم أنساهم لأعاشر غيرهم .
وما يجب أن يتوفر في الإنتاج الأدبي في نظري أمران : الفن في الدرجة الأولى ، والفكرة في الدرجة الثانية .
وكنت أرى الفكرة إذا تجردت من الفن هيكلاً عظمياً ، وكنت أرى الفن إذا تجرد من الفكرة كومة مائعة من اللحم مزقّها القطار ـ وهو منظر أتذكره في حمص منذ عشرين عاماً ـ وألقى بي على جانب الخط الحديدي .
سيقول بعض النّاس : هذا غلو وادعاء فارغ ، وأقول لهم : إنّ هذا هو الذي كان وعليّ أن أسجله ، وليس عليّ أن يفهموه .
وسيقول بعض المنصفين ، صدقناك ، فمتى يكون لك أسلوبك وموضوعك وتفكيرك ؟ وأقول لهؤلاء لا أدري وسأحاول ، ولعلّ ذلك لن يتم لي إلاّ حين أستغني عن النّاس : بيت ومكتبة وراتب شهري لا يتجاوز مائة وخمسين ليرة ، فإن استطعت فذاك ، وإلاّ فليس شأني غير شأن ذلك الموسيقي المخفق الذي تحدث عنه دوستيفسكي في إحدى رواياته الخالدة (نيتوشكا) والذي كان يسمع بتهوفن ويرى أنّ في استطاعته أن يكون خيراً منه ، والذي انتهى به الجنون إلى الموت في شوارع لينيغراد في ليلة شتاء عاصفة ، وبين نواح الريح مات وهو يلهث من التعب ، والغضب ، وابنته من ورائه تبكي وتصرخ وترد على عوائها الكلاب المتشردة .