ابن العربي ووحدة الاديان

ابن عربي ووحدة الأديان

مقال الأسبوع%d8%aa%d8%b3%d8%a7%d9%85%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%af%d9%8a%d8%a7%d9%86

تمهيد:

عرف تاريخ الإنسانية ألواناً كثيرة من النزاعات المسلحة و غير المسلحة قامت لأسباب عديدة اقتصادية و سياسية و اجتماعية و عرقية و عقائدية، و لعل من أكثر الحروب شراسة و قسوة الحروب الدينية التي لم تنقطع منذ فجر التاريخ، و ما تزال بقاياها ظاهرة حتى في القرن العشرين في كثير من البلاد الراقية و النامية_ و يا للأسف.

ثم إن هذه المعارك الدامية لم تقتصر على الديانات الكبرى، بل قامت حتى بين المذاهب الفرعية المتنوعة التي انبثقت من هذه الديانات، من أمثال الحروب بين الكاثوليكية و البروتستانية و بين الشافعية و الحنفية في الدين الإسلامي.

و يروى_ على سبيل النكتة فيما أعتقد_ أن أحد أتباع المذهب الحنفي سأل أحد المشايخ: هل كان النبي r شافعياً أو حنفياً؟

فقال له الشيخ: سيدنا محمد أسبق من الشافعي و من ابن حنيفة و كان الشافعي و ابن حنيفة فقيهين من أتباع الرسول. و عندئذ غضب السائل_ و كان حنفياً_ و اتهم الشيخ بالجهل.

و لكن فئة من أهل الأديان على اختلافها ترفعت عن النزاعات بين الأديان و تنزهت عن التعصب للمذاهب، آمنت بوحدة الأديان إيماناً عميقاً كما آمنت بوحدة الإنسان في كل مكان، و مارست هذا الايمان ممارسة عملية، و دعت اليه دعوة نظرية.

و في طليعة هذه الفئات في الاسلام تأتي الصوفية. و في رأس هؤلاء الصوفية شاعر عربي هو ابن عربي:

و تعترضنا هنا ثلاثة أسئلة:

  • ما هو الدين أولاً؟
  • من هو ابن عربي ثانياً؟
  • أين دعوته إلى وحدة الأديان ثالثاً؟
  • ما هو الدين؟

نبحث عن الدين في مصادر ثلاثة:

  • في اللغة:

جاء في لسان العرب ماجدة (دين) ما يلي:

دين: الديان من أسماء الله عز وجل معانه الحكم القاضي… و الديان القهار… و هو فعال من دان  الناس أي قهرهم على الطاعة. يقال: دنتهم فدانوا أي قهرتهم فأطاعوا.

و الدين: الجزاء و المكافأة و دنته بفعله دينا، جزيته، و يوم الدين: يوم الجزاء، و في المثل: «كما تدين تدان» أي كما تجازي تجازى. أي تجازى بفعلك و بحسب ما عملت… و قيل: كما تفعل يفعل بك. و الدين: العادة و الشأن. و الديانة: كالدين. دان نفسه: أي أذلها و استبعدها. و قيل: حاسبها.

و الدين لله من هذا إنما هو طاعته و التعبد له. و دنته: ملكته. و الدين: الحال. و الدين: الورع. و الدين: القهر. و الدين: المعصية. و الدين: الدعاء. و الدين من الأمطار ما تعاهد موضعاً لا يزال يرب به و يصيبه.

تلك هي مادة الدين في لسان العرب. و هي كما ترى تكشف عن الأصل اللغوي و لا تعرض للمعنى الاصطلاحي.

  • الدين في كتب التعاريف الإسلامية:

جاء في جامع العلوم في اصطلاحات الفنون المعروف بدستور العلماء( 2/118) ما يلي:

الدين: بالكسر الإسلام و العادة و الجزاء و المكافآت و الدين.

و ( الدين الاصطلاحي) قانون سماوي سائق لذوي العقول إلى الخيرات بالذات و جاء في الكليات للكفوي:

الدين بالكسر: في اللغة العادة مطلقاً و هو أوسع مجالاً يطلق على الحق و الباطل أيضاً…. و يشمل أصول الشرائع و فروعها، لأنه عبارة عن وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات قلبياً كان أو قالبياً كالاعتقاد و العلم و الصلاة، و قد يتجوز به فيطلق على الأصول خاصة بمعنى الملة و عليه قوله تعإلى[ ديناً قيما ملة ابراهيم] ( الأنعام 161)

و قد يتجوز فيه فيطلق على الفروع خاصة و عليه[ ذلك دين القيمة] ( البينة 5) أي المللة القيمة يعني فروع هذه الأصول.

و الدين منسوب إلى الله تعإلى و الملة إلى الرسول و المذهب إلى المجتهد. و لا يكاد يخرج التعهانوي في كتابه ( موسوعة اصطلاحات العلوم الاسلامية ج2 ص502/503) عن هذه التعريفات السابقة فيقول:

الدين بالكسر و السكون في اللغة يطلق على العادة و السيرة و الحساب و القهر و القضاء و الحكم و الطاعة و الحال و الجزاء و منه [ مالك يوم الدين]. و كما تدين تدان. و السياسة و الرأي. و دان: عصى و أطاع. و ذل و عز. فهو من الاضداد. و يقال: الدين هو وضع إلهي سائق لذوي العقول بإخيارهم إياه إلى الصلاح في الحال و الفلاح إلى المآل. و هذا يشمل العقائد و الأعمال…

3-   في دوائر المعارف

أ/ في دائرة المعارف الاسلامية ( 9/368/369)

الدين: ذكر فقهاء اللغة من العرب في مادة ( دين) معاني مضطربة ( انظر مثلاً LEXICON LAM  ص 944) أساسها كلمات ثلاث قائمة بذاتها:

  • كلمة آرامية عبرية مستعارة بمعنى الحساب
  • كلمة عربية خالصة معناها عادة أو استعمال.
  • كلمة فارسية مستقلة تمام الاستقلال معناها ديانة.

و يعرف الدين من الناحية اللاهوتية بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول بأخبارهم إياه إلى الصلاح في الحال و الفلاح في المآل ( كشاف اصطلاحات الفنون ص/503) فهو إذاً يدل على الديانات بأوسع معانيها.

ب/ في دائرة معارف لاروس

الدين عبادة تقدم للآلهة DIVINITE.

قال ريفارول: قليل الفلسفة يبعد عن الدين و كثير الفلسفة يقود إلى الدين. مجموعة العقائد و الممارسات المتعلقة بإيمان ديني COMBESSION المسيحية و المحمدية.

الاعتقاد و ممارسة دين من الاديان

الأديان كثيرة: الدين الطبيعي هو الدين المستقل عن  كل  وحي REVELATION و يقوم على إهامات العقل و القلب او على التراث ( التقاليد) الإنساني المختلف.

هذه هي مادة الدين في المصادر الثلاثة الدينية و العلمية. و ننتقل الآن إلى الفقرة الثانية من البحث:

2-   من هو ابن عربي؟

ليس وارداً في هذا البحث التوسع في التعريف بابن عربي. و لذلك فسنكتفي بماورد في ترجمته في كتاب الاعلام 7/170.

ابن العربي

(560-638هـ)

(1165-1240م)

محمد بن علي بن محمد بن العربي أبو بكر الحاتمي الطائي الأندلسي المعروف: بمحيي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر. فيلسوف من أئمة المتكلمين في كل علم. ولد في مرسية بالأندلس و انتقل إلى اشبيلية و قام برحلات فزار الشام و بلاد الروم و العراق و الحجاز. و انكر عليه اهل الديار المصرية« شطحات» صدرت عنه.

فعمل بعضهم على إراقة دمه كما أريق دم الحلاج و أشباهه. و حبس فسعى في خلاصه علي بن فتح البجائي( من أهل بجاية) فنجا.

و استقر في دمشق فتوفي فيها. و هو كما يقول الذهبي: قدوة القائلين بوحدة الوجود. له نحو أربعمائة كتاب و رسالة، منها ( الفتوحات المكية) عشر مجلدات في التصوف و علم النفس.

و أضاف معجم المؤلفين قوله: و توفي بها (بدمشق) في 22 ربيع الآخر و دفن بسفح قاسيون.

3-   أين دعوته إلى وحدة الأديان و موقفها الإنساني؟

وحدة الأديان فكرة دان بها عدد كبير من الصوفية و لاسيما ابن الفارض و الحلاج و ابن عربي و الجليلي و جلال الدين الرومي.

جاء في دائرة المعارف الاسلامية( 5/215/298): و لابن عربي:

عقد الخلائق في الإله عقائداً   و أنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه.
 

 

فالتصوف نشأ عن المثل الديني الأعلى و ظل في أدواره كلها مخالفاً ما عليه العامة مخالفاً القراء و الفقهاء و أهل السنة و المتكلمين و المتفلسفين، متعرضاً لعدواتهم و اضطهاداتهم من غير أن تخرجه العداوات و الاضطهادات عن حدود الحب و التسامح. فالتصوف كما وحده بين معترك المذاهب تسامحاً صرفاً و سلاماً في كل ما مر به من أدوار.

و الصوفي_ كما قال أبو تراب النخشبي _ لا يكدره شيء و يصفو به كل شيء.

نظرت هذه الفئة من المتصوفة إلى الأديان المختلفة و العقائدية المتباينة على أن تباين هذه و اختلاف تلك ليس إلا من حيث الظاهر. أم من حيث الحقيقة و الجوهر فلا تباين و لا اختلاف. فكل ما هنالك من علل و نحل ليس في حقيقته الا مجرد وسائل يتوسل بها إلى غاية واحدة هي عبادة اله واحد و هو خط مشترك بينها جميعاً۱. قال ابن عربي:

« ان العارف المكمل هو من رأى كل معبود مجلي للحق يعبد فيه، و لذلك سموه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجرة أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك …»2.

أبيات ابن العربي و موقفه الإنساني فيها:

قال ابن عربي:

 

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
و بيت لأوثان و كعبة طائف
أدين بدين الحب أنى توجهت
  فمرعى لغزلان و دير لرهبان
و ألواح توراة و مصحف قرآن
ركائبه فالحب ديني و إيماني
 

و نختم هذا الموقف بفقرة من كتاب ( ابن الفارض و الحب الإلهي 306) جاء فيه و ليس من شك في أن ما انتهى إليه ابن الفارض و أشباهه من الصوفية ( و منهم ابن عربي)1 من وحدة الأديان و اتخاذه من الحب ديناً.

و اعتبار انحرافه عن هذا الدين مفارقة لدين الإسلام و ارتداداً عنه قد اشتمل على كثير من المعاني الراقية و المثل العليا التي إن أخذ الناس أنفسهم بتحقيقها صفت نفوسهم و خلصت قلوبهم و سمت مشاعرهم فإذا هم ينظرون بعضهم إلى بعض على أنهم أخوة متساوون متآخون لا فرق فيهم بين إنسان و إنسان، و لا بين معتنق لدين و معتنق لدين آخر، لأن الأديان كلها من الله. قضى بكل دين منها على فريق من الناس بحيث لم يختر أحد لنفسه ما يعتنقه من هذا الدين أو ذاك و هذا من شأنه أن يؤدي إلى أن تزول الحواجز بين أفراد الإنسان و تحل الوحدة و الألفة محل الكثرة و التفرقة، و يمحو نور التسامح و الإخاء ظلمة التعصب و الشقاق، فتأتلف القلوب و تتحاب النفوس و يصبح الناس جميعاً إخواناً متحابين لا أعداء متسابين متنابذين. و عندي أن الذين ينظرون إلى التصوف و أذواقه و نتائجه نظرة ازورار أو ازدراء مسرفون على أنفسهم و على الصوفية…

أليست نظرة ابن الفارض و أشباهه إلى الأديان المختلفة على أنها مظاهر متعددة لجوهر واحد إلا سبيلاً إلى تحقيق المثل الأعلى في الحياة الفردية، و الاجتماعية تحقيقاً يعم معه السلام أرجاء العالم و يرفرف فيه الحب، الإخاء و المساواة بأجنحتها على بني الناس جميعاً؟ الحق أن ابن الفارض و من نهج نهجه و انتهى إلى ما انتهى إليه من هذه النتائج الرائعة قد قدموا إلى الإنسان أجمل عطاء و أسدوا إليها أحسن خير.

و كانوا بذلك من دعاة الحرية و المحبة و الإخاء و المساواة و ما إليها من الدعائم التي أقيمت عليها الديمقراطية الحديثة 1.

ذلك ماورد في كتاب الدكتور محمد مصطفى حلمي عن ابن الفارض و هو ينطبق تماماً على ابن عربي بل لعله أشد انطباقاً، فقد فصل ابن عربي رأيه في وحدة الأديان في نثره و في شعره. و السؤال الذي يرد الآن بعد ذكر هذا الموقف الإنساني النبيل لابن عربي و أمثاله في القرن الثاني عشر و مطلع القرن الثالث عشر الميلادي هو: هل يتعظ الذين يثيرون الحروب بين الأديان و النزاعات بين المذاهب في القرن العشرين فيكفون عن إثارة هذه الحروب بين الأديان و الفتن بين الطوائف؟ نرجو وننتظر

حمص العدد« 2016» التاريخ 28/5/1993                        

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *