تنطفىء الذكريات رويدا… رويدا وتفقد الأشياء حياتها
إنها معجزة انتصار الحياة
عدت إلى الميماس بحدائقه الزاهرة وأشجاره الباسقة
في حمص
عدت إلى حمص بعد سنوات من التشرد في حماة وحلب واللاذقية عانيت فيها ما عانيت: موت زوجة وهجوم بالمدى علي في حلب وترك ابنة صغيرة رضيعة في حمص، وسلسلة من الازعاجات الإدارية في اللاذقية، وبيع ثياب الزوجة بالمزاد العلني في حمص.
أقمت في بيت أهلي في حمص، أخذت غرفة واحدة فرشتها ببقايا أثاث غرفة النوم الزوجية. كانت كل قطعة منها عزيزة علي، تذكرني عهدي بالحبيبة الميتة الغالية، ولكن الإنسان لا يلبث أن ينسى أفراحه كما ينسى أتراحه، ولا يلبث أن يألف الأشياء ويجدها عادية بعد أن كان يراها خارقة خالدة.
كنت إذا جلست في مقعد أو اضطجعت في سرير تعود إلي كل ذكرياتي وكأنها ليست ذكريات وإنما هي قطع حية وتنطفىء الذكريات رويدا رويدا وتفقد الأشياء حياتها شيئا فشيئا، وإذا الحياة أقوى من الموت وإذا الشباب ينتصر على آلام الشباب، ويعاود الإنسان حياته من جديد كأنما يبدؤها بدءا.
كنت في كل يوم، عند الصباح، أذهب إلى المقبرة لأضع وردة أو زهرة على قبر بهيرة، وكنت في كثير من الأحيان أذهب، عند المساء، أو عصرا لأضع على القبر زهرة أو وردة، وظللت كذلك أشهرا عديدة لا أعرف لها رقما، حتى في أيام الجمعة، وهي أيام راحة كنت أذهب إلى القبر، خاشع القلب دامع العين، أخاطب من في القبر مخاطبة الحي، أدعوها إلى العودة إلى بيتها وزوجها وابنتها، فما كنت ألقى جوابا.
إن الإنسان يبقى طفلاً مهما كبر، وتبقى المعجزات أموراً يسهل عليه تصديقها مهما جرب الحياة مهما عرف في عقله أن المعجزات غير ممكنة، وأن من مات وشبع موتا فلن يعود إليك في حياتك، إن كان سيعود في الحياة الآخرة.
ولقد كتبت في ذلك العهد أشياء كثيرة أليمة، وكتبت أحد كتبي ـ ثلج على قبر ـ وذلك بسبب زيارتي للقبر فعلا في يوم من أيام الثلج.
كانت ابنتي تعيش مع جدتها في بيت خالها وخالتها، وكنت أعرف أنهم يعتنون بها عناية فائقة، فهي من رائحة المرحومة، وكان بيتهم يعج بأيتام آخرين فقدوا أمهاتهم، ولكني كنت أعرف أن ـ خزامى ـ تلقى من الرعاية مثل ما يلقى أو أكثر مما يلقى الأيتام الآخرون.
وكنت آتي بها مرة واحدة في الأسبوع تبقى عندي ليلة واحدة ثم أنتزعها من قلبي وأعيدها إلى أهل أمها.
كانت زيارتها الأسبوعية سلوى وعزاء، كنت أنام معها في سرير أمها، وكانت رقيقة ناعمة قليلة الضجة والضوضاء، ميالة إلى السكينة والهدوء.
وكان أهل أمها يمنعونني من رؤيتها أحيانا دون سبب، وأحيانا لسبب ما يزعمون أنها مريضة، وأبقي ليلة سوداء أتصور كيف أن ابنتي ليست لي، وأنها مريضة هناك في بيت لا تجد فيه أمها ولا أباها، وأنا الذي لا أزور بيت أهل أمها لا أعرف ما أفعل. أسكت وأصبر.
كانت زرايتها لي صدقة تقطر لي تقطيرا، وربما حجبوها عن زيارتي أسابيع وشهورا ويصبر الأب المفجوع مرتين: مرة بوفاة زوجته ومرة ببعد ابنته، وتصفو الأمور بعد شهور وتعاود البنت زيارتها لأبيها.
كانوا يصبون على هذه البنت كل ألوان الحقد والكره لأبيها، كانوا يزعمون لها وهي صغيرة أنه وحش لا انسان، وأنه لا يحبها، وكلما زاد عمرها زادوا في أبعادها عن حب أبيها، وكانت الطفلة عاجزة عن فهم ما يجري فهي ترى أن أباها يحبها حقا ويعطف عليها عطفاً. وهي ترى أن جدتها وخالتها تحبانها حباً وترعيانها رعاية، ومع ذلك فهي تسمع شيئاً لا تراه، وترى شيئاً لا تسمعه، ووقعت الطفلة الصغيرة في حيرة ما بعدها حيرة وتشتت قلبها الناشىء في اتجاهات متناقضة تعصف بها ذات اليمين وذات الشمال.
أذكر يوما من الأيام، وكانت في الثالثة أو الرابعة من عمرها أني خرجت بها من البيت لشراء لعبة أو حلوى من سوق الحي، وكنت أحملها على ذراعي.
اشتريت لها ما تريد وعدت بها، وأنا أحملها إلى البيت فإذا حمار يمشي في الطريق، يقوده بستاني، والتفتت الطفلة إلى الحمار وقالت في لهجة هي بين التقرير والاستفهام ـ بابا جحش ـ؟
وأدركت أنهم كانوا يعلمونها أنا أباها جحش، فقلت في كل بساطة:
انظري أن أباك ليس جحشاً، أنه يمشي على رجلين أما الحمار فيمشي على أربعة، وهو صغير الأذنين، الحمار طويل الأذنين، ثم إنه يحملك بين ذراعيه والحمار لا يحمل ولده بين ذراعيه.
واقتنعت الطفلة آنئذ أن أباها لم يكن حماراً، وبقي على أبيها أن يقتنع بذلك.
تلك الحادثة من مئات الحوادث كان يستقبلها الزوج المفجوع، والأب المصاب في هدوء وبرود، كان يعلم أن ابنته ستفهم كل شيء، فيتركها لينضج عقلها وتفهم على مر الأيام، ولا يستعجل إفهامها بالإلحاح والتكرار.
وكبرت البنت حقا وفهمت كل شيء.
إنك قد تسجن الحقيقة حينا ولكنك لا تستطيع أن تسجنها كل حين.
عدت إلى حمص التي أحبها.
إلى أحبابي وأصدقائي.
إلى بيتي المتواضع الذي شهد طفولتي وشبابي إلى حارتي ومن فيها من حلاقين وخضريين وباعة يسلمون علي وأسلم عليهم كلما مررت بهم ذات اليمين وذات الشمال، وأسمع منهم كلمة طالما أحببتها وما أزال أحبها:
أهلا ابن الشيخ:
أنهم ما يزالون يعرفونني بأبي…
وأنا بذلك راض وفخور.
عدت إلى الميماس.
– إلى حدائقه الزاهرة وأشجاره الباسقة.
إلى الوعر.
بأحجاره السود وصخوره الصم، وساقيته ـ الخبايا ـ التي تنفلت حولها ـ الحياياـ جمع حية في اللغة الدراجة ـ إلى الجديدة والخراب.
بما يغمرها من أشجار الصفصاف وتحنو عليها من الأقصاب ما أجمل بلدي وما أحلاه.
أعرف حجارته واحدة واحدة، وشوارعه شارعا شارعا كيف شقت؟ ومتى عبدت؟ أعرف أسواقه جميعا وعددا غير قليل من التجار الباعة فيها، من هو صديق ومن هو عدو ومن هو بائع قانع، ومن هو غشاش طامع.
عدت إلى الروضة.
أعرف عصافيرها، وزقزقاتها صباح مساء ـ وأعرف هداياها على رؤوس الجالسين في حديقتها بين حين وحين.
عدت إلى غرفتي.
وكنا نسميها في عهد أمي (الكعبة) فقد كان لا يدخلها أحد ولا يزورها أحد إلا في الأعياد والمناسبات الكبيرة.
هكذا بعد تشرد دام سنين أعود إلى بلدي لأخدم أبناءه أعلمهم لغتهم العربية، ألقنهم الشعر العربي الجميل، أقرأ عليهم نثر الأدباء الكبار، وأدفعهم بأمثولة إلى حب أدبهم ولغتهم ووطنهم.
ما أحلى أن تشعر أنك في بلدك أولا وأنك تخدم هذا البلد ثانيا.
بمثل هذه الروح استقبلت عودتي إلى حمص، وباشرت عملي في مدارسها الرسمية، ولم تكد تمضي أيام حتى باشرت عملا إضافيا في مدارسها الخاصة وفي المدرستين الأرثوذكسيتين للبنين والبنات.
كنت أشعر أني نواة صلبة في اللغة العربية، وفي طريق التقدم والحضارة، كنت أحس أن طلابي يحبونني وأن من أعز الدروس عليهم دروسي.
وكان أكثر ما يرضيني أنهم جاؤوا وخاصة في المدارس الخاصة من كل قرى محافظتي اللاذقية وحمص من صافيتا وطرطوس ومشتى الحلو وعيون الوادي ومرمريتا والمشتاية، وتلكخ، وكنت أشعر أن هؤلاء الطلاب القرويين أقرب إلي من طلاب المدينة وأكثر جداً ونشاطاً ورغبة في العلم.
كانوا لي أصدقاء قبل أن يكونوا طلاباً، أشاطرهم مشكلاتهم ومصاعبهم، وأعمل على حلها ماديا ومعنويا كلما استطعت إلى ذلك سبيلا.
وكنت أقوم تفكيرهم. كان أكثرهم يميلون إلى بعض الأحزاب المحلية أو الرجعية أو العنصرية، فأجاهد لكي أوحي إليهم أنهم من أمة واحدة، هي الأمة العربية، وأنهم مدعوون إلى إقامة حضارة جديدة في أرضهم، وإلى الكف عن إثارة النزعات الطائفية أو العنصرية في مدارسهم وقراهم ومدنهم، وأنهم هم المسؤولون عما قريب عن هذا الوطن الغالي الجريح.
كان عملي في الصفوف له جانبان اثنان:
جانب تدريسي قوي متماسك، ربما مال إلى المبالغة أحيانا في الشدة والعنف.
وجانب توجيهي تقدمي قومي، ربما خالطته أحيانا دعابات وأضاحيك ونكرزات.
كان الطلاب يستجيبون لهذين النوعين والجانبين في حماسة غير قليلة، لقد شعروا أن هذا الأستاذ منهم ولهم، وإذا كان شديدا أحيانا فلمصلحتهم ولحرصه على مستقبلهم.
وجاءت نتائج الامتحانات غالبا لتؤيد وجهة نظرهم.
نظرهم في إقامتي في حمص كان نشاطي الفكري والأدبي والشخصي عظيماً.
شعرت أن السمكة التي حرمت من الماء قد عادت إلى النهر الصاخب المتدفق.
إن الغرفة التي أغلقت نوافذها وأبوابها على من فيها قد تفتحت نوافذها وأبوابها على مصاريعها ولعبت بها الريح وأودت بما كان يختلها من عفن.
أحببت حمص.
وأحببت من أجلها وطني سورية.
وأحببت من أجل سورية كل العالم.
لقد اتسعت دائرة الحب لتشمل الوجود كله في الهند عانقت الأرض عند سفوح جبال الهملايا في الصين عانقت الأرض عند السور العظيم وفي غابة الأحجار.
في تشيكوسلوفاكيا عانقت الأرض من قمم جبال التترا.
في أفريقيا عانقت الأرض على ثلوج قمة كليمنجارو.
في سويسرا عانقت الأرض على شاطىء بحيرة جنيف وزوريخ.
في الباكستان عانقت الأرض في حدائق لاهور.
في كل مكان أحببت الأرض وأحببت الناس لأني بدأت بحب أرضي وأهل بلدي.
هكذا تكون الإنسانية حقا تبتدىء بحب الأرض الوطنية والأمة، لتنتهي إلى حب الأرض كلها والأمم كلها فما أحلى هذا الحب.
اشتريت دراجة، هي أرقى وسائل النقل التي اشتريتها، لأقوم برحلاتي اليومية إلى العاصي.
استيقظ عند الصباح، فأحمل آنية طعامي ثم أركب دراجتي وأطوف في البساتين والوعر وعلى شاطىء النهر ما استطعت. ثم أذهب إلى المدرسة لأقوم بالتدريس في نشاط، وأنا ما أزال أجني في رئتي الهواء الطليق وفي أنفي رائحة الأزهار. وأعلق على ثيابي شيئا من الندى ومن أوراق الأشجار، وعلى حذائي طين الأرض وبعض الأعشاب.
ما أزال أحن إلى هذه الرحلات وإلى هذا البلد الطيب وأسأل نفسي: ماذا صنعت بي الأيام، وكيف أبعدتني عن بلدي وعن أهلي لتقذف بي في بلد أحبها ولكني لا أستطيع التعامل معها.
ما أصعب أن تنتزع الشجرة من جذورها المغروسة في باطن الأرض، في أعماق التراب.
مضت السنة الدراسية 48 ـ 1949 في هدوء نسبي، وحدث أن تتابع على ثانوية الزهراوي التي كنت أدرس فيها ثلاثة مديرين، كان آخرهم نصف مجنون وكان يريد أن يعتمد في إدارته على الشرطة والمباحث فهو في كل حادثة يستدعيهم. فكان الطلاب يكافئونه على هذه الإدارة الجازمة برميه بالبندورة والبيض في شوارع حمص.
وذات يوم استدعى الشرطة إلى المدرسة في إضراب واصطدام الطلاب والشرطة واستخدموا الحجارة، وخرجت مع مدير سابق للثانوية أصبح نائبا من نواب حمص، للتفريق بين الفريقين، وأصابني حجر في ساقي، وكان هذا النائب هو المرحوم راتب الحسامي، ولكن مدير المدرسة الأحمق كتب إلى الوزارة أنني أنا الذي حرضت الطلاب على التظاهر كما حرضتهم على ضربه بالبندورة هذه الشكوى الحمقاء وأهملتها حتى نهاية عام 1949 حين أصبح هاني السباعي وزيرا للمعارف.
ما أظن أن هاني السباعي كان مقتنعا بالشكوى ولكنه لأمر ما وأعتقد أنه من بقايا حملات الانتخاب أصدر قراره بنقلي إلى دير الزور.
ورفضت تنفيذ القرار، وأردت الاستقالة والعمل في المدارس الخاصة.
كان المطران الكسندروس جحا مطران الطائفة الأرثوذكسية في حمص، وعرض علي مجلس الطائفة أن أعمل في مدارسها:
على شروط غاية في الكرم:
1- أتقاضى مرتبي في الدولة تماما.
2- ساعاتي الإضافية محسوبة مثل ساعات المدارس الرسمية.
3- العقد مدى عشرين عاما ويصادق عليه مجلس الطائفة.
4- إذا حدث ترفيعات وزيادات في الرواتب حصلت عليها تماما كما يحصل عليها زملائي ومن هم في رتبتي.
كان العرض سخياً كريماً مضموناً وقررت أن أترك الوظيفة، ولكن الوزير عندما نقلني إلى دير الزور لم يكن يرغب في إثارة هذا النزاع إلى هذا الحد، ذلك أن خلافه مع أخي (أنيس) ـ رحمه الله ـ في موضوع الانتخابات لم يكن خلافا كبيرا. يستدعي كل هذه التدابير، وتدخل بعض الأخوان في الموضوع فوعد بشرفه وبحياة ابنه أن لن يتركني في دير الزور أكثر من عشرة أيام وأن المهم أن أنفذ القرار أولا، ثم يعمل على إعادتي إلى حمص فور انقضاء الأيام العشرة.
كنت في تلك الأيام قد خطبت زوجتي الثانية الحالية، وأصر أهلها على ذهابي مؤقتا إلى دير الزور فذهبت.
كان عام 1949- 1950أبرد عام في شتائه. نزلت درجة الحرارة إلى 20 تحت الصفر، وماتت أشجار الزيتون ويبست في مناطق واسعة، وهطل الثلج أياماً وتجمدت المياه وتشققت الأنابيب وفي نهاية عام 1949 وأول عام 1950 سافرت إلى دير الزور.
كنت أضع جبهتي على زجاج نوافذ السيارة لكي أطفىء ما في رأسي من حرارة، ووصلت دير الزور ليلا وبحثت عن فندق أنام فيه. في ليالي الشتاء الباردة، ولم يكن في الغرفة مدفأة وقضيت الليل كله مؤرقاً.
في اليوم الثاني وجدت أحد الزملاء المدرسين في دير الزور، وهو صديقي في حمص، فحمل أغراضي إلى بيته، وبقيت عنده خلال الأيام التي قضيتها في دير الزور.
كانوا يقولون لي أن طلاب دير الزور أحيانا أشداء يزعجون الأساتذة ويضربونهم أحياناً. ولم أجد شيئا من ذلك.
عرفت تماما أن الطلاب لا يمكن أبداً أن يؤذوا أستاذاً يشعرون أنه يعلمهم في شرف ووجدان مهما كان شديدا عليهم الطلاب ماهرون في الحساب يعرفون من يفيدهم فيحترمونه ويحبونه، ويعرفون من لا يفيدهم فيحتقرونه ويكرهونه.
هذا هو المقياس الوحيد للحب والكره عند الطلاب كانت إقامتي في دير الزور قصيرة لا تتعدى أسابيع، ومع ذلك فقد بذلت فيها كل ما أستطيع من جهد، وأحببت الطلاب وقدمت إليهم كل ما أملك من علم، وأحبني الطلاب وكان يوم مغادرتي لهم يوما عصيبا عليهم.
عدت إلى حمص بعد أسابيع قليلة لأستأنف عملي في مدارسها الثانوية.
قصة الزواج الثاني
ما كنت أريد الزواج مرة ثانية، ولكني أردت أن أسافر إلى فرنسا لأحصل على شهادة الدكتوراه، ولذلك فقد جمعت من عملي بعد قضاء ديوني 6000 ليرة سورية، كانت كافية في ذلك الحين للدراسة في فرنسا سنتين أو ثلاثاً.
جمعتها ليرة ليرة وتركتها في البيت وأعددت العدة للسفر وحصلت على جواز السفر، وانتظرت نهاية السنة الدراسية 1948 ـ 1949 لأسافر.
وجاءني أحد الأصدقاء من التجار، وقد علم بما عندي من وفر وقال لي:
لماذا تترك مالك دون استثمار، أعطنيه وسوف تربح ربحاً غير قليل.
قلت له: لا أريد الربح، أريد أن أسافر ويكفي ما عندي لسفري.
ويظل يلح علي أن أستثمر مالي، وظللت أصر على تركه. وأخيراً قال لي:
ما دمت لا تريد أن تستثمر وفرك، فأعطنيه أزيد به تجارتي وعملي، وسوف أقدمه لك فور طلبك له. وهكذا تساعدني في عملي.
وأخطأت وأعطيته 6 آلاف ليرة.
حان وقت سفري وأعددت جواز السفر ولم يبق إلا أن أسترد المال لأسافر. وطلبته من الصديق في اليوم الأول من الطلب أعطاني 500 ل.س وفي اليوم الثاني 300 ليرة، ثم 100 ثم لم يعطني شيئاً وظل يماطلني يوما بعد يوم، وهكذا حبط المشروع وكنت أنا الذي أخطأ عندما سلمت الصديق وفري.
عرض علي الصديق أن يعطيني صابوناً ـ وكان الصابون صناعته ـ بما بقي لي عنده فرفضت.
ماذا أصنع بالصابون.
ومرت الأيام وشهور وسنون، ومالي لا استرده وعرفت أني أضعت فرصتي الذهبية في استكمال دراستي وحصولي على شهادة الدكتوراه.
هذا الخطأ جعلني أفكر في الزواج، وأنه خطأ لم يكن الأول والأخير في حياتي.
لقد كانت تجربتي هذه كافية لتحذيري من الوقوع في أمثالها، ولكني وقعت في هذا التجربة مرات ومرات، كنت أثق بالناس، بكلامهم، بوعودهم ولكن الكلام لم يكن إلا ريحاً، والوعود لم تكن إلا هواء، ومع ذلك فقد ظللت أثق بالكلام وأعتمد على الوعود. صعب عليك أيضاً أن تتخلى عن إنسانيتك لتكون وحشا وصعب عليك أيضا أن تكتم أنفاس الوحش فيك لتكون إنساناً، وقد فضلت في علاقاتي بالناس أن أكون إنساناً لا وحشاً، فلقيت من نكرانهم وأكاذيبهم وألاعيبهم ما لقيت، وبقيت إنساناً.
مات الرجل، وما تزال نقودي في ذمته وأنا الآن أسامحه رغم ما غير من حياتي وما بدل من مستقبلي. سامحه الله وعفا عنه.
خلال ذلك بدأت أعطي دروسا خصوصية لطلاب البكالوريا وطالباتها، وأحيانا للشهادة الإعدادية.
كنت أعطي دروسي في بيتي، ولا أذهب إلى بيت أحد وتراكم الطلاب والطالبات في غرفتي فلا تكاد تنتهي ساعة درس حتى تبدأ ساعة أخرى، فلا أكاد أستريح.
وكان أكثر الطلاب من المعلمين والمعلمات الذين دخلوا سلك التعليم وهم يحملون الشهادة الإعدادية وأرادوا أن ينالوا الشهادة الثانوية لينتسبوا إلى الجامعة، وكان الإقبال على التعليم في ذلك العهد يكاد يكون موسماً من مواسم الحصاد.
وجاءني أحد الأصدقاء يطلب مني أن أعطي درساً خاصاً لفتاة في الشهادة الإعدادية، ووافقت على إعطاء الدرس شريطة أن تأتي إلى بيتي أسوة بغيرها من الفتيات، وقال لي الصديق أن الفتاة لا تستطيع أن تترك بيتها، وأنها مستعدة لدفع المبلغ الذي أريده لقاء درسها على أن يكون في بيتها، ورفضت وظللت أرفض أكثر من شهرين والصديق يصر علي، ودللته على غيري، ولكن الفتاة رفضت إلا أن أعطيها أنا وحدي دروسها، وأخيرا قبلت وذهبت إلى بيتها لإعطاء الدروس.
كان استقبالي في بيتها الفخم استقبالا حسناً وشكرتني الفتاة على مجيئي إلى البيت لتدريسها، وهي تعلم أنه أول درس أعطيه خارج غرفتي في بيتي.
وتطور الحديث عن الدروس على الحديث عن حياتي الخاصة، كانت تعرف أني فقدت زوجتي بعد أن تركت لي بنتاً صغيرة، وطلبت صورة الطفلة وجعلت تقبل الصورة وتظهر أنها تحب الطفلة وتريد أن تعتني بها وأن تكون لها أماً ثانية.
هذه الإشارات والتلميحات هزتني قليلاً وجعلتني أفكر حقاً في الزواج واتفقنا على طلب يدها. من أهلها، وقالت أن أهلها موافقون.
في خلال هذه الدروس طلبت الفتاة من زوجتي الحالية أن تزورها لتحضر بعض دروسي، وكانتا معا في صف واحد ومدرسة واحدة، وجاءت زوجتي وهي على طبيعتها تلبس ثياباً عادية ولا تضع زينة، وقد غمر الحبر أصابعها ويدها رأيتها أول مرة فأعجبتني.
أعتقد أن في الزواج شيئاً سرياً، أمرا عجيباً تريد شيئاً ويأتي الزواج ليقرر شيئاً آخر.
تضع أمامك مشروعاً تظن أنه كامل، فإذا هنالك مشروع آخر يقلب مشروعك الأول رأسا على عقب.
وهكذا فقد كان مشروعي الأول أن أتزوج تلك الفتاة فجاءت فتاة أخرى عرضاً، وتتابعت الأحداث لتبعد عني الفتاة الأولى وتقرب مني الفتاة الثانية لتكون سيدة بيتي.
هنا دمشق العدد 164 التاريخ 30- 15/5/1983