أرجوذة الأحفاد وقصر يلدز

القصيدة المجنونة
قصر يلدز
بين الحلم الحلو والواقع المر
تمهيد :
لي في حمص غرفة واحدة سميتها تفاؤلاً أو جنوناً ” قصر يلدز ” جئتها كعادتي في كل عام – من دمشق لأقضي وحيداً أياماً في بلدي وبين أحبابي وإخواني ، وفي طريقي في السيارة غفوت قليلاً – خمس دقائق أو أقل – وبدأت بنظم قصيدة أمدح بها ” قصر يلدز ” وأصفه كما تراءى لي في أحلامي . فلما صحوت وجئت الغرفة وجدتها تعيث فيها الجرذان ، وتطفو فيها الأقذار ، وقد أكلت الجرذان أشعاري وقرضت ثيابي ، وقضمت أقلامي ، فحولت القصيدة من مدح إلى هجاء ومن حلم حلو خصيب إلى واقع مر جديب ، وأنهيتها بتأملات في الحياة كما أوحاها إلي ” قصر يلدز ” أولاً ثم غرفتي النكراء ثانياً . وإليكم القصيدة ، وهي في مخطوط ديواني ص 827 :
 
المشهد الأول :
إذا لم تقم في «حمص»في قصر «يلدز»

وقد كانتِ الدنيا عروساً  بهيَّـــــةً

ويبرز وجه الأرض للعين  واسعـــاً

عددنا له تسعاً وتسعين   قاعـــــةً

كستْها يدُ الفنان ظهراً و باطنـــــاً
له روضةٌ غناءُ تزهو بحسنهـــــا

وماستْ بها الأشجارُ تسمو غُصونُهــا

ومن تحتها الأنهارُ تجري مياههـــا

وتلقى بها الشلالُ حيناً معربـــــداً

وقلتُ لهُ : ـ والحِقدُ يأكل قلبَــــه ـ

ونافورةٌ أعيا الأساةَ زفيرُهــــــا
 
وتسبحُ فيها الفاتناتُ  عشيــــــةً
وتسقي مروجاً، كالزُّمُرُّدِ خضــرةً ،

وأزهارُها من كلِّ لونٍ  تجمّعـــتْ

فمن أبيضٍ بالحبّ والقربِ بشــــرا

إذا هبتِ الأنسام تستافُ عطرَهــــا

تغني القيان الغيدُ في جنباتــــــه

وتسعى به الغلمانُ من كل أمـــــة

وتشدو به الأطيارُ جذلى  قريــــرةً

إذا هبطتْ أرضاً لتنقرَ  حبــــــةً

له شرفاتٌ سامقاتٌ  تبرَّجَــــــتْ

فودَّ وداداً لو يفوزُ  ببعضهــــــا

ومكتبةٌ طالتْ وغَصّت  رفوفُهــــا
له مطبخٌ بالخير ضاقتْ رحابُــــه

إذا ما اشتكتْ بعضُ البلاد مجاعـــةً

وحفَّتْ به الأجنادُ من كلّ جانـــبٍ

يكاد يضيء الليلَ وهجُ سلاحـِــــه

وأقبل جنكيزٌ يقود جيوشَـــــــه

وأقبل أوناسيسُ يشكو خصاصـــةً

فراح سعيداً شاكراً حسنَ نجدتـــي

وجاءتنيَ الضيفانُ شرقاً ومغربــــاً

إذا جاءَ صبحاً معشرٌ ثم معشــــرٌ

وزارت فراشي الضخم “مونرو صديقتي”

وقلت لها : – والليلُ يُرخي سدولـَـه –

إذا ابتسمتْ فالكونُ يمطر  لــؤلــؤاً

وبتنا – وابليسٌ يموت بغيظـــــهِ –

جلست على عرشي أراقب راحمـــاً

وأرسلتُ طرفي في مرابع ”  يلــدزٍ ”

وأدركني ربي بواسعِ عطفــــــه


قضيت َالليالي نادما ًمتحســـرا

فصارت بهِ أبهى وأروعَ منظــرا

فلما تعالى القصرُ أصبح  أكبـــرا

وعَددّها ” الحاسوبُ ” أوفى و  أوفرا

صفائح ألواناً ، رخاماً ومرمـــرا

إذا سار فيها الطرفُ أعيا و أقصـرا

إلى النجمِ بعد النجمِ شامخةَ الـذرى

فنشربُها خَمراً وشهداً وكوثـــرا

وحيناً على كف الرياحِ  مبعثـــرا

ألستَ تَمَلُّ العيشَ فينا مزمجــرا ؟

ترى الماءَ فيها صاعداً متحـــدرا

فكُنَّ مِنَ الأسماك أبهى وأمهــرا(2)

تحيلُ القلوبَ السودَ روضاً منــوِّرا

كأنّ لها عرساً تباهي به الــوَرى

ومن أحمر بالصدِّ والبعدِ أنـــذرا

تضوعتِ الأنسامُ مسكاً وعنبـــرا

فلا تشتكي الأسماعُ لحناً مكـــررا

فأسودَ غربيباً وأبيضَ  أشقــــرا

بعيشً أبتْ لذّاتُه أن  تُكَـــــدَّرا

سمت في سماء اللهِ شَبعى لتشكــرا

رآها ” مكالٌ ” شاردَ اللب أحسـرا(3)

لتغدو قصورُ الغرب أبهى وأنضـرا

بكتبٍ فكادَ الرفِّ يغدو مفكــــرا

ففيه ترى لحماً ورزاً و سكــــرا

كفاها فعاد العيشُ ريانَ أخضـــرا

إذا ما مشى الجنديُّ فيه تبختـــرا

وإن كانَ هذا الليلُ أسودَ أغبـــرا

فلما رآهم طارَ ذعراً و أدبــــرا

فأعطيته ما شاء نقداً وجوهـــرا(4)

وما كنتُ أعطي كي أثابَ و أشكـرا

فأكرمتهم في ” قصر يلدز ”  أشهـرا

أُودّعُ عصراً معشراً ثم معشـــرا

فقلت لها : أهلاً وسهلاً مُعَطـــرا

حنانَك ، هذا الوجه بالصبح  أسفـرا

وإن ضحكتْ أضحى كماناً و مِزهرا

فلا تسألوني بعد ذلك ما جـرى …

على البؤسِ والحرمانِ كسرى وقيصرا

فكدت – معاذَ الله ِ- أن أَتَجَبّـــرا

وأبرزَ لي قصري من الكوخِ   أحقرا

 
المشهد الثاني :
صحبتُ جنوني ساعةً ثم عاد  لـــي

وكل امرئ فيه من الجن  طائــــفٌ

وقد يجدُ المحرومُ في الوهم سلـــوةً

ولولا جنون الناس لم يرتقوا السما

خيالٌ تراءى في منامي مُجنّحــــاً

ونادى ألا أَسْرِعْ لكوخِك،إنــــه

وألفيتني في غرفتي متفــــــرّداً

وقد فاضتِ الأقدارُ حولي فليتنــــي

ومن حوليَ الجرذانُ تبدي  نيوبَهـــا

تُمزقُ أثوابي وتذرو قصائـــــدي

وقال كبيرُ القومِ – وهو يروزُنـــي –


أيزعمُ هذا أنهُ كانَ  شاعــــــراً

إذا صار جرذونُ المجارير  شاعـراً

ولما رآني لا أطيقُ  تحركــــــاً

تطاولَ عدواناً وأبدى مخالبــــــاً

إذا صحتُ ولّى مُدبراً ثم  عاد لـــي

وأنقذني زين الرفاق مــــن  الأذى

ولولا الوداد المحضُ لم يكُ  منقــذي
إذا حُرم الإنسانُ قلباً يحبـّــــــه

صوابي وكان الحلمُ بالشيخ أجــدرا

تَعَوَّدَ أن يخفى زماناً ويظهــــرا

إذا عيشه في الواقع الحيِّ أقفـــرا

ولانصبوا في هامة النجمِ  منبــرا

فلما دنا نور الصباحِ  تقهقــــرا

تَعيث به الجرذانُ عَيْثاً مُدَمـِـــرا

وعظمي على الأرضِ العراءِ  تكسَّرا

عشيتُ ولم أنظر بعينيّ منظـــرا(6)

لتقضمَ شيخاً يابس الجلد أصفـــرا

وتتركُ أقلامي هشيماً  مبعثــــرا

ويقرأ شعري ساخطاً  مُتَذَمـّـــرا

وقد كنتُ أرقى منه ذوقاً و أشعــرا

فقد طاب وردُ الموت أسودَ – أحمرا(

ولم يخشَ لي بأساً ولم يخشَ منكرا

وحَدّدَ أنياباً وأقبل  منــــــذرا

– إذا لم أصحْ – مستنوفِزا مُتَنَمِّــرا

وأنجد إنساناً هوى وتعثـــــرا(8)

ولم ينصرِ المشلولَ نصراً مــؤزّرا

وصحباً كراماً عاشَ أجذمَ ابتـــرا

المشهد الثالث : عظة الأيام
 
تساقطتِ الأحلام تترى  كانّهـــــا

وأسفرَ لي وجهُ الحقيقةِ مرعبـــــاً

برانيَ ربي مذ براني مُعَتّـــَـــراً

وما كان علمي غيرَ قوقعةٍ طفــــتْ

وما كان قلبي غيرَ ماءِ غمامـــــةٍ

قضيتُ حياتي جاهلاً  متحيـــــراً

وحسبي من الدنيا رغيفٌ وغرفــــةٌ

إذا سمع الإنسانُ صوتَ   ضميـــره


سرابٌ زها مرأى وأجدب  مخبــرا

وقال : تصَبّرْ إن أطقتَ تصبـــرا

وأحمدُ ربي أنْ براني  معتــــرا

ضباباً إذا اشتد النهارُ تبخـــــرا

إذا مَسَّه ريحُ الشمالِ  تحجــــرا

وأمضي لقبري جاهلاً متحيــــرا

تَضُمُّ – على ضيقٍ – كتاباً و دفتـرا

تواضعَ فاستعلى وأغضى  فأبصرا(9)

 
المشهد الرابع : خاتمة المطاف
كاية قصر كان قصراً  ممــــرّداً

إذا زرتَ بعدَ اليوم أطلالَ ” يلـــدزٍ ”

وياقصر قد قصرت في صون صحبتي

سَأَجْزيكَ بعدَ المدحِ ذَمّاً وسُبَّـــــةً

 

فأصبح كوخاً عابسَ الوجهِ  أكــدرا

قضيت الليالي خاشعاً  متفكــــرا

وما كنتَ قبل اليوم عنــدي  مُقَصِّرا

فتعساً لِمنْ خانَ الهوى وتَغَيَّــــرا
حمص : يوم الأربعاء 27 / 9 1989

الهوامش :
(1)   الحاسوب الكومبيوتر
(2)   الزهر الأبيض للحبيب السعيد ، والزهر الأحمر للحبيب الشقي
(3)   ميكال : هو ميكال أنجلو الفنان الإيطالي المشهور
(4)   الغربيب : الشديد السواد
(5)   أوناسيس : الثري اليوناني الكبير
(6)   مونرو : هي مارلين مونرو ، ملكة الإغراء في العالم
(7)   الشطر الثاني مقتبس من شطر لامرئ القيس

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *