حب الوطن
الشاعر الفرنسي: شارل مارس
ترجمة: عبد المعين الملوحي
تمهيـد
(شارل دوبزانسكي) هو الاسم المستعار لـ (شارل مارس) شاعر فرنسي معاصر، كان من شعراء المجلة الفرنسية اليسارية «الأخبار الأدبية»، أُعجب (آراغون) بشعره وكتب عنه مقالاً طويلاً في المجلة نفسها عنوانه: «إخوتنا الصغار».
وهو في القصيدة يعبر تعبيراً صادقاً وواقعياً وعميقاً عن حبه لوطنه فرنسا، ويتذكر في الوقت نفسه ما حل بهذا الوطن خلال احتلال الجيوش الغازية له. وكتب القصيدة عام 1952 ونشرتها دار نشر سيجوس ـ باريس عام 1953.
ومع العلم أن هذه القصيدة الرائعة تنشر لأول مرة باللغة العربية.
دمشق 06/06/1999
عبد المعين الملوحي
نص الرسالة التي بعثها
آراغون للشاعر شارل مارس
لم أنقل خطاً واحداً من قصيدة «حب الوطن» التي ظهرت للشاعر في مجلة «أوربا» إنها حسب التعبير الشامل من روائعه، لقد قرأتها في شكلها الأول، وقرأتها في شكلها الأخير فسحرني ما فيها من عمل وجهد، إن شارل مارس يعرف كيف يعمل، ويعلم ما جائزة من لا يرضى بالقليل ولا يقنع.
لقد وجدت في عملك فجر أخلاقك، فتحيتي إليك يا أخي الصغير.
آراغون
حب الوطن
إلى لويس آراغون
آه! نشيدي يتفتح على رنات جديدة
تدنو فتجثم فيه ذكريات مظلمة بعيدة
كأنها شهب زرقاء سقطت في تجاويف الكلمات
أصواتاً متكلسة لموتى ألقوا بهم في مفترق الطرقات.
أصواتاً فقيرة لجداول وحقائق ثائرة
يغترف منها وطني من حوض القوافي
ليت نشيدي يتفتح حيث تبدأ أرضي
ليته يزرع لغتي ويلونها
ليت غضبه يكون أكثر عناصري إشراقاً
* * *
آه! كنت أتمتم في رفق كلمات الحب والهذيان
وأنا أقطف ارتعاشات نشيدي وأنتشي بجسده
يا وطني، يا أرضي المتفتحة في دمي كما يتفتح كتاب
يا وطني الغاطس في الأرض، المجبول باللحم
لحم كل أولئك الذين يريدون أن تكون حراً
كل أولئك الذي يهبون لسمائك عيونهم
لتكون أكثر زرقه.
كل أولئك الذين يكسون جذوعهم العارية بالمستقبل
لكي يتنفس وطنهم من رئتيه
لكي يتنفس كما يتنفس إنسان سليم يغمره الفجر والسعادة
يا وطني فرنسا: أنت لست في بساطة ذلك العنقود
الذي نقضمه ونحس أن الشمس تنبجس منه،
عناقيد أمل وأثمار لشمس زاهية
لست أعناباً سوداً أبدعتها فطوراً رغباتنا
لست في بساطة ذلك الفجر الطبيعي
فجر الحب والرغبة في الصراخ كما تصرخ نخله
هذه الروعة روعة العيش في جنون
هذه الحمية في أن نسير على خطى الرياح.
على هملجة الكروم التي يهدهدها قطرات نداك
على هوى ربوعه المبحرة في مواسم القطاف
وفي العمل الإنساني، في كل مكان، هذا العمل
الذي يسيل مثل معدن أنت بوتقته
وينسكب انسكاباً لا ينقطع
* * *
يا وطني، وأنت كل هذا، خليط من أصوات عديدة
أصوات الأنهار والرجال الذين تكمن في أنفسهم
عواطف العواصف، وأمواج الأحلام التي لا تهدأ.
أنت تصنع لنفسك مبادلة واسعة في الجذور
بين ساكن الأرض والأرض
ولكن كيف يتم التواصل
بين الكائن الحي ووطنه العميق!
أيمكن أن تكون هنالك طريقة واعية من طرق الأوعية المستطرقة
تعبّر بها كيمياء حبك عن نفسها
لأنك تشعر تماماً أن هنالك خيطاً لا تراه
يصل ماضيك كله بأغصان الأيام الجديدة
وأن كل ما في وطنك من تراب يستقر فيك
وتختلط فيه غابات طفولتك الكثيرة
كما تختلط فيه أعداد كبيرة من القرى التي اجتزتها والدروب التي عَبْرتها
وتشعر كذلك أن فرنسا تورق ي حياتك كأنها نبتة
* * *
يا لها من نشوة أن تشعر أن أنفاسها تفوح
بعطر الحقول المفلوحة، وترتعش في خيام الضباب
يا لها من نشوة أن تتدحرج في زَبَد الربيع ورغوته
أن تنام في قلب السرخس الأشقر
أن تشعر أن وطنك يفتح ويزدهر في مسام جسدك،
كأنه زهرة عملاقة، كأنه قلب يغزو جسداً،
أن تختلط كل العطور والروائح والأزهار
التي تلملمها العاصفة وهي تنفجر قوس قزح
وأن تقطف أزهار البهمشية
التي تترامى كأنها حيوانات الشبهم
أن تقوم بخياط ثوب معطر بأريج الصنوبر لكل شجرة
يا لها من نشوة أن نجري منبهري النفاس تحت وابل المطر
ويَدٌ له في يدي يا حبيبتي،
وعندئذ لا تكون رفة السماء ونعومتها أقل من نعومة يدك.
عندئذ تتألق تحت أقدامنا أيام غدنا
كما تتألق الحباحب، كما تتألق بقايا السنابل بعد الحصاد
ثم لا تلبث أن تصبح طواحين ضياء
* * *
آه! انظر إلى أرض وطنك، وقد طرزت بذور لا عداد لها
سماتها الرائعة على حفافي أثلام الحقول الرمادية،
حتى ظلالها تصلح للزراعة، حتى غاباتها تنتقل في بهجة.
حتى الحشرات فيها تَصِرُّ صريراً يزداد حدة وامتداداً
استمع إلى رئات غبار الطلع، وهي تخفق
انظر إليها وهي تكسو السهول وتنسج بساط الحقول،
ها هي ذي سنابل القمح تحمل في جدائلها بقايا الليل.
ها هو ذا القمر المبلول يلمع على الحقول كأنه مشط أو نَوْرج
ها هي ذي صراصير الحديد في مناشر الخشب تتصاعد منها أصوات واخزة.
ها هي ذي صخرة ظمأى هناك تمد منقارها في الظل
ها هي
* * *
انظر إلى وطنك يحمل الأنقاض على ظهره
إلى وطنك الذي تمزقه أشواك العوسج والصرخات
إلى وطنك الذي
اكتسحه أعداؤه وخانوه وساموه ألوان العذاب.
أليس هو الذي سلبوه ثرواته وكنوزه؟
أليست سماؤك هي التي قتلوها، أليست أرضك هي التي مزقوها.
أليس هذا الأسير الذي يغني هو وطنك؟
إنه يزأر، وهو مصفد، بكلمات الحرية
يأمرك أن تكون سيد مصيرك، وفارس قدرك
وأن تعطي كل جدرانه بالشعارات اللاهبة
وأن تحوِل الأصباح نفسها إلى براكين
الوطن المُضطهد نار لا تخمد، نار تحت الرماد
لأن شعبه لا يلبث أن ينبثق أكثر قوة وأشد إشراقاً
ينبثق متألفاً من ليالي اسجون، من رماد الجرائم
* * *
يا فرنسا
يا ترابي اللاهث يا ذاكرتي الشائكة
دعيني أتأمل أرضك
أرضك المأهولة بكثير من العصافير المهاجرة وبكثير من الموتي الأسطوريين،
المأهولة بكثير من الحنان حتى في القصبات الهزيلة.
بالأساطير التي تقلب صفحات جدرانك
بالفكر والذكاء اللذين ولدتهما العصور وتمتمة العشاق
وهدير الأنهار في الليالي
وخطى الأبطال إذا حارت بها الأحجار
بدأت الحكاية في الرابع عشر من تموز
كل جيل يشهد انهيار قلعة جديدة
من قلاع الملكيات الوسخة والإقطاعيات المستترة
نحن لم ننته من إلغاء ضريبة الملح،
والحقوق الإلهية وصكوك الغفران
يا فرنسا، أنت لم تكوني قط حلوة أكثر من يوم كنت ثائرة
تقضين على البؤس بسواعد فلاحيك
بعمالك البنائين، بعمالك ذوي النظرات المديدة.
بأطفالك الذين ينتشون بالرايات والقرنفل
إنهم هم الذين زرعوا بذرة المجتمعات الخصبة.
إنهم هم الذين دغدغوا بأصابعهم ذوات العقد
حرير السعادة الوهاج.
إنهم هم الذين فرضوا الحَجْر على الأفكار المتفسخة
إنهم هم الذين عجنوا كل فصول الربيع وكل النداءات.
إن دمهم هو الذي كان وقود العالم،
أطلقوا محرك الزلازل العميقة
التي أنضجت أخلاق ماركس المشرقة
ثورة (الكومون) هي التي أضفت الجلال والعظمة على الجمهورية
وسمت بالإنسان الجديد إلى مستوى المستقبل
وأصبحت كلمة (رفيق) زوبعة مدوية.
* * *
أنت يا فرنسا كل هذا ـ ضَعف وقوة ـ
مُدربةٌ على المواسم والمآسي
يا طيب عمري، يا كنزي الخالد
في سوق مال القلوب، أسمع تحت قشرة حاضرك
صوت الحقل العنيف العذب
يغمر قدميه العاريتين كالطفل في الينابيع.
ويضحك من حَنجَرته ضحك زرجونة الدالية
أسمع صوت الأملاح يمد الزروع الوفيرة بالغذاء
سغب الجذامير الأعمى
سلالة الصخور والأنهار
مناجم حبي التائه في ليل يبصق اللهب.
يا بلدي، أنت مثل نفط يتلظى
تنبثق من هياكل قبضاتنا الهائلة
نحن القمح الذي أنت خميرته
بئر القلب الارتوازية، الصَدَفة التي تضم كل معرفة
* * *
آه! أنا أصغي إلى صرير العجلات يتصاعد في حقولك الواسعة
وهي تنقل خيرات الطبيعة عند الصباح،
وصفائح اللبن المجمد والمحروقات
التي تنتشر روائحها كأنها مخدر
أرى سكك الحديد الزرقاء ومحطات الفرز
وقد تبدت فوانيسها عند المساء كأنها طيور كبيرة شاحبة اللون
أرى القطارات ذات العيون الثاقبة
والقاعات تقذف إلى الشوارع ألواناً من الحياة.
تجاراً وصاهري حديد، زرافات زرافات.
في المدن التي تعيش على الأحلام اللاهية
يعدون أراضيك البور، ويصنعون أدواتك،
من المادة الأولية… التي استخرجتها يا بلدي
من طمي العصور فكانت أكثر المرايا نفعاً لك.
كل هذا أنت صنعت منه صورتك
صنعت منه مفتاح موسيقاك، ضمانة كل الحريات.
هذا الذوبان الحميم في مناظرك الطبيعية
ذوبان الجمال في جهد الإنسان.
الإنسان الذي يعرف مدى طاقته ووزن سعادته
* * *
ثمار الشعب ، كنوز شبابه الحية
الاقتصاد، محرك يفتح أبواب المستقبل
ذلك هو اسمك يا وطني فرنسا، تلك هي وعودك
آه، ها هي ذي شراييني تجوس خلال الدوب
التي تشبه العظايا اللامعات في حقل أخضر من الفصة
وها هي ذي كريات دمي تتطهر وتصفو
في أعماق رحمك
وها هي ذي حياتي تفيض حباً لك،
وها هو ذا وجودي يرن رنيناً وهو يمتلىء بشعبي
* * *
حب الوطن أعمق من البحر
حب الوطن مركبي الذي ابتلعه البحر
حسبنا أنك ضعت منا في غياهب ليل أبدي
في زمن تجمدت فيه فرنسا بلدي وتحولت إلى حجر متشقق
عندئذ لبسنا صدرة غواص الليل
لنهبط إلى جحيم الماء.
ولكننا وجدناك نائمة تحت الطحالب
تضمين بين ذراعيك راياتك الممزقة
وجدناك أكثر عظمة وأصلب إيماناً
وجدناك حسناء المياه النائمة فأيقظناك،
سرت على الأمواج، وسلاحك في يديك
ومنذئذ كان حبنا رايتك الوحيدة.
* * *
مثل ذكريات في منقل من رماد
برزت من الجمرات يا أرضي الموقدة
فكيف استحالت جراجك إلى سنابل؟
وكيف ارتعشت ذاكرتك على دوي الملاحم؟
* * *
سمعت دمك يفر واللبلاب يتسلق
على مدى نظراتك في جبهة نورك.
سمعت دوى قفير من النحل يجري في الطرقات وبين الأحجار
رأيت الوردة الخطمية تتزوج أسلاك البرق
رأيت العشب يخضر تحت الثلج العابر
هنا كل ما نملك من أمل، هنا نداعب زغب الحياة.
هنا الربيع الذي نعلق براعمه فوق قلوبنا
هنا أفق البقر الذي يروي ظمأه في بركة الأسل
* * *
رجال هبوا في كل مكان يرتعش فيه الفجر
وانغمس الوجود كله في دمائهم
رجال هبوا، هذا يسوق جزاره
وذاك يحرك رابويه، وثالث يدير عنفته
الأرض تنبت نباتاً والصخرة تتزلزل زلزالاً، وكل الأشياء تتوحد
المعادن تفتح صدورها وتحفر الأثلام
والقلب يجري يوم الأحد كأنه دراجة
هنا يستعد الناس لإحراق العشب لإخصاب الأرض.
إنها الحياة التي تتسلق، والدواليب التي تدور
وشريط التقدم الذي يتكبكب
المعمل ينفث دخانه والمركب يبحر
حتى الظل أصبح بيت نمل واسعاً
حتى الإنسان صار يعلك المادة لكي يتحرر
ويكشتف في الظلام كل ما تحجب من أسرار
بل إن الإنسان ألغى الليل ليزيد معرفته لنفسه
وسيطر على الطاقة التناسلية في الأشياء،
وعلى لذاته وسع دائرة وعيه ووجدانه
إنه يعلم أنه سيد كل التحولات
وأن العالم يمكن أن يكون له طعم آخر
* * *
في وطني تتلاقى الحياة مع الحياة في حلقات
تتشابك المخلوقات وسكك الحديد شبكات
إنها معادلة جبرية بين الحلم والعمل
أنت يا وطني نشيدنا ولحمنا واسمنا
اللهجة السرية التي نفهمها نحن وحدنا
يا لها من معجزة دائمة، من تراسل هائل
بين السماء وعيوننا، بين الحياة والرياح
كأننا عاشقان في حديقة في الضاحية
كذلك كان وطني ـ السعادة شاملة
آبدة ليلية، شجرة عابرون
أغنية عاطفية في المدن المتألقة
الشوارع وتيارات الأعلام والصناعة
التي تحول الندى إلى كهرباء
عاصمة وطني تفتح أبواب التاريخ
باريس تجعل كل حياةٍ نجمةً بين النجوم
يا لها من مدينة رحبة، يا لها من أفق جمال عنيف
* * *
أوه! يا فرنسا أتكون لعبة قديمة أن أسمي نفسي
ابنك؟ أن أقبل شفتي حريقك
أن أضم حتى الموت بلدي إلى صدري
أن أجعل منه راية فردوس سعيد
أأكون ساذجاً إذا أحببت الأرض التي علمتني لفظة الحب؟
ودوافع الحب الصحيحة والتوازن العجيب
بين العقل الذي يعرف كيف يجد ينابيعه وبين الانحياز
هذا شعبي يحطم سجون باستيله الجديدة
فكيف لا نوحده وحدته الكريمة
وحدة الحقول والفكر، الوحدة الفرنسية
التي تستأنفها الطبقة العاملة وتبعثها.
* * *
يا فرنسا، هنالك كلمات لا نستطيع النطق بها
أمامك، وأولئك الذين يريدون أن يضعوك أمام منحدر
شلالات الشقاء
أولئك الذين تحرقهم كلمة الوطن وتزعجهم
كأنها غلطة فجائية في قلب حساباتهم
أولئك هم الذين يجدون في اسم الوطن أثر جرح قديم
يبدو لهم في حاضرهم ولا يمحوه شيء إلى الأبد
* * *
أنا أتغنى بك، وأنت عاصمة الناس
عاصمة التاريخ، أنت صدفة واسعة
تسمع فيها أحياناً ضجة الزمن القادم
أنت رحم الشمس التي تختلط فيها عناصر الأمم
والتي يخطب فيها الواقع الحلم
أنت تعدين على أصابعك الخفيفة الرشيقة
عقائدك وقضاياك ومفاخرك
وذكرياتك، وأنت تكشفين كل الأسرار
أتغنى بك يا بلدي فرنسا في غمرة الشلالات
ماضية في شرايين المستقبل
عربة للقلوب، زوبعة متنقلة
تجر الحياة على دواليب من سيول
يا بلدي فرنسا، أنت جميلة جمال سمائك
جميلة إلى حد يبلغ أننا لا نريد أن نعيش إلى بين ذراعيك.
يا مرعى الجمال، يا ناراً تسوغ وجودي
بلدي فرنسا قلب على كف الأرض
بلدي فرنسا أرض ينبت فيها أمل الإنسان
* * *
أريد أن أتغنى بك، لا بأرضك وحدها
ولا بأنهارك وأشجارك وحدها، بل أريد أن أتغنى بشعبك كله
يا له من شمس في كفة ميزان النجاوي
يا له من ماض شحذته شفرات المتاريس
أريد أن أتغنى بك متطورة متبدلة منبعثة
تبعثين النار في مشعلك الوحيد، مشعل الحرية.
تمشين في مقدمة الجبهة الجماهيرية المتآخية
وغداً عندما تنضج ثمرة الآمال الجماعية
غداً عندما تتفجرين رعداً إنسانياً، سفر تكوين
اجتماعي جديد، عندئذ يكون اليوم الذي ينبثق من جمراتك
هو اليوم الخالد في حصاد السلام.
* * *
شارل مارس ـ حزيران 1952
الطليعة ـ العدد الثاني 1999