الشعب العربي في معركة الحرية

(قراءة في كتاب قديم)

قرأت منذ أيام كتاب (المحن) من تأليف محمد بن أحمد التميمي الملقب «أبا العرب».

– ترجمة التميمي:

ولد التميمي عام 251 هـ و 865 م، وتوفي عام 333 هـ و 945 م، وهو مؤلف حافظ للحديث، من أهل القيروان بأفريقية، قيل: كتب بيده ثلاثة آلاف كتاب، وله عدة تصانيف منها: «كتاب التاريخ» في سبعة عشر مجلداً، و «مناقب بني تميم».

هذا الكتاب: «كتاب المحن»[1]

– كتاب المحن:

يتناول الكتاب موضوع المحن، كما جاءت في الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والتابعين، ثم يعرض لما نزل بالصحابة والزهاد والفقهاء والعباد والقادة والولاة والمحدثين والقراء من محن، مثل الترويع والسجن والتعذيب والتغريب والقتل والصلب والقطع وغير ذلك.

تحقيق الكتاب:

قام بتحقيق الكتاب د. يحيى وهيب الجبوري، الأستاذ في جامعة قطر وطبعته دار الغرب الإسلامي في بيروت طبعتين: الأولى عام 1403 هـ و 1983 م، والثانية عام 1408 هـ و 1988 م، وكتب له مقدمة ضافية تناولت المؤلف وعددت مؤلفاته وتحدثت عن أصل مخطوطة كتاب المحن.

وهي في جامعة كامبريدج بإنجلترا رقم تصنيفها ( Qq235) ويقدم المحقق قائمة طويلة بأسماء الكتب التي ألفت في موضوع المحن والمقاتل وأسماء  الكتب التي تعرضت ـ من قريب أو بعيد ـ  للمحن.

وكتب المحقق في مقدمته معلقاً على كتاب (المحن):

«لاشك أن المؤلف كان في عصر سادت فيه الفوضى، كثر العنف وساءت الأحوال السياسية واضطرب حبل الأمن، وصار الناس يتخطفون: تتخطفهم أيادي الظالمين, وينكل بهم أعوان ولاة الجور، من أشقياء هذه الأمة الذين امتهنوا صناعة البطش بكل فكر حر، وكل مؤمن صابر محتسب، لايسير في ركب الباطل، ولايبرر جور السلطان، ولايسبح بحمد الطغاة، وماأشبه الليلة بالبارحة.

فراح أبو العرب يلتمس الأسوة والعزاء له ولأبناء عصره المقهورين، بأن يلتفت إلى التراث فيلتمس العزاء بما أصاب أصحاب رسول الله..

وقد كان أبو العرب ممن ابتلي بالحبس والخوف والتهديد، هو وأصحابه من العلماء الأشراف.

إن هذا الكتاب في حقيقته صرخة رجل حر الفكر، أبي النفس، أراد أن يهجو الظالمين بنشر سيئات أعمالهم، وأراد أن يخلد الصالحين الصابرين الذين صبروا على الأذى وضحوا بدمائهم رخيصة دفاعاً عن عقيدتهم وشرفهم…

عرض الكتاب في إيجاز

يقسم التميمي كتابه خمسة أجزاء:

الجزء الأول: ويتحدث فيه عن مقتل الخلفاء الراشدين الثلاثة: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ولم ينج من الخلفاء الراشدين الأربعة من القتل إلا أبو بكر الصديق.

الجزء الثاني: من قتل يوم الجمل وفي صفين وفي حروب الخوارج ويتحدث في إسهاب عن مقتل الحسين بن علي ومن قتل معه في كربلاء ويفصل أخبار يوم الحرة، وهو اليوم الذي قتل فيه مسلم بن عقبة، قائد يزيد بن معاوية، ثمانين أصحاب النبي، بضمنهم أخر من بقي من البدريين (المشاركين في معركة بدر)، وقتل سائر الناس عشرة آلاف إنسان ويعد التميمي أسماء عدد غير قليل منهم حسب قبائلهم، وينهي الجزء الثاني بمقتل عبد الله بن الزبير وحصار الحجاج لمكة وضرب الكعبة بالمنجنيق.

الجزء الثالث: وفيه أخبار المجازر التي وقعت في العراق والشام مثل معركة مرج راهط ومذبحة دير الجماجم وذكر من قتله الأزارقة  والخوارج، ومن صلب بعد القتل ومن سقي السم. بل إن النساء لم يتخلصن من الإرهاب والقتل، فهذا مصعب بن الزبير يقتل امرأة، وهذا عبيد الله بن زياد يقتل المرأة البلجاء من بطلات الخوارج ويمثل بها تمثيلاً شنيعاً فيأمر بقطع يديها ورجليها وسمل عينيها فتستقبل الموت في شجاعة لانظير لها، فما قالت: حس[2]، ثم يأمر فيلقى بها في السوق.

الجزء الرابع: يفصل  أبناء الذين ضربوا من المسلمين والعرب، ومنهم أبو سعيد الخدري وسعيد بن المسيب، ومالك بن أنس، وماامتحن به أبو ذر الغفاري، خامس المسلمين ونصير الفقراء الذي يضرب به المثل في الصدق، وينقل التميمي عن الأحنف بن قيس قوله[3]: أتيت المدينة ثم أتيت الشام فجمعت[4]؛ فإذا أنا برجل لاينتهي إلى سارية إلا فر أهلها… فجلست إليه فقلت: ياعبدالله من أنت؟ قال: أبو ذر. قال فقال لي: من أنت؟ قال قلت: أنا الأحنف بن قيس. قال: فسر عني، لاأعُرُّك بشر. فقلت: تعرني بشر، فقال: إن هذا ـ يعني معاوية ـ ينادي مناديه ألا يجالسني أحد.

(ولعمري إن هذا نوع غريب من الإرهاب).

الجزء الخامس: ويواصل التميمي الحديث عمن ضرب وسجن وامتحن، ومنهم عبدالله بن مسعود، والشعبي ، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة ويتحدث طويلاً عن أيام المحنة في القرآن، وهل هو مخلوق أو غير مخلوق، هذه المحنة التي قام بها المعتزلة، واعتمدوا في إرهاب مخالفيهم على من ناصرهم من الخلفاء مثل المأمون والمعتصم، وكان من أكابر من اضطهدوهم أحمد بن حنبل، فقد حبس تسعة وعشرين شهراً ثم ضرب تسعة وثلاثين سوطاً.

وروى التميمي حادثة ضرب أحمد بن حنبل في تفصيل أوفى فقال:

«كتب المأمون إلى عامله بطرطوس ووجه إليه كتاباً فقال: اقرأ عليه (على أحمد بن حنبل) فإن أقر بما فيها وإلا فاقطع يديه ورجليه. فقرأ عليه الكتاب فقال له أحمد: القرآن كلام الله، وكلام الله غير مخلوق، فأراد العامل إنفاذ أمر المأمون، فقام رجلان من أهل الدين والفضل دون أحمد… وقام معهما عالم من الناس فمنعوه وسلم أحمد إلى أيام المعتصم.

قال أبو عمران: وأنا حاضر بباب الخلافة إذ أحضر أحمد، وأمر الجلادين فعلقوه بين السماء والأرض ووقف له ستين جلاداً، ثلاثين ناحية وثلاثين ناحية، وأخذ المعتصم يستجوبه ويأمر الجلادين بضربه حتى كاد أن يفارق الحياة وهو بين يديه. ثم خلى عنه.

دروس كتاب المحن:

هذا موجز مختصر جداً لموضوعات الكتاب، فما هي الدروس التي تعلمناها منه؟ وهذا هو المهم: أما أنا شخصياً فقد خرجت بعد قراءة الكتاب مرات بهذه الانطباعات:

أولاً ـ الاضطهاد والتعذيب والإرهاب مستمرة منذ كان الإنسان وانقسم المجتمع إلى حاكم ومحكوم، ومايزال هذا الطغيان حتى الآن… ويبدو أن الإرهاب كان ـ على الخصوص ـ شديد الوطأة على المسلمين والعرب طوال عصورهم القديمة والحديثة.. وكأنهم لم يعرفوا الحكم الديمقراطي العادل إلا في فترات قصيرة من تاريخهم الطويل ويخيل إلي أننا قل أن نجد من رجال الفكر والدين والدولة من نجا من الإرهاب في مختلف أشكاله….

ثانياً ـ إذا كان هذا الإرهاب قد نال كبار الناس وعلماءهم وفقهاءهم فما حال الشعب العادي المحروم في ظل هذه الأنظمة الإرهابية؟

ثالثاً ـ كنت أعد المعتزلة من أوائل المدافعين عن حرية الفكر لأنهم ذاقوا بعض الاضطهاد، ولكنهم ـ وياللأسف ـ عندما وجدوا بعض الحكام الذين يحمونهم ويدعمونهم تحولوا إلى جزارين من الطراز الأول، ولاسيما حين أرادوا أن يجبروا الناس على القول بخلق القرآن.

وهكذا يتحول رجال الفكر الأحرار إلى جلادين مستبدين.

رابعاً ـ هزتني في الكتاب عدة مواقف وقفها الشعب العربي في استنكار الاضطهاد والإرهاب وفي الدعوة إلى حرية الفكر وهذه بعض المواقف:

أ ـ كان الناس يلبسون المصبوغ من الثياب قبل يوم الحرة، فلما قتل الناس بالحرة استحيوا أن يفعلوا ذلك. قال عبد الملك: وحدثني ابن الماجشون عن موسى بن محمد التميمي عن أبيه قال: لقد مكث النوح في الدور على أهل الحر سنة مايهدؤون (ص172).

ب ـ كتب عبد الملك بن مروان إلى عامله على المدينة هشام بن اسماعيل المخزومي: «ادعه (سعيد بن المسيب) إلى مادخل فيه من دخل في هذه البيعة (بيعة سليمان والوليد في آن واحد) فإن أبى فاجلده مائة سوط واحلق رأسه ولحيته وألبسه ثياباً من شعر وأوقفه على الناس في سوق المسلمين، لكيلا يجترئ علينا غيره»… وطيف به محلوق الرأس واللحية حتى إن كانت الدار بالمدينة لتغلق كراهية النظر إليه، إعظاماً له وما سمع فيها إلا البكاء.. ووقف على الناس، فلقد خرجت يومئذ الأبكار من خدورهن، والنساء المتحجبات من بيوتهن،وماسمع يومئذ بالمدينة إلا  نائحة أو هاتف يذكر سعيد بن المسيب… (ص298).

جـ ـ لما ضرب محمد بن المنكدر (وحلق رأسه ولحيته) فزع لضربه أهل المدينة، فاجتمعوا إليه، فقال: لا عليكم أنه لا خير فيمن لايؤذى في هذا الأمر (في الحق). (ص312).

هـ ـ وموقف  الناس مرتين من أحمد بن حنبل حين منعوا عامل طرطوس من ضربه، وحين ضربه المعتصم فاجتمع الشعب على باب الجسر وحالوا بينه وبين الجسر حتى خاف على نفسه وأسمعوه مايكره… وحين هددته خراسان وخرجت عليه اليمن. (436).

وقد مر الخبر في تفصيل قبل قليل.

و ـ رفض أبو مسهر الغساني القول بخلق القرآن، فجروه برجله وطرح في أضيق المجالس (وهو ابن إحدى وتسعين سنة) فما أقام إلا يسيراً حتى توفي فحضر (جنازته) من الخلق بشر لا يحصيهم إلا الله عز وجل…(ص447).

لاشك أن أكثر هذه المواقف كانت مواقف سلبية تعبر عن مشاعر انفعالية مكوبتة، وتكتفي بالبكاء والنواح، ولاتتحول  إلى فعل ثوري إلا في موقف الشعب من ضرب أحمد بن حنبل، ولكنها تبقى مع ذلك مواقف تدل على إنكار الشعب للاضطهاد والإرهاب وعطفه على ضحاياه.

وهذه المواقف الانفعالية في مجملها تفرزها مواقف شعبية أكثر وضوحاً وقوة أحصى بعضها البحاثة العربي الأستاذ هادي العلوي عندما أطلعته على ماذكره منها كتاب المحن.

وهذه بعض المواقف:

ـ دفاع العامة عن بغداد عندما هاجمها طاهر بن الحسين، قائد المأمون، لخلع الأمين (انظر تاريخ الطبري حوادث سنة 197 هـ) وجاء فيه ج8 ص457:

وذكر أن قائداً من قواد أهل خراسان، ممن كان مع طاهر، من أهل النجدة والبأس، خرج يوماً إلى القتال، فنظر إلى قوم عراة، لاسلاح معهم، فقال لأصحابه: مايقاتلنا إلا من أبى، استهانة بأمرهم، فقيل له : نعم هؤلاء الذين تراهم هم الآفة.. ويستمر الطبري في رواية هذه الحكاية التي ينقلب فيها هذا العيار العاري على القائد الخراساني قال الطبري: ثم حمل (القائد) على العيار ليضربه بسيفه، فأخرج (العيار) من مخلاته[5] حجراً فجعله في مقلاع ورماه فما أخطأ به عينه ثم ثناه بآخر فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحاميه، وكر(القائد) راجعاً وهو يقول:

ـ ليس هؤلاء بإنس.

ـ مظاهرات مسلحة للعامة أيام الخليفة المقتدر احتجاجاً على الغلاء فأعفي الوزير وفتحت مخازن الغلال وانخفضت الأسعار.

ـ عامة بغداد يهزمون جيشاً للسلجوقيين.

ـ عامة بغداد يهزمون أول جيش من جيوش المغول.

ـ عندما جيء براس يحيى بن عمر العلوي الثائر إلى بغداد من الكوفة، وكان رأسه مشوهاً بحثت السلطات عن جزار يقور الرأس فلم يجدوه لأن الجزارين أضربوا…

ـ تحرك الفلاحون والمزارعون في طبرستان، واتصلوا بالحسن بن زيد فقادهم في انتفاضة مسلحة انتهت بإخراج الوالي العباسي، واستعاد الفلاحون أراضيهم ومزارعهم.

ـ قامت ثورة شعبية عارمة في (حوض مصر) احتجاجاً على المظالم والضرائب، قادها (أبو الندى) واستمرت الثورة بضع سنين وانتهت بقتل قائد الثورة في الرقة وكان فيها الخليفة الرشيد.

هذه بعض مظاهر إنكار الشعب للمظالم ورغبته في العدل والحرية، ومن الجدير بالذكر أننا اقتصرنا في هذه القائمة على المظاهر الانفعالية والعملية الصغرى، ولم نذكر الحركات الثورية الكبرى التي قام بها الشعب، مثل حركة الخوارج في العصرين: الأموي والعباسي، وحركة بابك الخرمي، وثورات الزنج والقرامطة، والإسماعيلية، هذه الحركات الكبرى التي كان لها دعاتها وقادتها ومبادئها، فقد نشرت أبحاث وكتب عن هذه الثورات ذات اتجاهات متضاربة إلى حد بعيد وأحكام متباينة، ونحن لايهمنا في هذا البحث الحكم على هذه الثورات سلباً أو إيجاباً وإنما يهمنا أن نؤكد أنها كانت ثورات شعبية امتدت فترات طويلة، وأنشأت حكومات عديدة، ومايزال أنصارها وأتباعها يعيشون حتى الآن في بعض الأقطار العربية.

خامساً: دعاني الكتاب دعوة ملحة إلى تبني فكرة إعادة كتابة التاريخ العربي.

صحيح أن أكثر كتب التاريخ العربي كانت تاريخ خلفاء وأمراء وحكام، ولكننا مع ذلك نستطيع أن نعثر على تاريخ الشعب العربي في شتات من الأخبار في كتب التاريخ وكتب الأدب وحتى في الشعر العربي، ومن الممكن، بل من الضروري، أن تجمع هذه الأخبار المبعثرة لصنع تاريخ كامل للشعب العربي[6]. وقد كنت أتمنى لو فطنت إلى ذلك في مطلع شبابي ولكني الآن أنشد ماقاله الخارجي من القعََدة (القاعدين عن القتال):

مل من حمله السلاح إلى الحر   ب فأوصى المطيق ألا يقيما

وأردد ماقاله أحد الحكماء: إنك لاتستحم بالماء الواحد مرتين.

هذه هي النقاط الخمس الكبرى التي أثارها في نفسي كتاب (المحن) للتميمي عند قراءتي له عدة مرات، وأختم كلمتي بهذه النصيحة:

إن النار التي أحرقت أمس الإنسان هي التي صنعت اليوم حضارة الإنسان.

وإن الأغلال التي جثمت أمس على صدر الإنسان هي التي صنعت اليوم حرية الإنسان.

فهل، نحن العرب، على ميعاد مع الحرية؟

ومتى؟

وأشهد أننا احترقنا طويلاً ومانزال نحترق وعانينا كثيراً، ومانزال نعاني.

دمشق 12/12/1988

النهج ـ العدد 25 ـ السنة ـ 6 ـ 1989

 

 

[1]  ـ عن الزركلي في «الأعلام».

[2]  ـ  كلمة يقولها العرب عند الوجع.

[3]  ـ المحن ص349

[4]  ـ جمعت: صليت الجمعة.

[5]  ـ المخلاة، بكسر الميم، في الأصل كيس للعلف يعلق في عنق الدابة وقد يستعمل لأغراض أخرى كما في هذا المثال.

[6]  ـ يثير هذا الموضوع في نفسي حسرة بالغة لأني سلكت في حياتي السابقة سيرة متطفل على العلم لا سيرة عالم، ولوكنت عالماً لبدات بصنع جذاذات حسب الموضوعات لكل ما قرأت من كتب التاريخ والأدب ودواوين الشعر، ولكنب ـ ويا للاسف ـ لم أفعل ذلك، وأنا أوصي كل من يهمه البحث والعلم وأمر نفسه في آن واحد أن يبدأ بصنع جذاذات لكل مطالعاته، هذه الجذاذات التي لايستغني عنها كل مؤلف وباحث.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *