أيها الموظفون.
يا موظفي الدوائر السود، ويا كتاب الوزارات الكبرى في الدولة، إن عليكم أن تقرؤوا صباح كل يوم على أبواب سجونكم الكالحة، هذه الجملة التي كتبها دانتي فوق باب “جحيمه”:
“انفضوا عنكم كل أمل يا من تدخلون”.
يدخل الموظف دائرته للمرة الأولى وهو في العشرين من عمره، فيبقى إلى الستين وينقضي هذا العمر كله، لا يحدث فيه حادث، ولا يجد فيه جديد، وتنصرم الحياة كلها في زوايا ذلك المكتب الصغير القاتم، وهي هي نفسها، والمكتب هو هو نفسه والأوراق هي هي بعينها، يتخذ منها المكتب فراشه وأثاثه ورياشه.
يدخل الموظف دائرته للمرة الأولى وهو، يدخلها في الساعة التي تتوثب فيها الآمال الجامحة، ويخرج منها شيخا عجوزا يهم بأن يستلقي في تراب قبره ليستريح.
أما هذا الحصاد من الذكريات التي يصنعها الإنسان في الحياة، وأما ذلك الجني من الحوادث الخارقة التي يلقاها الإنسان في الدنيا، وأما تلك الأنواع المختلفة من الحب العذب أو المر، البهيج أو الحزين، وأما تلك السياحات المغامرة وتلك الرحلات الصاخبة، وأما تلك المصادفات التي تلقاها الحياة الحرة الطليقة في طريقها، أما هذه الأمور كلها فأمور يجهلها هؤلاء المساجين، هؤلاء الذين حكمت عليهم وظيفتهم بالأشغال الشاقة المؤبدة:
الأيام كلها تنقضي والأسابيع كلها تمر والأشهر كلها تنصرم، ولكنها كلها متشابهة متساوقة ذات نمط واحد ووتيرة واحدة:
يأتي الموظف في الساعة المعينة المحدودة، ويطعم في الساعة المعينة المحدودة، ويخرج في الساعة المعينة المحدودة ويبتدىء هذا القتل للحياة في العشرين من العمر لينتهي في الستين من أرذل العمر، ولكنه قد ينحرف قليلا في حوادث أربع طارئة تثبت تاريخها في ذاكرته:
الزواج، ولادة الطفل الأول، موت الأب وموت الأم ثم لا شيء أبدا، عفوا عفوا فلقد نسيت، هنالك أيضا الملاكات والترفيعات.
أما الحياة العامة العادية، وأما العالم فلا يعرف عنهما شيئا بل أنه ليجهل تلك الأيام الضاحكة ذات الشمس المشرقة في الشوارع وتلك الضروب اللذيذة من التشرد في البساتين والحقول وعلى ضفاف الأنهار وعلى شواطىء البحار فالوظيفة لاتطلقه من عقاله قبل الساعة التي يحددها القانون، وباب المعتقل يغلق عليه في الساعة الثامنة صباحا ليفتح له في الساعة السادسة مساء وقد أرخى عليه الليل حجابه، ولكن علام ننكر أن تكون له مكافأة في كل سنة، أما مكافأته فهي حقه خلال خمسة عشر يوما في أن يكون كالناس يناقش ويحكم ويلوم ويستنكر وفي أن يبقى معتكفا في عقر بيته يراقب العنكبوت، وإلا فاخبرني أين يمكن أن يذهب ولا مال له .
أما عامل المدافىء فيصعد الأبنية متسلقا إلى السماء، وأما الحوذي فيطوف المدينة دائرا في الشوارع وأما عامل السكك الحديدية فيخترق الغابات والسهول والجبال ويغادر دون انقطاع حيطان المدينة السود إلى الأفق العريض الأزرق في البحار، ولكن الموظف لا يترك مكتبه أبدا، وهل مكتبه إلا تابوت حياته.
ويهم الموظف بمغادرة مكتبه، ويرى وجهه في مرآة هذا المكتب ولكن ما بال هذه المرآة التي رأى فيها لأول مرة شاربيه الأشقرين عند دخوله إلى المكتب ما بالها تريه وجهه الآن وهو ذو لحية بيضاء وتريه رأسه الآن وهو أصلع لا شعر فيه أمن أجل هذا قذفوا به إلى الشارع؟؟
إذن فقد انتهى كل شيء، أما الحياة فقد أغلقت عليه أبوابها، وأما المستقبل فقد سد نوافذه في وجهه، ولكن كيف حدث ذلك كذلك؟ كيف حدث أن بلغ من العمر هذا الحد؟ وأن هرم هذا الهرم؟ دون أن تحدث في حياته حادثة ودون أن تفاجئه أية مفاجأة تهزه مرة واحدة على الأقل هزا عنيفا، ولكن لم هذا السؤال؟ إن جوابه واضح أكيد: سر أيها الموظف المتقاعد العجوز في طريقك ودع مكانك للشباب، للشباب الموظفين.
ويمضي هذا الإنسان في طريقه وهو أكثر شقاء وألما، ويموت رأسا لانقطاع هذه العادة في المكتب انقطاعا مفاجئا ولزوال تلك الحركات نفسها في تلك الأزمنة نفسها وراء تلك المنضدة نفسها.
مقالة تستحق القراءة
شكرا لك ردمت بخير