عبد المعين الملوحي لـ ” تشرين ”
اختلطت في دمي دماء مرضعات كثيرات
تعرفت على دستويفسكي عند بائع السكاكر
تشرين ـ دمشق ـ العدد 4274 ـ التاريخ 18/6/1988
أجرى الحوار : حكم البابا
هذه رحلة مع عبد المعين الملوحي الكاتب والإنسان ، ذكريات ننبشها من الماضي ، من الذاكرة المتعبة والجسد المنهك ، والروح التي لا تزال تشتعل وتتقد ، فيها من التوثيق وفيها من الحب وفيها من دواعي التقدير للملوحي وجهده ما يجعل نشرها ضرورياً ، وفي هذا الجزء يلملم ذكريات حوادث ما بين 1917 – 1936 عشرون عاماً من الطفولة التي كونت الكاتب والتي وضع فيها الركائز لـ 267 كتاباً في الشعر والقصة والنقد والتحقيق والترجمة ..
في واحدة من زياراتي له فاجأته بالحوار ، قلت : هل نبدأ حوارنا الآن ؟ ضحك وسألني ما إذا كنت جاداً وغيرت عادة وعودي المطاطية وأنا أعترف بأنّ مطالبتي له بالحوار تعود إلى سنتين مضتا ..
لا أريد أن أعرِّف بعبد المعين الملوحي ، بل سأترك له الكلام ليقول كل ما يريده .
اكتفيت فيما يلي بالطفولة وستأتي بعدها مرحلة الكتابة ومرحلة الوعي ، ثم يأتي أخيراً حوار حول أدبه وآرائه الحالية ، ثمانون سنة لا يمكن اختصارها بهذه الصفحات ، وإن كنت سأحاول .
ثمة ملاحظة أخيرة حول التداخل بين الحوادث والانتقال بين أعوام كثيرة قد تكون بعيدة فرضها تداعي الأفكار ، والحادثة التي قد تذكر بحادثة مستقبلية أو ماضية والحكمة التي خرج بها الملوحي من هذه التجارب .
حوادث … ذكريات
* لو تستجمع ما بقي في ذاكرتك من حوادث الطفولة ، وتقص عليّ بعضها إذا كان ذلك لا يرهقك ، حتى أستطيع أن أتخيل الجو الذي عشت فيه والبيت الذي ولدت فيه ..
ـ ولدت عام 1917 في بيت في باب هود في حمص أصبح بعد ذلك مدرسة وعندما صرت مفتشاً دخلت المدرسة ونظرت إلى المكان الذي ولدت فيه ، كنت في طفولتي ضعيف الجسم مريضاً ، وذات يوم انقطعت أنفاسي فظن أهلي أني مت ، فجاؤوا بطاولة البصل والقوني عليها وسخنوا الماء ، فلما أصابني الماء ارتعشت وعشت وأظن أنني ما أزال حتى الآن أعيش ، وكان لبن أمي قليلاً جداً فكانت تقف في الباب وتنادي كل امرأة مرضع لترضعني ، وكانت تمر أنواع شتى من النساء ، النوريات والأرمنيات .. وهكذا اختلطت في دمي كل الدماء ، وما أزال أشعر بآثار هذه الدماء المختلطة في دمي وسلوكي .
قلت له مقاطعاً :
* هل يرجع سبب معايشتك لكل الثقافات والآراء التي تبدو أحياناً متناقضة للعابر إلى حليب هذه النساء ؟..
ـ أعتقد ذلك ، لقد قلت لك أنّ دمي تختلط به دماء العالم ، ولذلك فلا عجب أن أنتقل من أدب إلى أدب كما تنقلت في الرضاعة من امرأة إلى امرأة ، و لا سيما من تلك المرأة التي جاءت من مشتى الحلو وسكنت في حمص وعملت في معمل الحرير هناك ، وكانت تأتي كل يوم لترضعني مع ولدها عيسى .
وعاد إلى ذكرياته من جديد .
وحادثة أخرى ذات دلالة ، أنت تعرف أنّ الأمهات يخفن على أولادهن أن يتشردوا في الطرقات وكان أهلي مثل سائر الناس يخوفّونني من الضياع ويقولون لي أن الغولة تأكلني إذا ضعت ، وأن الضبعة تمتص دمي ولكني ضعت ذات يوم ، ومضيت في الطرقات إلى حي خالد بن الوليد ، فالتقطتني امرأة وسألتني عن أهلي ثم أطعمتني ووضعتني في سرير لا أزال أذكر أن له ( ناموسية ) وكلن السرير نظيفاً جداً ونمت نوماً عميقاً وهادئاً واستيقظت بعد العصر فأخذتني المرأة إلى بيت أهلي وأمسكت بي بيدها ، ومنذ ذلك الحين عرفت أنّ الناس أخوان وأنهم ليسوا غيلاناً ولا ضباعاً ، ونبذت منذ ذلك الحين كثيراً من الخرافات والأباطيل وما يخوفني به الناس من الناس ، وأظن أني منذ ذلك الحين آمنت بالإنسانية وضرورة وحدة الشعوب .
* ولكن يا جدي ـ اسمح لي أن أناديك هكذا ـ ألم يغير ضياعك في العالم بعد ضياعك في حارات حمص رأيك في الناس ، أيمكنك أن تساوي بين الشر والخير في العالم ؟..
أعتقد أن زياراتي للعالم عمقت رأيي في طيبة الناس وفي السعي إلى وحدة الشعوب ، لقد كنت أرى في كل مكان حللته أصدقاء وأخواناً يبادلونني حباً بحب وتقديراً بتقدير ولا سيما حين زرت الصين ومنحتني لقب أستاذ شرف في جامعة بكين أعتز به طوال حياتي .
حادثة رابعة ذات دلالة ، زرت خالتي وكانت تقطن في حي بني السباعي وكانت في الحي خربة لبناء قديم من حجر أسود ، وكنت أتجنب النظر إليها ، وذات يوم مررت بها ونظرت وخيل لي أن الله يقطن في تلك الخربة فخفت وأسرعت راكضاً ، وظل منظر الخربة يعيش في خيالي حتى الآن ، ولكني أضفت إلى خوفي من الله إيماني برحمته ، وربما كان أثر الخوف يمتد إلى مرحلة شكي . ولكن تركت هذه المرحلة وعدت إلى الإيمان بعدل الله ورحمته .
حادثة أخرى أيضاً أثرت في حياتي وما تزال تؤثر ، كنت في الصف الرابع في المدرسة الابتدائية ، وهي الميتم الإسلامي وكان معنا في الصف صبي جميل غني دخل الصف ذات مرة وقال أنه قرأ في المرحاض وهو ـ كما تعلم ـ دفتر الشياطين ،كلمة تسيء إليه واتهمني بكتابتها ، وكانت في يده كأس ماء فقال : سأرمي هذه الكأس فمن يسقط عليه الماء فهو الذي كتبها ، وأدار الكأس بشكل سقط فيه الماء علي ، فبكيت وشكوت إلى المدير فلم ينصفني ن وكان في المدرسة أستاذ تقدمي إلى حد ما ، قال لي هذه الكلمة : يا عبد المعين أنت صغير لا تعرف الحياة ولكنك ستكبر وتجرب وتعرف صراع الطبقات . والحق أني جربت بعد ذلك وتعلمت وأضيفت إلى هذه الحادثة حادثة أخرى ، كنا في الصف الخامس الابتدائي في المدرسة نفسها وكنا تلاميذ هذا الصف ندرس في بيت واحد منا كل أسبوع ، وعندما جاء دور زميل لنا أرستقراطي ذهبنا إلى بيته فخرج إلينا أبوه وطردنا من الباب ، فليس يليق بنا نحن الفقراء أن ندخل وندنس بيت هذا الغني وخرجنا خاسئين لنقضي يومنا كله في اللعب في بيت مهجور كان يقع إلى جانب ذلك القصر ، وشهدت في حياتي حوادث كثيرة أخرى عززت إيماني بالشعب وضرورة العمل على رفع مستواه وعلى تجنيبه الفقر والجوع ، قامت الحرب العالمية الثانية وانتشرت البرداء (الملاريا) انتشاراً مرعباً في حمص ، وكان أقصى ما فعلته الحكومة أن وضعت إعلانات في وسط المستنقعات تقول : ( البعوض ينقل الملاريا ) واستطعنا نحن الشباب أن نجمع بعض التبرعات وأن نشتري بعض حبوب الكينا وتوزعنا في الأحياء الشعبية ودخلناها بيتاً بيتاً ، وكانت مناظر هذه البيوت مرعبة ، قاسية ، كانت الأسرة بكاملها تنام على أكياس مثقوبة من الكتان ويرتعد أهلها ويرتجفون لا غذاء ولا كساء ولا فراش ولا طعام وشعرت أني مجرم إن لم أغير هذه الأوضاع الأليمة التي يعاني منها شعبي وفقراء هذا الشعب على الخصوص .
أسرتي
* لو ندخل قليلاً في خصوصيات عائلتك ، وعلاقتك بأسرتك ..؟
ـ كان أبي المرحوم الشيخ سعيد الملوحي شيخ حمص وإمام المسجد النوري الكبير ، وكان يوقظنا عند الصباح لصلاة الفجر ، فكان أخواني يتململون ولا يستيقظون ، أما أنا فكنت أستيقظ ، وما أزال أحتفظ حتى اليوم بيقظتي قبل طلوع الشمس صيفاً وشتاء ، ثم تعب الشيخ من إيقاظنا عند الصباح فتركنا ننام ، أما أمي فكانت تعرف القراءة والكتابة وكنا نقرأ أنا وأقراني سراً كتاب ” رجوع الشيخ إلى صباه ” وهو كتاب جنسي فاضح ، وشعرت أمي أننا نطيل قراءة هذا الكتاب وقرأت عنوانه فغضبت وألقته في المرحاض ، وجئنا بعد ذلك بألف ليلة وليلة في طبعتها الشعبية ، وكان مصير هذا الكتاب مثل مصير صاحبه السابق .
كنت مدللاً عند أبي وأمي لأني كنت مجتهداً ، ولم أترك المدرسة يوماً من الأيام ، ولكن أخي أغراني ذات يوم فهربنا من المدرسة وذهبنا مشياً على الأقدام إلى قرية على ضفاف العاصي تدعى ” الغنطو ” وكان أخي الكبير أنيس معلماً فيها فأعادنا إلى الدار ولم يضربني أبي ولم يعاقبني ولكنه ربط أخي عبد الحفيظ بالحبال في شباك الغرفة الحديدي ، وظل طوال الليل هناك .
وقد تعلمت من أبي سعة القلب وحرية الرأي . كان هو الذي يتولى زواج النساء والرجال ويتولى الطلاق قبل إنشاء المحاكم الشرعية ، وثارت ضجة في البلد مفادها أنّ الشيخ سعيد لا يطلق امرأة من زوجها بل يعيدها إليه لقاء خمس ليرات سورية ، وسمعت الضجة وتجرأت ذات يوم فسألت أبي : لماذا لا تطلق النساء ؟ قال: يا بني إنني أتبع مذهب الإمام زيد . فسألته ، وما هو مذهب الإمام زيد ؟ قال إنه يعتبر الزواج شركة بين الرجل والمرأة لا يحق لأحد الشريكين أن يلغي الشركة إلاّ برضى الفريق الثاني ، والمرأة حين يطلقها زوجها وحده ، ولا تقر هذا الطلاق تجعل الشركة قائمة إلاّ إذا رضيت طلاقها هي من زوجها وأعتقد أنّ هذا المذهب ـ إذا صح ما ذكره أبي عنه ـ يصلح لكل المجتمعات الإسلامية ويقضي على هذا الوباء الذي يفتك بالأسر والأطفال ويحول الأولاد أيتاماً مشردين .
* وهل كانت علاقة والديك مجرد شراكة أم أنها كانت علاقة حميمة تضفي على الجو حناناً ؟..
ـ كانت العلاقة بين ابي وأمي علاقة حميمة ودية وأتمنى أن تكون حياة الناس على شكلها فهو لم يتزوج غيرها . ولم يفكر يوماً في طلاقها ، وذات مرة كانت في دمشق فغابت طويلاً ، وعندما عادت إلى حمص طردها من البيت وخفنا أن يكون قد طلقها ، وعندما راجعناه ضحك وقال ، اذهبوا إليها وعودوا بها ، وقولوا لها :
وراحت إلى العطار تصلح شأنها
وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
أبي
* هل كانت علاقتك بأمك أكثر قوة أم علاقتك بأبيك ؟..
ـ كنت أحب أبي وأحترمه أكثر مما أحب أمي ، فقد كانت أمي قاسية بعض القسوة علي ، أما أبي فكان يفهمني فهماً مطلقاً ، وأذكر أنني كنت أقرأ في مكتبته وهي مكتبة دينية تضم كثيراً من كتب التفسير ومن الأحاديث ومن كتب الفقه ، وذات مرة قرأت في أحد تفاسير القرآن هذه الجملة المرعبة : ” فصل في أنّ من يقول إن المطر ينزل من السحاب كافر من أحد عشر وجهاً ” ثم يعدد التفسير هذه الوجوه ، فأنكرت هذا الكلام ، وعندما نقلت لأبي إنكاري قال لي بالحرف الواحد : يا بني كل ما لا يتفق مع العلم فليس من الدين ، فلا تأخذ بأقوال كثير من المفسرين والفقهاء .
تعرفت على القراءة
* أتعجب كيف قرأت كل هذه الكتب ؟ كيف بدأت القراءة ؟.. ماذا قرأت ، ما هي الكتب التي شعرت نحوها بالحب ؟ هل تذكر مما حفظته في تلك الأيام البعيدة ؟ هذه الأسئلة تراودني باستمرار كلما زرتك ؟..
ـ كنت أقرأ كل ما يقع بين يدي من كتب ، الكتب الدينية والأدبية ودواوين الشعر والمجلات وأذكر على الخصوص مجلة أثرت بي كثيراً وكان أخي مشتركاً فيها ، وهي مجلة ” الحديث ” التي كان يصدرها في حلب الستاذ المرحوم سامي الكيالي ، وقد كانت مستودع ثقافة غربية وشرقية على حد سواء ، وكان يشترك في تحريرها كبار الشعراء والأدباء في كل الأقطار العربية ولا سيما في مصر وسوريا، ومن غرائب المصادفة أنّ أستاذي في المدرسة الابتدائية ، لأني كنت مجتهداً في دروسه .. أهداني مجلة ” المقتطف ” ولا أزال أذكر أنّ صورة الغلاف كانت صورة حية تبتلع بيضة كبيرة وكانت أول مكتبة أسستها هي مكتبة النملية (1)
التي استغنى عنها أهلي فأدخلتها غرفتي ووضعت لها زجاجاً وجمعت فيها كتبي .
* ماذا كنت تقرأ ؟ وما هي الكتب في مكتبتك ذلك الوقت ؟..
ـ كنت أقرأ بشكل وحشي ، أجلس على الحصيرة حتى تصبح ساقي حصيرة أخرى فإذا انتهيت ووقفت أصبت بالدوار فوقعت على الأرض ، وفي الليل كنت أضع على منضدة صغيرة كازاّ ( نمرة 1 )(2) واقرأ كثيراً حتى ينبلج الفجر ، وكان بدء اطلاعي على الأدب الروسي غريباً جداً فقد مررت ببقالية تبيع القضامة والسكاكر فطلبت من صاحب الدكان أن يعطيني ” قضامة ” بخمسة قروش فجاء بكتاب وهم بتمزيقه ليضع ” القضامة ” في إحدى صفحاته ، فقلت له لا تمزق الكتاب فأعطاني إياه فإذا هو كتاب ( مذلون مهانون ) للكاتب الروسي الكبير دوستيفسكي باللغة الفرنسية ، فأعطيته سعره ، فقال لي : هل تريد غيره ؟..
قلت نعم فأراني كومة كبيرة من الكتب باعها مستشار فرنسي كان في ” الرستن ” وكان من أنصار بيتان فلما دخل ديغول إلى سوريا هرب إلى فرنسا وباع مكتبته بالجملة ، أذكر أني اشتريت أكثر الكومة من الكتب بخمس ليرات سورية هي كل ما أملك وما تزال هذه المكتبة نواة مكتبتي باللغة الأجنبية ، واذكر أني حملت كتاب دوستيفسكي وسرت به في شارع حمص الكبير فرأيت المرحوم الدكتور سامي الدروبي فاستعاره مني وكان هذا آخر عهدي بالكتاب كما هي العادة بين المعير والمستعير .
وأذكر لك حادثة تتعلق بقراءتي للكتب ، كنت في القاهرة في السنة الرابعة في الجامعة وكان أستاذنا الدكتور شوقي ضيف فسأل الطلاب قائلاً من قرأ كتاب الأغاني ؟ وأطلب من عبد المعين ألا يجيب ، فلم يجب أحد ، فاستطرد قائلاً : أنت قرأت الأغاني طبعاً يا عبد المعين ؟ قلت له : قرأته قبل أن آخذ البكالوريا الأولى ، فقال لي في تواضع العلماء وجرأة المفكرين أتعرف أني لم اقرأ الأغاني إلا بعد أن نلت شهادة الدكتوراه ..
وفي دار المعلمين الابتدائية والعليا لم أترك كتاباً إلاّ وقرأته ، وكانت لي عادة رائعة هي أن ألخص الكتاب وأن اسجل بعض أفكاره وموضوعاته ، وعندي الآن ، وأشار إلى أحد رفوف المكتبة ، أكثر من عشرة دفاتر كبيرة فيها تسجيل لهذه المطالعات ولكني ويا للأسف كففت عن هذه العادة الجميلة واكتفيت بتسجيل ملاحظاتي في أواخر الكتب التي أطالعها وفي هوامشها وليتني حافظت على تلك العادة إذن لكانت لي منها مجلدات ومجلدات .
بين معترضتين
تذكر عبد المعين الملوحي أثناء الحديث قصة ” وردة ” فأحب أن يذكرها حتى لا ينساها وهذه هي : كانت وردة مرضعتي وهي عاملة في مصنع الحرير في حمص وكانت تحمل ولدها عيسى من باب السباع وهو الحي الذي يقوم فيه المصنع إلى جورة الشياح ، وهو حينا ،وبينهما أربعة كيلومترات على الأقل ، كانت تحمل ولدها وتمضي سيراً على الأقدام لترضعني وكنت اشعر في حضنها باطمئنان عجيب وحنان غريب ، وسافرت وردة إلى قريتها في ” مشتى الحلو ” وانقطعت أخبارها ، وعندما توليت التفتيش في محافظة حمص وحماه واللاذقية بحثت عنها طويلاً فعلمت أنّها ماتت ـ يرحمها الله ـ وبحثت عن أخي في الرضاعة عيسى فقيل لي أنه سافر من قريته طلباً للرزق ، وما أزال أبحث عن هذا الأخ الضائع ، وعسى أن القاه ذات يوم ، أو عسى أن يقرأ هذه السطور فيتصل بي .
أخيراً
* هل كان للجو العام تأثير على حياتك ، أم أنك كنت منشغلاً بالأسرة فقط ؟..
ـ أذكر في عام 1924 تزوج أخي الكبير ـ وكان قومياً عربياً ـ فاستدعى الدهان لطلاء البيت ورسم مخططاً للعلم العربي وطلب من الدهان طلاءه بألوانه الأربعة . وعندما قامت الثورة السورية الكبرى سجن أخي الكبير فخاف الشيخ والدي على أولاده الآخرين وخافت أمي فجاء بكلس وصعد الشيخ على السلم وأمسكته أمي وجعل يدهن العلم العربي بالكلس ويبكي ونحن الأطفال واجمون لا ندري لهذا سبباً ..
وما تزال آثار العلم العربي بارزة في صدر إيوان البيت منذ ذلك الحين ، كل هذه الحوادث تركت في نفسي انطباعات قوية دامغة وكانت أفكاري ونفسيتي وعقليتي نتيجة مباشرة لكل هذه الآثار والانطباعات التي أحياها في أعماقي حتى اليوم .
***
انتهت جلستنا اليوم مع عبد المعين الملوحي وأنا شعرت بالإنهاك الذي أصابه ، تهدج صوته ، وبدت ملامحه متعبة ، وعندما انتهت ذكريات الطفولة ودعته وخرجت .
ــــــــــ
(1) النملية : خزانة خشبية كانت تستخدم لحفظ الطعام .
(2) نوع من المصابيح التي كانت تستخدم للإنارة وتستهلك مادة الكاز (الكيروسين )