يقول د. طيب تيزيني في مقدمته لكتاب: (هكذا رأيت عبد المعين الملوحي لكاتبه المرحوم يوسف بلال: (كان – الملوحي- أستاذي في إحدى سنواتي المدرسية وفي معظم سنواتي الثقافية، وهو ما زال كذلك(..) وقد نعتبر الأستاذ الملوحي أحد موسوعيي مرحلة وواحداً من أهم الأدباء العرب الذين ظلوا أوفياء لكرامتهم الأدبية والفكرية والشخصية الذاتية (..) وإن بحث الفقيد الباحث يوسف بلال حول عبد المعين الملوحي يمثل أحد مظاهر الوفاء العلمي).
يذكر أن كاتب هذا البحث توفي قبل أن يرى كتابه مطبوعاً، فطبعه الأستاذ عبد المعين بعده..
*في استهلاله للبحث يتساءل الباحث لماذا أكتب؟ ويجيب: (فتراني مهمشاً أستنجد بقايا نسوغ مخضوضلة في الروح لا تزال، منادياً بحرقة مبلولة بالهذيان أيتها الكلمات الخضراء، أيتها المفعمة بأريج أرواح الشعراء الذين توغلوا، لم يثنهم حر ولا قر أن يكون الخير عفواً، في أن يكون العدل أقوى، وفي أن تكون الحرية أفقاً، في أن تكون الإنسانية شرعاً).. إذاً إنه يكتب لخير الإنسان، وللحق والعدل والإنساني..
وفيما يخص الإنسان فهو يميز بين إنسان وإنسان:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى.
وصوت إنسان فكدت أطير
رسائل الملوحي:
ويذكر الكاتب رسائل الملوحي ذات الهموم المتفرقة، ومنها نجوى حجر: لا أنظر إلى دين المرء لأن دينه له وحده وليس لي، ولا لوطنه، ولا أنظر إلى حزب المرء لأن حزبه من خصوصياته لا من مقومات عمله، وإنما أنظر قبل كل شيء وآخر كل شيء إلى انتاجه إلى اندفاعه في أداء واجبه، وأعتقد أن هذه المقاييس وحدها هي التي يجب أن نطلبها من الناس إذا أردنا أن نسير إلى الأمام..
ومن رسالته من الصين:
إليك من الصين أهدي تحية
تهب على الشام ولهى ندية
تحوم على شفتيك صباحاً
وتغفو على ناهديك عشية
وتسبح في مقلتيك نهاراً
وتهجع في الليل نشوى هنية
ومما ذكره الباحث أيضاً، مطل قصيدة عن ثياب (البالة) وهو:
أعمل للبسك كل آلة
ولا تقعدن بذل حاله
وانهض بك أناقة
فالمرء يعجز لا محالة
إن لم تكن من طرز ديور
فحسبك طرز باله
وقد ضم الكتاب عشرة فصول توزعت بين الكتابة والتكوين والتجلي والشعر والمواقف والتراث.
وفي الكتاب الثاني (الأصالة والإبداع في شعر عبد المعين الملوحي) للكاتب شاهر أحمد نصر، نجد تشابهاً في منهج البحث، واختلافاً في الأسلوب الصياغة.
وضم الكتاب اثني عشر فصلاً في جزءين.. ففي الأول (ثمانية فصول) تحدث عن النشأة والقراءة والكتابة والرحيل وآراء عبد المعين الملوحي في الأدب والثقافة والتراث واللغة العربية والترجمة، وعندها نتوقف قليلاً.
يمر منهج الملوحي بمرحلتين:
1-الترجمة الحرفية والتقيد الكامل بالنص حرصاً على الأمانة في الترجمة.
2- صياغة الترجمة صياغة عربية سليمة، فينقل النص من الركاكة والتداخل إلى النص العربي الفصيح، ولا يخل بالمعنى ولا بأي عاطفة في الكتاب المترجم).
ويضيف الكاتب: (وهكذا عندما يقرأ القارىء ترجمة الملوحي يشعر أنها ليست ترجمة وإنما هي نص إبداعي بالعربية)… ويقول الملوحي في ذلك –كما ذكر الكاتب – إننا نبحث عن أنفسنا في ترجمات غيرنا.. وعندما ترجمت لغوركي – ذكريات حياتي الأدبية – كنت أرى في هذه الحياة الأدبية ظلاً من حياتي في بلدي.. ولذلك كانت كل الترجمات التي ترجمتها نوعاً من الفيض النفسي إلى العالم الخارجي (…) وهناك رأيان في الترجمة: رأي يقول بأنها خيانة ورد الملوحي عليها بأنها أمانة.. أما الرأي الآخر فلم يذكره الكاتب.. وقد ذكر الملوحي في التوجه بالترجمة إلى الترجمة عن الثقافات الشرقية التي تشترك معنا في الشرق العظيم، وأننا نحمل هموماً مشتركة.. وهي لا تقل عن الآداب الغربية.
في الشعر والأصالة:
في هذا المبحث يورد الكاتب آراء الملوحي في الشعر الحديث (والحر تحديداً) فيقول أنه ليس مع الشعر القديم ولا مع الحديث، بل مع الشعر وقد نظم الشعر بنوعيه القديم والحديث.
ويرى الملوحي أن: (مما يؤسف أن نجد كثيراً من الشعر القديم صار نظماً، لا روح فيه، وكثيراً من الشعر الحديث وقد أصبح نقاطاً وألفاظاً لا شعر فيه).
ويذكر الكاتب أن للشعر ثلاثة أقسام لدى الملوحي الأول وضعته نازك الملائكة وقررت له قواعده وعروضه، والثاني سار عليه معظم المجددين وهو ذو وزن وقافية دون التقيد بعروض الملائكة ووزنها. والثالث هو الذي لا وزن ولا قافية وهو أشبه بالنثر..) لكنه يقرر أن الشعر الحر عربي المصدر في أوزانه أولاً وفي موضوعاته ثانياً فالأوزان التي جاء بها الشعر الحر إنما تستمد عناصرها الأولى من الشعر العربي القديم، وهو ليس إلا تطوراً عادياً عبر القرون.ويستشهد هنا بقصيدة الأرواح الحائرة لنسيب عريضة /1917/:
كفنوه.. وادفنوه..أسكنوه، هوة اللحد العميق، واذهبوا..لاتندبوه، فهو شعب ميت ليس يفيق.. ووزنها (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن، فاعلاتن فاعلات، فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن، فاعلاتن فاعلات).
ويستشهد بأبي العتاهية، في مكان آخر:
للمنون دائرات يدرن صرفها
حتى ينتقيننا واحداً فواحدا
فلما انتقد في هذا، قال: أنا أكبر من العروض.. وبالرغم من كل ذلك ينحاز الملوحي إلى الشعر كقيمة شعرية خالصة، وهي التي تحدد جمال وروعة وإدراك وخلجات النفس وتسجل خفقات القلب وأداء ارتعاشات الضمير وجلاء ألوان العواطف استكناه أسرار النفس..)إلخ.
*ودعا الملوحي إلى كتابة أوزان للشعر الحديث.. ويمثل على ذلك بالقول: بأن الأوزان في الشعر الصيني أكثر تعقيداً، ولا يتذمر الصينيون من ذلك كما نفعل نحن.. وأن شعرنا لا يتقيد بستة عشر بحراً كما يظن البعض، فهناك كتاب لابن سناء الملك، يتحدث فيه عن أوزان في الموشحات ويستخرج حوالي 300 وزن.. أما الموشحات الأخرى في وزنها في الموسيقا وضرب العود.. فماذا يريد الحداثيون أكثر من ذلك؟).. ويذكر أن المعركة بين الشعر القديم والحديث هي مفتعلة، فاللغة في هذين الشعرين هي العربية وهي طريقة التعبير المشتركة، أي أن الدم الأساسي هو واحد يجري في شرايين النوعين ثم يفترقان).
ومن قصائد الملوحي من الشعر الحديث، يسجل الباحث عدداً منها،
يا صبية! سوف أمضي وأعود
فاسمحي، سيدتي، سوف أعود
كدت أمضي
ثم لم أصبر فعدت
ثم قبلت الرسالة
ألف مرة
أطار منها الحبر شوقاً
وارتمى في شفتي.. إلخ
ربما هذه القصائد لا تحمل صوراً واهتزازات وأوزاناً كما تحملها القصائد القديمة.
-مالي أقيم؟ وطفلتي قبلي تواريها المقابر؟
-الليل أقبل.. والزقاق يغط في نوم عميق.
وسهرت، أرقب أمك الثكلى.. على حذر وضيق.
وتلوب في الحجرات تهتف: باورود ولا جواب
وتفتح الأبواب، تسألها: عسى يخفيك باب..
ونختم بهذين البيتين من قصيدة يرثي الملوحي بها نفسه فيقول:
دفنت سروري في مصائب أمتي إذا ما وردت النبع كالشهد ماؤه |
فكانت حياتي الروض لم يلق راويا صدرت طريداً صادي النفس ظاميا.. |
*ما كتب عن الملوحي، يندرج في إطار البيبلوغرافيا اشخصية ولم تتعمق في دراسة أدبه /شعره ونثره/ وترجماته التي مر عليها الكاتب نصر مروراً، ولم نعرض لهذين الكتابين: لا لكونهما تذكيراً حميماً ولافتاً بأحد أعمدة الأدب أعماله التي أثرى بها المكتبة العربية خمسة وتسعين مؤلفاً، بينها التحقيقات وبينها الترجمات والشعر والنثر.. وهو لم ينفك عن القلم الذي صقلته السنوات عبر ثمانية عقود، ولم يزل مستمراً في إبداعاته، ونحن على وعد مع كتابه الجديد، أيضاً.
نزيه الشوفي.
تشرين – العدد 8679 التاريخ 15/7/2003