الشـــعر العربــي القديــم
شهد العصر الحديث دعوة جريئة عارمة إلى إنقاذ الشعر العربي من أعتاب الحكام متسولاً ومادحاً ودجالاً، وإلى أن يكون الشاعر صوت الحياة،والمدافع عن الشعب والداعي إلى الحرية،حرية الإنسان وحرية الأمم،وإلى أن تكون حياته هي موضوع شعره،وحياته هذه ليست حياة فردية خالصة،ولكنها حياة اجتماعية،تلخص مآسي الإنسان وأفراحه،وسلبيات المجتمع وإيجابياته،ومخاطر الحضارة الحديثة وأهدافها،وغوامض الوجود وتساؤلاته.
وقد استطاع الشعر العربي إلى حد غير قليل أن يتخطى موضوعات الشعر القديم وأن يشق طريقه في كثير من آلام الولادة إلى الحياة الحديثة ومشكلاتها،وإلى الإنسان في أعماقه الواسعة وتطلعاته إلى عالم السلام والعدل والإخاء،وإلى شعبه ونضاله العنيد في سبيل الحياة الحرة والعيش الكريم،وما يزال هذا الشعر العربي الحديث يواصل زحفه المقدس ليحتل مكانه بين الآداب التقدمية المتحررة.
ولقد اتهم المتهمون الشعر العربي القديم بأنه كان شعر الملوك والحكام يعيش على أعتابهم،ويأكل من فتات موائدهم ويمدحهم ويفضي عن مساوئهم،يمدح كرمهم وهم بخلاء،وشجاعتهم،وهم جبناء،وعدلهم وهم يسفكون الدماء،ودينهم وهم يأكلون قوت الأيتام والأرامل،والحق أن الشعر العربي في مجمله كان كذلك.لا يشك في هذا كل من قرأ الشعر العربي واطلع عل أكابر شعرائه.
وقال فريق آخر من المتهمين للشعر العربي:
أننا حتى حين نغض النظر عن ارتباط الشعراء-أكثر الشعراء- بالطبقات الحاكمة ومدحهم لها وتقربهم منها.وترك هذا الشعر جانباً،نجد أن ما بقي منه ليس إلا شعراً ذاتياً يتعلق بالحب وآلامه ولذاته:الحب الروحي الضعيف كحب بني عذرة والمجانين،والحب المادي العنيف كحب أبي نواس،ديك الجن،أو يتعلق بالحياة الشخصية من فقد لحبيب أو رثاء ولد أو الوقفة على قبر صديق،أو الاغتراب عن بلد،أو الحنين إلى وطن.
ولسنا نريد أن ننزع عن شعرنا العربي القديم مزاياه الذاتية،بل أننا نستطيع أن ندعي هذه الذاتية هي الصفة الغالبة على الشعر العربي قبل شعر المديح،ذلك أن قصائد المديح حتى لشعراء المدح الكبار ليست كلها مديحاً وإنما هي إلى جانب ذلك قصائد ذاتية بل نجد بعض الشعراء لا يخصصون للمديح أكثر من أبيات معدودة يجعلها بين مطامع العقيدة وهي في الوصف أو الغزل،وبين خاتمة القصيدة وهي في وصف حاله وحياته.
فإذا عرفنا أن أكثر الشعر العربي القديم ذاتي،ثم عرفنا أن كثيراُ منه مرتبط بالحكام،فماذا يبقى للمجتمع وللشعب وللفئات المحرومة والطبقات الكادحة؟
هنا يطرح هذا السؤال نفسه:
هل كان الشعر العربي كله كذلك؟
هذا سؤال يشغل بال التقدميين والثوار من أبناء الأمة العربية،ومن حقهم أن يسألوه،لأنه يتعلق بتراث أمتهم،ومن واجبنا أن نجيب لأننا-إلى حد ما- قد اطلعنا على شيء من تراث عظيم لأمة عظيمة.
الجواب الصحيح المعتمد على الوقائع الموضوعية:كلا لم يكن كله كذلك،بل كان ذلك جزءاً كبيراُ منه.
إن من يقرأ الشعر العربي في دواوين شعرائه الكبار ويكتفي بهذه القراءة يكاد تأخذه الحيرة.كيف يمكن أن يكون الشعر العربي وهو تراث الأمة العربية المجيدة،وثورته الكبرى خالياً أو يوشك أن يكون خالياً من صرخات الشعوب،من آلام الجائعين من نداءا الثائرين،من هتافات الناقمين على الطبقات من وثوب المحرومين على الظالمين؟
ولكن دراسة مستأنية عريضة وعميقة للشعر العربي القديم قادرة في يسر وفي سهولة،وفي غير عناء ولا أحكام مسبقة على أن تعطي صورة ثانية لهذا الشعر،وهو أنه أيضاً يحوي صرخات غير خافتة للبؤساء والمحرومين والمظلومين.
لا يمكن أن ندعي أن الصورة الأولى تنمحي أمام الصورة الثانية،فهذا أداء باطل،ولكننا يمكن أن ندعي صادقين أن هنالك صورة ثانية تقف إلى جانب الصورة الأولى في اعتزاز وفخر لترفع مستوى الشعر العربي فتجعله شعر كفاح ونضال وثورة،كما كان-ويا للأسف- شعر مدح وتزلف وتكسب.هاتان الصورتان المختلفتان كان حظهما من الدراسة متفاوتاً تفاوتاً كبيراً.
اهتم أكثر الدراسين والباحثين بالصورة الأولى وأبرزوها في كل كتاب وأعلنوها في كل بحث حتى كادت الصورة الثانية أن تختفي وراء البهارج والزخارف،وحتى كاد المؤمنون بأدبهم وشعرهم يكفرون بهما لأنهم يريدون لذلك الأدب وهذا الشعر أن يكونا أدب ثورة وشعر كفاح،لا أدب خضوع وشعر خنوع،وهم على حق في طلبهم هذا،ومن أجل ذلك أردت أن أدل على مواضع من شعر الثورة والنضال في هذا البحث القاصر،ولعلي أن أستطيع الدلالة على مواضع من أدب الثورة والنضال في بحث قاصر آخر،ثم لعلي أن أستطيع كتابة بحث كامل واسع يحاول أن يغير ما في أذهان كثير من الناس عن أدبنا وشعرنا.
فأين مواضع الثورة والتمرد؟أين مواضع الصلة بين الشاعر والمجتمع؟بين الشاعر والشعب في شعرنا العربي القديم؟
يخيل إلي أننا نجد هذه العلاقة في المواضيع الآتية:
1-كثير من الشعر الجاهلي كان تعبيراً عن علاقة الشاعر بأهله وقبيلته،بل لعله كان صوتها في الدفاع عن كرامتها والهجوم على أعدائها.لقد كانت بداية الشعر العربي اجتماعية ولم نكن كذلك نهايته.
2-شعر الشعراء الصعاليك في الجاهلية والشعراء اللصوص في الدولة الأموية وحتى في أوائل الدولة العباسية،وعلى رأس أولئك وهؤلاء الشنفري وتأبط شراً وعروة بن الورد ومالك بن الريب وعبيد الله بن الحر وأبي النشناس كان وما يزال صرخة الطبقة المحرومة الجائعة في وجه الطبقة المتخومة الظالمة،وأغرب ما في هذا الشعر أن أصحابه لم يكتفوا بشعرهم في الدفاع عن حقهم وعن حق أطفالهم في العيش بل حملوا سيوفهم وقاموا بالثورة في سبل الحياة واللقمة.
3-في شعر الفتوحات الإسلامية تمرد غير قليل،والواقع أن هذا الشعر مهمل إهمالاً يكاد يكون تاماً.إن كثيراً ن شعراء القبائل ثاروا على توزيع الفيء،وطالبوا قريشاً بالعدل والإنصاف في توزيع الأموال هذا واحد منهم يقول:
إذا قتلنا ولا يرثي لنا أحد
قالت قريش:ألا تلك المقادير
نعطي السوية في طعن له نشب
ولا سوية إذ تعطى الدنانير
وهذا شاعر آخر ينكر أن تعيش قريش عيشة ناعمة ثم تقذف بالعرب في جبال خراسان وفجاجها:
تولت قريش لذة العيش واتقت
بنا كل فج من خراسان أغبرا .
4-في شعر شعراء الأحزاب السياسية والدينية كالخوارج والشيعة عدد غير قليل من القصائد تنعي على الحكام الأثرة في الحكم والميل عن أحكام الدين،والسير على الهوى،وأكل حقوق الناس،وهنالك قصائد سميت”المكتمات” أي القصائد التي قالها أصحابها لأنفسهم ولعدد قليل ممن حولهم ثم كتموها ولم يذيعوها خوفاً من الحكام فذهب أكثرها بذهاب شعرائها وبقي قليل منها.ولعل هذه”المكتمات”إذا ظهرت كانت فتحاً جديداً في تاريخ الشعر العربي ودراسته وتبديلاً واضحاً في معاييره .
5-في شعر الشعراء الكبار من بشار وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي ملامح غير ناضجة ولكنها توحي بالثورة على الحياة وتوزع الخطوط بين الناس،ولئن كانت الثورة فردية لا يصل فيها الشاعر إلى اعتبار نفسه فرداً من طبقة وعضواً في مجتمع،وواحداً من شعب فأنها تبقى ثورة رغم ما فيها من نقص.
وقصيدة ابن الرومي في الحمال الأعمى نموذجاً جيد لوصف آلام الإنسان الذي فصل أن يحتمل رغم عماه حمل الأثقال على أن يحتمل كلمات الأوغاد ورد الأغنياء.
إنها نموذج صالح للأدب الواقعي.
6-شعر أبي العلاء المعري أمة واحدة في إنكار الظلم الفساد والدعوة إلى الصلاح والرشاد بل أن دعوته إلى فناء النسل والقضاء على الحياة كانت رد فعل غير صحيح ولا سليم ولا إيجابي،بل كان سلبياً انهزامياً،على يأسه من صلاح الحكام واستقامة الناس،ويبقى مع ذلك دليل فكر إن لم يكن دليل عمل.
7-في القرون الأخيرة من العصر العباسي وفي عصر الدول المتتابعة ظهر شعر الهجائيين المفحشين من أمثال ابن الحجاج وابن بنكك،من شعراء اليتيمة وغيرهما كثيرون ممن غطوا ثورتهم بالفحش والشتائم والسباب،فكان شعرهم ثورة لفظية سخيفة،لا تنير سبيل مجتمع ولا تغير نظام حكم،ولا تعبر عن طموح شعب،ولكنها تكتفي لفضح الحكام في حياتهم الخاصة وحتى في علاقاتهم الجنسية بين أسرهم وعبيدهم.
إنها ثورة متفسخة على حكم متفسخ لا أكثر من ذلك ولا أقل ومن أجل ذلك كانت طريقتها في التمرد لا تحمل غير السخرية منها والهزء بها.والسخرية في كثير من الأحيان سلاح المستضعفين .
تلك هي-على ما أظن-أكثر النماذج الشعرية التي تغطي الصورة الثانية من الشعر العربي،صورة الشعر المرتبط بالأرض والمجتمع وبالشعب.ولا شك أن هذه الصورة تبقى في كثير من جوانبها مهزوزة لا تعطي ملامح الثورة الحقيقية والاتصال المصيري بالشعب والجماهير،ولكنها على كل حال تبدي لنا الجانب الآخر من الشعر العربي الذي كان إلى حد بعيد شعر مناسبات وسادة وحكام وأفراد.
وفي مقال لاحق سأعرض نماذج من هذا الشعر الاجتماعي المرتبط بالمجتمع أو الثائر عليه لكل فئة من هؤلاء الشعراء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثورة-العدد/2987/-التاريخ 16/2/1972