«أوراق الخريف»
الحنين إلى الأوطان غريزة في كل إنسان، بل إنه غريزة في الحيوان، فكما تحن الناس إلى أوطانهم تحن الإبل إلى أعطانها، بل ربما حنت الجمال إلى أعطانها وصبر الإنسان وتجلد فلم يظهر حنينه إلى وطنه.
قال الشاعر:
لا تعتبر الإبل الجلاد([1]) على النوى حتى تحن ويصبر الإنسان
ومن أكثر الناس حنيناً إلى أوطانهم شعراء حمص: نسيب عريضة وندرة حداد ونصر سمعان.
قال جورج صيدح في كتابه (أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية) ص 28: (ندرة حداد) ربت حمص دلبات شاعر العامي الحق.
وقال فريد حجافي في كتابه (الحنين في الشعر المهجري) ص 11: إن الإنسان مرتبط بالوطن كل الارتباط، متعلق به كل التعلق، وكلما عظم هذا التعلق وكثر ذلك الارتباط كان الإنسان قريباً من السمو والكمال، أي من تحقيق إنسانيته بكل المثل العليا.
ويقول شاتوبريان في مقاله (أرضنا مسقط رأسنا): انظر كتابي تحليل النصوص الأدبية ص 53 على طريقته في الإلهيات: ربطت العناية الإلهية أرجل كل إنسان بأرضه مسقط رأسه بمغناطيس غير منظور، سواء أكان في صقيع (إسلاندة) أو في رمال (أفريقيا المحرقة).
ومن الجدير بالملاحظة أنه كلما كانت أرض الإنسان مقفرة وطقسها قاسياً، وكلما زادت معاناة الإنسان ومكابرته للحرمان والضيق. في بلده بدا له بلده هذا أكثر سحراً، وإنه لأمر عجيب أن يتمسك الإنسان بالبؤس والشقاء وأنه إذا حرم كوخه زاده ذلك حنيناً إلى بيت أبيه.
ثم إنه يذبل ويهلك إن لم يعد إلى أرضه مسقط رأسه، إنه نبتة من نبات الجبل يجب أن تمتد جذورها في كل صخرة من صخوره.
وذلك ما فعلته ميسون الكلبية زوجة معاوية بن أبي سفيان وأم يزيد حين آثرت العودة إلى البادية وخيمتها في مهب الريح وهجر قصر معاوية المنيف ثم ثالت:
لبيت تخفق الأرواح فيه وليس عباده وتقر عيني وخرت من بني عمى نجيب وأصوات الرياح بكل فج وآكل كسيرة في كسريتي عشوته عيش في البدو أنهى فما أبقى سوى وقنى بديلاً |
أحب إلي من قصر منيف أحب إلي من لبس الشعوف أحب إلي من علج غيض أحب إلي من نقر الدفوف أحب إلي من أكل الرغيف إلي نفسي من العيش الطريف فحسبي ذاك من وطن شريف |
ديوان شعراء بني كلب 1: 528.
لقد رفضت هذه البديوة الكلبية قصر معاوية وما فيه من ثراء ونعمة لتعود إلى عيشها الخشن في باديتها.
وإذا كان هذا شأن هذه البدوية في حنينها إلى باديتها فكيف ؟؟؟ حنين شعراء حمل إلى بلدهم الطيب دعا صيفه المتدفق وهوائه العليل ورياضه الغناء.
والحق أنه كان حنيناً عجيباً.
في ديوان ندرة حداد قصائد كثيرة يذكر فيها مراراً حمص والميماس والدوير والعبار. بل يذكر هذه الصورة الحمصية الأصيلة عندما كان أهلها يصنعون البرغل من القمح وينشرونه في المرج ليجف في أشعة الشمس. قال ندرة بذكر العاصي ونساء حمص:
ولاذرت غماداته البرغلا
كتابي (حمص) ص 187 مقالي كيف لا تنطفىء.
إن حنين الشعراء إلى أوطانهم ومساقط رؤوسهم أمر طبيعي في كل الأزمان والأوطان، ولكن ظاهرة ارتباط شعراء حمص خاصة بمدينتهم وخيمهم إلى عاميها ظاهرة بلغت حد الإعجاز وزاحمت الأسطورة.
كتابي (حمص) ص 168:
هكذا لم تحفل الأرض بشعر أكثر حنيناً من الشعر العربين ولم يحفل الوطن العربي بشعر أرق حنيناً من شعر المهجر، ولم يحتل المهجر بشعر أكثر لوعة في خمسة من شعراء حمص ولم تحتله حمص بشعر أكثر التصاقاً بها وإحياء لها من شعر نسيب عريضة ثم من شعر ندرة حداد ونصر سمعان.
في قصيدة ندرة (الدفق البعيد)، نجد الوطن يرافق الشاعر في كل زمان ومكان .
ويتفق ندرة ونسيب عريضة في رغبتهما في أن يدفنا في حمص، أما نسيب فقد وردت أمنية في قصيدته (حمص أم الحجار السود) حين يقول:
يا دهر قد
عدلي إلى حمص
وأهتف
بعاثر
واجعل ؟؟؟ من حجار
ندرة تمنى كذلك أن يكون قبره في حمص:
هكذا كلما مررت بأمر فتمنيت أن أرى في العبر |
عند لفظي الأخير من أنفاس |
لاح في الحال رسم حمص لفكري تربه أشتهي تكون لقبري |
الديوان: 115
ندرة حداد
(1881-1950)
لأبناء أدباؤنا جورج صيدح ص: 28
ابن حمص (البار) وشاعر العاص الحق.
كانت وفاته فجأة في حفلة عرس بعد أن أنشد فيها شعر التهاني.
الحنين في الشعر المهجري ـ فريد جحا
ص 11: الحنين إلى الوطن عاطفة سامية، فيها الإخلاص والوفاء والحب. إن الإنسان مرتبط بالوطن كل الارتباط، متعلق به كل التعلق، وكلما عظم هذا التعلق وكثر ذلك الارتباط كان الإنسان قريباً من السمو والكمال، أي من تحقيق إنسانيته بكل المثل العليا.
وندرة حداد يدخل الرياض كلما ألم به حزن أو نزلت به شجون… وهناك حيث الشجر والزهر والطير وفي ظل شجرة على شاطىء النهر ينتقل به الخيال إلى سوريا حيث الجمال لا نظير له:
فدب في قلبي حنيني إلى فكم يملك الأرض من جدول |
جمال سوريا العديم النظيره ومنظر ساحر يربع نضير |
بل إنه يذكر وطنه كلما مر بأمر جميل في الطبيعة الورود والأزهار تذكره بالشيح والآس، والنهر والرياض والصفصاف (تذكره بدوحة الميماس) وهكذا كلما سره أمر لاحت (حمص) في حقله ولذلك يتمنى أن يرى تربها ويشتهي أن يكون قبره فيها:
كلما كنت مسافراً في البراري
بين صف الورود والأزهار
خلتُ أني في (حمص وسط الدار
أو أمام المروج في (العبار) موطن الشيح عنده والآس
هكذا كلما مررت بأمر
لاح في الحال رسم (حمص) بفكري
فتمنيت أن أرى في العمر
تربة أشتهي تكون لقبري عند لفظي الأخير من أنفاس
ص: 15
وندرة حداد لا ينسى (حمص) كذلك، إنه يذكرنا كلما غدت الطيور صباحاً فحملت إلى صدره انشراحاً وهو بطيء نفسه في (حمص) وسط الدار كلما سار في البراري بين الورود والزهر، فهو يخال نفسه في (دوحة الميماس)، كلما جلس قرب نهر في روضة ورأى العصافير تحنو على الماء كما تحنو الأم على أبنائها:
كلما غدت الطيور صباحاً أتمنى كمن تساقى الراحا كلما كنت مسافراً في البراري كلما كنت جالساً في المساء |
هاتها فالحياة جرعة كأس
موطن الشيح عنده والآس
خلت نفسي في (دوحة الميماس) |
مهديات إلى الصدور انشراحا بين أحبابه بـ (حمص) فصاحا بين صف الورود والأزهار قرب نهر في روضة غناء |
ص: 23
القصص في شعر الحنين
ويعرض لنا (ندرة حداد) في قصيدته (الأنهر الثلاثة) قصة طريفة تؤدي في نهايتها إلى مغزى:
ثلاثة
أبناء
من سفح
معنوا ليستوا
هذا إلى حمص
وذا إلى زحلة
وذا إلى الشام
فأزهرت
وواضح أنه أراد بهذه الأنهر الثلاثة: العاصي وبردى والبردوني التي يخلق كل منها حول المدن التي يمر بها بقعة زاهية خصها الله بطيب الثمار. ويصف ندرة الجنات والرياض التي بينها مياه هذه الأنهار، ويتخيل الأشجار وقد اخضرت وأزهرت وأثمرت والأطياب على أغصانها تغرد والغزلان في الحقول تلهو:
وأصبحت
على سواها
وأكثرت
ما يطرب واصبح
وانتشرت
وقد حلت
بشربها باردة
…
ولابد للشاعر من وقفة على العاصي، عسى أن يجد منفرجاً لكربته وهناك البحر، يلتقي بأخيه النهر…
ص: 33
و(ندرة خداد) يذكر (حمص) كلما ساء أمر أو سره، وعند ذاك يتمنى أن يرى قبره فيها حين يلفظ أنفاسه الأخيرة:
هكذا كلما مررت بأمر فتمنيت أن أرى في العبر |
عند لفظي الأخير من أنفاس |
لاح في الحال رسم حمص لفكري تربه أشتهي تكون لقبري |
ص: 42.
خصائص شعره الحنين:
1- كثرته
2- الفواء
3- لغتها مأنوسة.
4- الخيال
5- قصائد الحنين ؟؟؟
6- أما أوزانها فتقليدية وأحياناً محدثة وموشحات.
ونختتم هذه الكلمة بهذه الأبيات الثلاثة يقولها الشاعر من قصيدته في رثاء داوود ؟؟؟ الخوري:
داوود لا أبكي على ماض لنا لكنني أبكي حياة أصبحت فأنا المقيم بغربة لا تنتهي |
قد كنت فيه بهجة الخلان بعد اكتسبت بؤرة الأحزان أيامها إلا مع الأكفان |
الديوان ص: 204
والحق أن غربة ندرة لم تنته إلا وهو مدرج في أكفانه.
هكذا كان حنين ندرة إلى بلده وخير ما نختم به هذه الكلمة هذه الأبيات الثلاثة التي تعبر عن غربته وحنينه حتى في رثائه لصديقه داوود.
هذا نصيب حمص من شعرائها، فماذا كان نصيب شعراء حمص من حمص، ذلك ما يجيب عنه عظام نسيب وندرة البالية في بند بورك.
حنين شعرائها الوجيع
وإليكم هذا الجدول بأسماء المواقع التي ذكرها في حنينه وربما كانت أكثر ، فأنا لا أحسن الحساب، وفي هذه القائمة ما يدل على ارتباط المهاجر الغريب بوطنه وأرضه حتى بأنهار هذا الوطن ومنتزهاته.
وهذه بعض المرات التي ذكر فيها الشاعر وطنه وبعده.
سورية: 3 مرات
حمص: 6 مرات.
العاصي: 5 مرات
الميماس: 3 مرات
الدوير: مرتين
البار: مرة واحدة